صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 3819 | الثلثاء 19 فبراير 2013م الموافق 19 رمضان 1445هـ

الشيخ عبد الامير الجمري يتحدث عن أولويات العمل الاصلاحي

خطبة الجمعة التي ألقاها سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري
في جامع الصادق 2 مارس 2001

 

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد قال تعالى: (( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم)). هذا النص القرآني المبارك جاء في فريضة الحج، فلنعش على ضوئه في رحاب الحج الإبراهيمي، وموضوع الحج - أيها الأحبة - يأخذ الأهمية الكبرى في حياة المسلم، ويملك أكبر وأعمق التأثير في بنائه وتربيته وسلوكه.

وعبادة الحج قديمة متأصلة في حياة الإنسان الموحّد منذ عهد أبي الأنبياء إبراهيم الخليل (ع) باني البيت الحرام مع ابنه إسماعيل (ع)، ومؤسس الحج والداعي إليه. وقد بقيت هذه العبادة منذ دعى إليها أبو الأنبياء خالدة تعيش مع الزمن وتواكب الإنسان في جميع عصوره، وإن كانت في ظل غياب الرسالة الإسلامية وفي ظل غياب إطروحة السماء قد تشوهت كثيراً بالأفعال الجاهلية كطواف العرب بالبيت عراةً رجالاً ونساءً، والتصفير والتصفيق حالة الطواف، كما سجل القرآن هذه الظاهرة عليهم بقوله تعالى: (( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية)) وقفة مع الحج الإبراهيمي:

إن الحج الإبراهيمي يحمل أكبر الأهداف الدينية اجتماعياً وسياسياً واخلاقياً. وهو الحج المأمور به، أما الحج التقليدي الفاقد لأهداف الحج وأبعاده، أو الذي يكون للنزهة والأنس وترويح النفس، أو الذي يكون للتخلص من ذمّ الناس، فليس هو المراد من المسلم، وكما قال ابو عبد الله حين صعد على الجبل فأشرف فنظر الى الناس فقال: ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج !! ففي أي صنف يود الإنسان أن يكون؟ هل في الصنف الذي يصرخ "لبيك اللهم لبيك" بأعلى صوته دون أن يكون لهذه الكلمات وقعٌ في قلبه وعلى جميع جوارحه فيتقي المحارم ؟! نعم، في الحج إحرامٌ يمتنع فيه عن بعض ما أحل الله ولكن ولاشك هناك إحرام آخر في الحياة ينبغي على الإنسان أن يعيَه إذا رجع من الحج مقبول الأعمال مغفور الذنوب. والامتناع عن المحظورات ليس في الحج فقط، ولكن ما يربي إحرام الحج عليه الإنسان من الامتناع عن كل محرم. أجل والواجبات التي يُلزِم بها الاسلام ليست هي فقط لبس الحجاب للمرأة وعدم الكذب والغيبة فهذه محارم ولكن هناك واجبات أخرى أكبر وأخطر يجب أن يلتفت إليها المسلم كقدسية الموقف ، الموقف من أي قضية سياسيةً كانت أو اجتماعية، مع من يجب أن يكون؟ في صف الخير والحق أو في صف الشر والباطل بغض النظر عما تلبس رجلاً كنت أم امرأة. نعم أيها الأبناء والبنات والأخوة والأخوات إذا سقط واجب الحج عن أي إنسان لعدم استطاعته من أي وجه من الوجوه فإن فلسفة الحج ومفاهيمه لا تسقط عن أحد.

حج أم لم يحج، كان في مكة أم في بيته، طاف حول الكعبة أم طاف على الناس، سعى بين الصفا والمروة أم سعى في قضاء حوائج الناس، يبقى الحج فلسفةً وأحكاماً يعيشها المسلم أينما كان. ((إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)) والحج الإبراهيمي يحقق - كما ذكر بعض علمائنا الأجلاء - قبل كل شيء أمرين أساسين قد تجليا تجلياً رائعاً في حياة أبي الأنبياء (ع) ولأجلهما نُسب الحج إليه (ع):

الأول: إثبات الحاكمية الآلهية في الحياة. الثاني: نفي كل معاني الطاغوتية والتجبّر، وهذان الأمران تثبتهما كلمة التوحيد، قال الرسول الأكرم محمد (ص): (( وأفضل ما قلتُه أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)). والآن يُفضّل أن ترفعوا أصواتكم بالصلاة على محمد وآل محمد.

بعد عودتنا من الحصار الى هذا المكان المقدس تحدثنا في الاسبوعين الماضين عن دعوة أصحاب الكفاءات للانخراط في العملية الاصلاحية واختيار الاسلوب المناسب بعد الدراسة وتدقيق النظر في الظروف الموضوعية للمرحلة السابقة. ولا يفوتني هنا أن أرحب بمن عادوا لأرض الوطن ومن سوف يعودون، وأدعوهم كما دعوت غيرهم للانخراط في العملية الإصلاحية بما يملكون من خبرات يتمتعون بها أو اكتسبوها في زمن الغربة، فالوطن اليوم بحاجة لمثل هذه التغيرات والطاقات.

واليوم نتحدث عن موضوع آخر يعتبر عندي وعند الكثير من العاملين واحداً من أهم وأخطر المواضيع ألا وهو موضوع أولويات العمل الإصلاحي. وتحديد هذه الأولويات يعتمد بالدرجة الأولى على التشخيص، فإذا كان التشخيص ضعيفاً سطحياً أو فئوياً كانت الأولويات تبعاً لذلك إما قاصرة متناقضة أو فوق مستوى الواقع وسيكون مصير أي جماعة أو تيار يتبناها الفشل لا محالة. نعم إذا أرُيد لهذه الأولويات أن تكون صحيحة ومتناسقة فينبغي أن تُلاحظ عدة أمورٌ قد يكون منها:

1) عنصر الشمولية: بعض السياسيين يرى أن أولويات هذه المرحلة ينبغي أن تنصب على الإصلاح السياسي بالنظر للفترة الطويلة التي ظل فيها المجلس الوطني معطلاً والدستور معلقاً، بينما يرى بعض الاقتصاديين أن الاصلاح الاقتصادي ينبغي أن يكون شعار المرحلة القادمة نتيجة للحالة المعيشية التي يعيشها أكثر أو غالبية المجتمع خصوصاً إذا لاحظنا قلة الأجور والبطالة... وفريق ثالث يرى أن كلا الفريقين كان صائباً لكن لا يمكن للإصلاح الاقتصادي أن ينجح إذا لم ترافقه إصلاحات سياسية توفر الاستقرار وتُطمئن المستثمر، فالمال كما يقول الاقتصاديون جبان. إذن عنصر الشمولية ينبغي أن يُؤخذ بعين الاعتبار في أي أولوية يتم تحديدها لأي برنامج عمل على الصعيد الحكومي أو الشعبي.

2) الوحدة ا لوطنية والإسلامية: أقول في هذه النقطة إن الطائفيين سواءً كانوا سنةً أو شيعةً مهما تحدثوا أو ذكروا من أدلة أو أحداث لدعم اطروحاتهم الطائفية المريضة فإن النتيجة والمحصلة دائماً أن نجاحهم في هذه الاطروحات لا يأتي إلا على حساب الوطن والذي ينبغي أن يكون خطاً أحمرَ على الجميع أن يجتنبوه وإن حصلوا على بعض المكاسب الآنيّة هنا أو هناك. ونحن هنا في هذا البلد سنةً وشيعةً عشنا جميعاً إخوةً متحابين وإن حاول البعض في بعض الفترات تعكير ذلك الصفو بتخويف أو تغليب فئةٍ على فئة من أجل أهداف لم تعد خافية على الجميع. نعم فالإنجازات التي تحققت على صعيد الوطن بصورةٍ عامة ما كانت لتكون لولا ذلك التفاهم والتجانس بين جميع الأطراف. وعلى هذا الأساس فإن أي برنامج عمل لأي جماعة أو تيار حكومي أو شعبي سيكون مصيره الفشل إذا لم تكن الوحدة الوطنية والإسلامية ركيزة وأولية من أوليات دائمة لأن مصلحة الوطن ينبغي أن تكون مقدمة على مصالح الأفراد والجماعات.

3) الالتزام بالقوانين والتشريعات: لا يمكن لأي جماعة أو تيار يعيش في بلد يحكمه دستور ارتضاه الجميع ثم يتبنى أو يدعو بدعوات على الأرض تخالف مواد ذلك الدستور فهذا تناقض، كذلك لا يمكن لأي جماعة أن تنجح في عملها إذا تبنت برامج تتعارض مع الدين الإسلامي لسبب بسيط وهو أن هذا البلد شعبه ارتضى الإسلام ديناً وأسلم طواعية منذ البداية وإن القيم الروحية حاكمة على سلوكياته.

4) الشفافية واحترام الرأي الآخر: لا يمكن الوصول الى النتائج المرجوة إلا بإعلان البرامج والخطط بصورة علنية تسمح للرأي الآخر بالاعتراض والنقد بحرية تامة بلا تهميش ولا إبعاد لجميع الأطراف التي قد تتفق في نقطة وتختلف في أخرى فهذا الاسلوب في النهاية يصب في مصلحة الوطن والمواطنين. هذا العنصر ينبغي الالتفات اليه عند تحديد الأولويات فليس هناك أولويات مقدسة لا يمكن نقاشها أو رفضها إلا تلك الأولويات التي تستمد قدسيتها من قوة المنطق والدليل.

هذه بعض العناصر المهمة التي ينبغي أن تُؤخذ بعين الاعتبار حين يتم دراسة وتحديد أولويات العمل خصوصاً في هذه المرحلة الحساسة التي تعتبر في الحقيقة على الصعيد الرسمي والشعبي مرحلة التأسيس والتفعيل. فعلى الصعيد الرسمي يجري الحديث عن التفعيل وتم فعلاً تشكيل لجنتي تعديل الدستور وتفعيل الميثاق، وعلى الصعيد الشعبي يجري الحديث عن التأسيس تأسيس مؤسسات المجتمع المدني، والمناخ الذي يسود البلد في هذه الأيام ولاشك مناخ صحي يشجع دفع العملية الإصلاحية للأمام.

فتصريح سمو الأمير - حفظه الله - في لقائه الشعبي بمدينة حمد يوم الأربعاء 28/2/2001م أصاف لبنةً أخرى في تهيئة هذا المناخ حين دعا بالحرف الواحد "الى رص الصفوف والتقاء الارادات الوطنية الحرة لمواصلة مسيرة العمل الهادف نحو ما توفقنا عليه من تفعيل الدستور وإعادة الحياة النيابية وتحقيق الإصلاح".

وكذلك لقاءات سمو ولي العهد بنادي الخريجين وجمعية المحامين لمعرفة ما يريده الناس من لجنة الميثاق الوطني، هي في الحقيقة خطوةٌ ملفتة تفتح قنوات الاتصال. ولعل مباركة رئيس الوزراء الموقر لخطوة تأسيس جمعية حقوق الإنسان والتي تعتبر الآن أو جمعية مستقلة غير حكومية أنشأت في هذه المرحلة علامةٌ بارزة تفتح الطريق أمام بقية مؤسسات المجتمع المدني للظهور العلني بهدوء. فلقد قلت في الجمعة الماضية أن أول ما يميز المرحلة القادمة هو تفعيل دور المؤسسات لا الأفراد. فالحكومة يمكن أن تتعرف على آراء الناس أفراداً من خلال اللقاءات ولكن لا يمكن لها أن تحصل على دراسات دقيقة ومتخصصة إلا إذا كان للرأي الآخر مراكز يجتمعون فيها بصورة علنية يمارسون نشاطاتهم ضمن إطار القانون. طبعاً نحن لا نتحدث عن أي جماعة و لا نتحدث جزافاً ولذلك تحدثنا عن الأولويات المطلوبة في هذه المرحلة وتبادل الآراء حول القضايا المختلف عليها للوصول للأهداف المرجوة بلا إرباك.

وعلى هذا الأساس حين أُعلن عن لجنة تعديل الدستور تحركنا لمعرفة آلية هذه اللجنة وسقف عملها ومازلنا نبحث هذا الموضوع مع المسئولين، ونحن نأمل أن الأمور بالنتيجة سوف تصب في ما يلائم مصلحة هذا الشعب ويقود السفينة إلى شاطئ الأمان. أسأل الله أن يوفق الجميع للتعاون من أجل مصلحة الوطن والتي هي في النهاية مصلحة الجميع.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/740667.html