صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4166 | السبت 01 فبراير 2014م الموافق 19 رمضان 1445هـ

الحديث الأول لعاهل البلاد... ذكريات حلم بدأ يتحقق

"ليست هذه السلسلة من الأحاديث سيرة ذاتية، أو مذكرات شخصية، بقدر ما هي علامات ووقفات على طريق تكوين وعينا الوطني، على الصعيد الخاص والعام، باتجاه بلورة رؤيتنا السياسية التي استند إليها مشروع الإصلاح والتحديث الشامل وكانت في صلب الأسس التي توافقنا عليها معا والتي نتطلع إلى أن تدخل في صياغة مواد التربية الوطنية أو ما يماثلها في مناهجنا التربوية".

هكذا أوضح عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة دوافع حديثه الأول "حلمت بوطن يحتضن كل أبنائه" ملقيا الضوء على خلفيات تجربته الشخصية وتفاعلها مع تجربة البحرين التاريخية والوطنية. فصاحب الجلالة يتذكر تلك "الساعات الأولى من صباح الرابع عشر من شهر فبراير/ شباط العام 2001" حين كان البحرينيون "رجالا ونساء، يتقاطرون إلى مختلف مراكز التصويت في البلاد، بعد توقف عن مثل هذه الممارسة الانتخابية استمر لنحو ربع قرن". كان المطروح في تلك "الساعات الأولى" على الاستفتاء الشعبي العام "مشروع ميثاق العمل الوطني" الذي يمثل "صيغة تعاقدية متجددة لعودة الحياة الدستورية والديمقراطية في ظل مؤسسة برلمانية بمجلسين". ويتابع جلالة الملك في حديثه الأول "وما ان جاء مساء ذلك اليوم" حتى وافقت نسبة 98,4 في المئة على تفعيل الدستور وعودة الحياة البرلمانية في المملكة. وجاءت تلك الغالبية الساحقة "بمشاركة مختلف الأطياف السياسية". فالميثاق وبنود "الدستور المعدل" هو "بمثابة الضمانات والضوابط التي فكرت فيها مليا لسنوات في سبيل تجديد المسيرة الديمقراطية والدستورية" آملا "أن تترسخ من خلال هذه الأحاديث دروس التجارب التي مررنا بها".


 

جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة يكتب "أحاديث في الوعي الوطني":

حلمت بوطن يحتضن كل أبنائه

تتطلب انطلاقة المشروع الإصلاحي وعيا وطنيا يرشد مسيرته. وتخليدا لاستفتاء شعب البحرين على ميثاق العمل الوطني يدشن صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة هذه الاحاديث في الوعي الوطني بحديثه الأول "حلمت بوطن يحتضن كل ابنائه" ملقيا الضوء على خلفيات تجربته الشخصية وتفاعلها مع تجربة البحرين التاريخية والوطنية مما لم يتضح كاملا للعيان من قبل، بما يجسد دور القائد في الأمة، واثر الأمة في تكوين القائد.

حمد بن عيسى آل خليفة

منذ الساعات الأولى من صباح الرابع عشر من شهر فبراير/شباط العام 2001 كان البحرينيون، رجالا ونساء، يتقاطرون إلى مختلف مراكز التصويت في البلاد، بعد توقف عن مثل هذه الممارسة الانتخابية استمر لحوالي ربع قرن، هذا بالنسبة للرجال. اما نساء البحرين فإنها المرة الأولى لهن منذ أن كانت جداتهن يصوتن في أول انتخابات بلدية في منطقة الخليج خلال عشرينات القرن المنصرم. غير أن التصويت هذه المرة كان على ما هو اهم من الشئون البلدية. فقد كان المطروح للاستفتاء الشعبي العام مشروع "ميثاق العمل الوطني" الذي يمثل صيغة تعاقدية متجددة لعودة الحياة الدستورية والديمقراطية في ظل مؤسسة برلمانية بمجلسين، استفادة من التجارب المستجدة للنماذج العالمية في هذا الحقل وضمانا لسير التجربة المتجددة في البحرين، في ضوء دروس الماضي القريب الذي كنا على ثقة اننا سنستفيد منها عندما تحين اللحظة المناسبة.

عندما اصدرنا كتاب "الضوء الأول" - في العام 1986م - اشرنا إلى تجربة البحرين: "لاختيار نظام سياسي للمشاركة في اتخاذ القرار، فخرجت منها بدستور اقره مجلس وطني قائم على مبدأي الانتخاب والتعيين "1973". ثم مرت البحرين بتجربة برلمانية استفادت منها، وسوف تستفيد منها كذلك لمستقبل نظامها السياسي في المشاركة والشورى..." صفحة .113

ويسعدنا اننا بدأنا في تحقيق هذا الوعد وانجاز هذا التطلع بعد 15 عاما من تاريخه مع طرح مشروع "الميثاق" على الاستفتاء الشعبي العام في البلاد، رغم المحاذير التي كانت تتردد، ونشوء جيل بحريني جديد لا خبرة له في التقاليد الانتخابية. والواقع أني اعتمدت أولا وأخيرا على الله سبحانه، ثم على ثقتي بوعي شعب البحرين وتحضره ونضجه السياسي واتخذت شخصيا قرار المسئولية التاريخية، بإجراء هذا الاستفتاء الحر للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة، وهو استفتاء لا سابق له في تاريخنا السياسي ظلت التوقعات المترددة والمتخوفة حياله متداولة حتى اللحظات الأخيرة لإجرائه. إلا أن جميع اجيال البحرين أثبتت في ذلك اليوم الربيعي المبكر من شهر فبراير 2001 انها جديرة بالثقة، وانها عند حسن الظن، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، يمينا ويسارا وحتى المسنون والعجزة أصروا على ممارسة حقهم وواجبهم الديمقراطي من بيوتهم، وكان لهم ما أرادوا باتخاذ التدابير القانونية اللازمة رغم ان قانون التصويت قد نص على حضور المشاركين إلى مراكز الاقتراع. وستبقى حية في وجداني صورة بعض امهاتنا من السيدات المسنات وهن يأتين على مقاعد متحركة إلى تلك المراكز، كما لن انسى تلك المكالمة الصباحية التي جاءتني من شاعر البحرين الكبير الاستاذ ابراهيم العريض، رحمه الله، الذي أبدى رغبته في التصويت على الميثاق من منزله لصعوبة تحركه صحيا، وقد كان ابراهيم العريض رئيس المجلس التأسيسي الذي وضع مشروع الدستور غداة الاستقلال ولمست في كلماته مدى التفاؤل والفرح بتجدد الحياة الدستورية في البحرين.

وما أن جاء مساء ذلك اليوم حتى كانت أكبر كتلة انتخابية بين بلدان الخليج العربية وهي الكتلة الانتخابية البحرينية قد شاركت في التصويت، بانضباط متحضر هو من خصائص شعب البحرين، وذلك من أجل تفعيل الدستور وعودة الحياة البرلمانية في المملكة بغالبية ساحقة بلغت نسبة الموافقين فيها 98,4 في المئة وبمشاركة مختلف الأطياف السياسية، بعد أن اتيح للجميع مناقشة فكرة الميثاق في ندوات سياسية مفتوحة وصريحة هي الأولى من نوعها في البلاد منذ عقود، ومداولات لجنة صياغة مشروعه من كافة الشخصيات والفعاليات الوطنية، وذلك بعد أن تشاورت شخصيا مع ممثلي قطاعات المجتمع المدني البحريني بهذا الشأن، ولمست مدى الاستعداد الوطني للمشاركة في التجربة المتجددة، الأمر الذي مثل ليس صيغة تعاقدية اشمل فحسب - بعد كثافة التصويت الشعبي الشامل على الميثاق - وانما بيعة متجددة، وتفويض وطني لنا بقيادة المسيرة إلى آفاقها الجديدة.

وليست هذه السلسلة من الاحاديث سيرة ذاتية أو مذكرات شخصية بقدر ما هي علامات ووقفات على طريق تكوين وعينا الوطني، على الصعيد الخاص والعام، باتجاه بلورة رؤيتنا السياسية التي استند اليها مشروع الإصلاح والتحديث الشامل وكانت في صلب الأسس التي توافقنا عليها معا والتي نتطلع إلى ان تدخل في صياغة مواد التربية الوطنية أو ما يماثلها في مناهجنا التربوية.

وأول علامة فارقة، بطبيعة الحال، هي الميلاد والنشأة الأولى. كان ذلك في منتصف القرن العشرين. وتاريخ الميلاد تحديدا هو 28 يناير/ كانون الثاني .1950

لم يكن زمنا سهلا. كان مثقلا بالاحداث الجسام والانعطافات الحادة. ولم يسمح بطفولة متريثة غافلة، بل اوجد لدي وعيا مبكرا بحقائق الأشياء في سن مبكرة. وكانت أوساط العائلة - كواحدة من ابرز العائلات القيادية التاريخية في خليجنا وعالمنا العربي - تحمل ذاكرة مفعمة بالاحداث الحلوة والمرة، لم يكن أقلها من تلك الذكريات المرة كيف عمل الوجود الأجنبي على تقليص مقومات استقلال الوطن، وعمل باستمرار وعناد على "ابعاد" كبار القادة الذين تمسكوا بالاستقلال إلى خارج البلاد منذ القرن التاسع عشر مثلما ابعد معهم الوطنيين المخلصين الذين كانوا يعملون في سبيله، وبالتعاون مع الحكم الشرعي في وطنهم.

هكذا تركت فكرة "الابعاد" عن الوطن من قبل الأجنبي اعمق آثار الألم في النفس منذ الطفولة وقد تعمق لدينا هذا الألم شخصيا وإنسانيا عندما ادركنا في سن مبكرة أيضا ان جدنا من ناحية الأم الشيخ سلمان بن ابراهيم آل خليفة تم نفيه مع والده كذلك من البحرين إلى قطر إذ ولدت الوالدة الكريمة هناك بعيدا عن الأسرة وشمل الأهل. ما غرس في النفس البذرة القوية للنفور من إجراءات الابعاد، والتي لم يماثلها قوة لدينا ويخفف من آثارها غير الفرح والارتياح الناجم عن عودة كل مبعد إلى وطنه. وعندما حانت لحظة القرار بتولينا المسئولية الأولى في البلاد، كان من أول ما بادرنا اليه عودة جميع المبتعدين البحرينيين سياسيا إلى بلدهم وأهلهم، أيا كانت الاعتبارات والملابسات السياسية والقانونية التي أدت إلى ابتعادهم في ظل مبدأ وقانون العفو العام. إذ سيبقى من أجمل ما قيل في أدب الأوطان: "الوطن... هو هذه العودة المنتظرة... بعد الاغتراب". ويقيني ان حرصي على تقليص أيام بعدي عن البحرين، في الخارج في أية سفرة أو اجازة، مرده هذا الشعور العميق الذي تأصل في النفس منذ الطفولة.

كان قرارنا هذا بانفتاح صدر الوطن لكل ابنائه بلا استثناء، أملا عزيزا راودنا منذ عهد الصبا، ومبادرة لتصحيح مسار تاريخنا الوطني. ونحمد الله ان وفقنا اليه، فقد كان أيضا حلما راود الآباء والاجداد الذين أوصونا باتخاذه في اللحظة المناسبة - بالاخص والد الجميع المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه - وذلك بعد أن حققوا هم هدف الصمود على أرض الوطن يدا بيد مع أبناء شعبهم، بالصبر والحكمة والاحتمال الطويل، للتدخلات والضغوط الأجنبية.

وللتاريخ، فإن القوة الأجنبية التي هيمنت على البحرين والخليج جاءت لمصالحها الحيوية لكن بعض ممثليها عملوا على تطوير الإدارة المحلية وإرساء الأمن في المنطقة الذي استفادت منه شعوبها أيضا في التعليم والتنمية والانفتاح على العصر. وقد أبدى أسلافنا حكمة تاريخية بالغة في التعامل مع هذه القوى من باب مرونتهم العربية والإسلامية في الانفتاح على الحضارات الأخرى. وذلك ما ساعد بلادنا على أن تكون اليوم نموذجا للتعايش.

وكان منتصف القرن العشرين "1950" لدقته وحساسيته قد جمع للمفارقة، في الداخل والخارج، بين اروع الأوقات وأصعبها.

فمن ناحية كان زمنا رائعا حمل التطلع إلى التحرر والبناء ومواصلة التنمية والنهضة التي كانت البحرين رائدتها في هذا الجزء من الوطن العربي والعالم. لكنه كان، من ناحية أخرى، مشوبا بالصراعات السياسية والتقلبات المفاجئة والبدائل الايديولوجية المتضادة.

كان زمن "الحرب الباردة" - بامتياز - كما اصطلح كبار العالم على تسميته. وسرعان ما كانت هذه الحرب تلد حروبا ساخنة على امتداد عالمنا من فلسطين إلى كوريا.

عندما كنت أعود إلى عام الميلاد "1950" بعد تنامي الوعي المبكر بالاحداث، كنت اجد العالم قد شهد أول ضربة نووية في اليابان قبل خمس سنوات من تاريخه "1945"... مع استمرار السباق النووي الذي يكاد اليوم ان يصل إلى داخل حوض الخليج، وقبل سنتين من ذلك التاريخ "1948" كانت نكبة فلسطين بكل ابعادها على العرب وشعوب المنطقة ومازالت جرحا مفتوحا. لكني أجد في الوقت ذاته أن جامعة الدول العربية قد تأسست أيضا قبل خمس سنوات "1945" أملا في تعاون عربي اوثق، وان شرعة حقوق الإنسان قد أعلنتها هيئة الأمم المتحدة قبل سنتين "1948"، بما يجدد الأمل في مستقبل إنساني أفضل وما باشرنا بترسيخه وتعزيزه على أرض البحرين.

وعلى صعيد البحرين الداخلي كانت حركة التنمية الشاملة تكتسب زخما متزايدا بقيادة المغفور له الجد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، بعد نجاح المشروع التربوي الرائد منذ تأسيس مدرسة الهداية الخليفية ونظائرها من مدارس البحرين الحديثة في عشرينيات القرن المنصرم، يدا بيد مع مشروع تحديث الدولة والإدارة في عهد المغفور له الجد الأكبر الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، إذ استفادت البلاد من فترة الاستقرار السياسي والأمني طوال عهد المغفور له، جد الجميع، الشيخ عيسى بن علي مؤسس البحرين الحديثة، الذي قاوم الهيمنة الأجنبية باصرار، واستطاع بالتعاون مع أبناء شعبه افشال المخطط الاستعماري لجعل البحرين مستعمرة. وان يكن في النهاية قد تحمل نتيجة هذا الموقف المشرف، علما انه قد بدأ حكمه ببيعة مجمع عليها شارك فيها أهل الحل والعقد في البحرين وتعرفها القوة المسيطرة جيدا.

هذا ومنذ الخمسينات، التي تعيها ذاكرة الصبا ووعيه المبكر، والبلاد تشهد اعدادا متزايدة من المتعلمين والمهنيين والكوادر القيادية الشابة من أبناء البحرين وبناتها، والتي بدأت تتخرج من مختلف جامعات العالم طبقا لسياسة الانفتاح التعليمي التي نهجتها البحرين من البداية، وكان من الطبيعي ان تترافق تطلعات التنمية التعليمية والاجتماعية والاقتصادية الآخذة في التحقق، مع تطلعات التنمية السياسية التي نعمل اليوم على استكمالها في ظل مؤسساتنا الدستورية.

هكذا، منذ وقت مبكر، كنت على موعد مع تطلعات الوعي الوطني في استكمال الاستقلال والشروع في حياة المشاركة والشورى واستطعت ان أتلمس الكثير من دروس تجاربنا السياسية قريبها وبعيدها، ولابد من الإشارة هنا إلى أني اعدت التأكيد مرارا في الاحاديث الموجهة إلى المواطنين، وفي أكثر من مناسبة، إلى أنه "لا عودة للماضي" "ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء".

قصدت بذلك إلى انه لابد من وضع الضمانات، واتخاذ ما يلزم من احتياط، لعدم عودة الوطن إلى تلك التجارب المرة والطرق المسدودة التي اعاقت المسيرة، وابعدت البحرين عن ريادتها ومسارها التطوري والتقدمي الذي تميزت به بين دول المنطقة منذ مطلع النهضة.

جاء "ميثاق العمل الوطني" ثم بنود "الدستور المعدل" الذي صدر بناء على التعاقد المتجدد والتفويض الشعبي المتمثل في الاستفتاء العام على مشروع "الميثاق"، بمثابة الضمانات والضوابط التي فكرت فيها مليا لسنوات في سبيل تجديد المسيرة الديمقراطية والدستورية مع تجنب عثرات الطريق التي واجهت التجربة الأولى، ولا بد للشعوب الذكية ان تستفيد من تجاربها كي لا تعيد اخطاءها وثقتي ان شعب البحرين هو واحد من هذه الشعوب.

آملا ان تترسخ من خلال هذه الاحاديث دروس التجارب التي مررنا بها، وذلك لصالح المسيرة المتجددة واثراء للمكتبة الوطنية في البحرين التي نثق بغناها وعمق تجربتها واكتمال رشدها السياسي، مع التطلع، في الوقت ذاته، إلى ما يمكن أن تضيفه العقول الوطنية في البلاد من اضافات تنير المسيرة، راجين ان يكون في هذه الاحاديث التي أردناها عفو الخاطر ومن القلب ما يفتح المجال لمثل هذه الاضافات والحوارات المتجددة، والله من وراء القصد.

 

 

المصدر: صحيفة الوسط البحرينية
بتاريخ: 9 فيراير 2005


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/853230.html