العدد 1085 - الخميس 25 أغسطس 2005م الموافق 20 رجب 1426هـ

لندن عاصمة دولية... ولكن هناك أكثر من لندن واحدة

بعض من سنوات الحركة الإسلامية الشيعية في البحرين...

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

مازالت فترة الثمانينات من القرن الماضي تستحوذ على الكثير من الاهتمام وهي غير موثقة تاريخيا بشكل واف، وبالتالي فإن الحديث عن التسعينات من دون مزيد من تفاصيل العقد الذي سبقها قد يؤدي إلى سوء فهم. فالثمانينات كانت سنوات الحركة الإسلامية التي بدأت تنتشر في كل مكان بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. والإسلاميون الذين نشطوا قبل انتصار الثورة الإيرانية كانوا يعملون ضمن دوائر معينة ومحدودة ولم يكن الشارع السياسي معهم. أما بعد الثورة الإيرانية فقد تحول الشارع السياسي في كل البلدان نحو الحركة الإسلامية بمختلف أشكالها، وبغض النظر عن موقف هذه الحركة أو تلك من الثورة في إيران. وخلال هذه الفترة ظهرت عدة مناطق كمراكز للنشاط المؤثر عالميا، ومن أهم تلك المناطق مدينة لندن "عاصمة المملكة المتحدة" لأنها المدينة التي تجمع كل القوميات وكل الاتجاهات وقوانينها تفسح المجال للتعبير عن الرأي بشكل واسع لم يتأثر إلا أخيرا بعد انتشار ظاهرة الإرهاب. وحتى مع التضييق الأخير على النشاطات، فإن لندن تبقى أهم مدينة عالمية لكل من يود أن ينشط بصورة سياسية ويوصل رأيه إلى مختلف أنحاء العالم.

لندن كانت هكذا منذ مئات السنين، ففي العام 1695 صدر قانون إنجليزي يضمن "حرية التعبير"، ومفكرو الثورة الفرنسية التي انتصرت في العام 1789م كانوا يتخذون من لندن مقرا لإصدار كتبهم ومنشوراتهم، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحركة الاشتراكية في منتصف القرن التاسع عشر، وحتى كارل ماركس وصديقه فريدريك انغلز كتبا أهم الكتب والبيانات الشيوعية والاشتراكية ووزعاها من لندن.

البحرينيون الذين تحركوا سياسيا من لندن لم يكونوا هم أول من فعل ذلك. ففي نهاية الخمسينات تحرك عدد من الطلاب البحرينيين للدفاع عن قادة "هيئة الاتحاد الوطني" الذين تم اعتقالهم ونفيهم إلى جزيرة "سانت هيلانة" النائية، وبسبب ذلك التحرك تم الإفراج عن عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات، وعوضتهم الحكومة البريطانية عن الحكم الجائر الذي صدر ضدهم.

لندن... منطلق التحرك

بدأت التحركات في لندن تنشط في عقد الثمانينات من قبل المجموعة البحرينية اللندنية باسم حركة أحرار البحرين. هذا التحرك فرضته الحوادث أكثر من كونه قرارا تنظيميا. ولتوضيح المعنى وبعض الخلفيات سأتطرق إلى قضايا عاصرتها بنفسي على أن أخرج منها وأركز على الجانب التحليلي الموضوعي.

عندما بدأت أجهزة الأمن البحرينية في مطلع الثمانينات في اعتقال الناشطين، كنت ادرس في لندن حتى العام 1981 وكنت مع الاصدقاء نبحث عن وسيلة لإيصال قضيتهم. بعد ذلك انتقلت إلى الدراسة في اسكتلندا "شمال بريطانيا" وكنت أعيش في مدينة "غلاسغو"، ولكني كنت ايضا أسافر شهريا أو كل شهرين إلى لندن لأمضي عددا من الأيام في "رابطة الشباب المسلم" التي كانت تحتضن الناشطين من الطلاب والشباب.

آنذاك كنت أحد المسئولين الإداريين عن المجلة الفكرية التي بدأت الرابطة في إصدارها في العام 1979 باسم "طريق الحق"، وكان يرأس تحريرها شخص عراقي فاضل في العطاء الفكري اسمه زهير الأعرجي. وكان من بين التزاماتي ترتيب أرشيف المجلة، ومن بين الكتب التي وقعت في يدي كتاب أصدرته مجموعة من اليساريين البريطانيين في السبعينات عن الدول الخليجية، ويحتوي على فصل كامل عن البحرين. الكتاب عبارة عن تقرير باللغة الإنجليزية أعدته مجموعة بريطانية دفاعا عن اليساريين في الخليج والجزيرة العربية الذين كانوا يضربون في عدد من الدول آنذاك، وكان التقرير قد أعد للتوزيع على منظمات حقوق الإنسان، وأهمها "منظمة العفو الدولية".

الجزء المكتوب عن البحرين كان بأسلوب جميل جدا، ومن كتبه لم يكن فقط متمكنا من اللغة الإنجليزية، وإنما كان يعرف أيضا قواعد السياسة بشكل دقيق. وقد أصبح هذا التقرير من أهم المواد التدريبية بالنسبة إلي، وتقريبا كنت قد حفظت التقرير الصادر عن البحرين عن ظهر قلب، واستفدت منه كثيرا في مخاطبة الجهات الحقوقية لاحقا مع إخواني الذين عملت معهم.

برزت الحاجة بالنسبة إلي شخصيا لكتابة التقارير التوثيقية باللغة الإنجليزية في نهاية العام 1983 ومطلع العام 1984 عندما بدأت أجهزة الأمن البحرينية باعتقال كوادر حزب الدعوة الإسلامية. كنت في مدينة "غلاسغو" التي تبعد مسافة أكثر من خمس ساعات بالقطار، وأكثر من ثماني ساعات بالسيارة. ولكن في هذه الفترة أصبح الأرشيف الذي أسسته المجموعة اللندنية أكبر ومتخصصا فقط عن البحرين. فلقد التفتت المجموعة إلى أهمية الوثائق المتوافرة في العاصمة البريطانية عن البحرين، بالإضافة إلى تلك المتوافرة في بلدان أخرى. وقامت المجموعة بجمع وشراء أي كتاب، أو تصوير أية وثيقة عن البحرين تسمع عنها. وفعلا تكون للمجموعة أرشيف مهم جدا عن البحرين، وكنت مسئولا عنه وأحافظ عليه لسنوات طويلة.

في مطلع العام 1984 زادت الاعتقالات داخل البحرين وبدأت أسماء عدد من الأصدقاء تردنا... "اعتقلوا فلانا اليوم"... و"اعتقلوا ثلاثة آخرين اليوم"، إلخ. كنت قد خططت للسفر إلى لندن، ولكن كان أمامي متسع من الوقت، فقررت أن أتحرك في مدينة "غلاسغو" لإبراء ذمتي، وخصوصا أن ضميري لا يقبل أن أعيش في الأمن بينما الأصدقاء يؤخذون إلى السجون يوميا. أخرجت دليل الهاتف التابع للمدينة واستخرجت عناوين وهواتف الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان. انطلقت إلى تلك العناوين لأكتشف أنها كانت عبارة عن شقق لنشطاء حقوقيين يجتمعون بين فترة وأخرى لتداول موضوعات حقوقية تعنى بكثير من الأمور. ولكن أحد العناوين كان لمكان تجاري، أشبه بالدكان ولكنه مملوء بالصور واللوحات الفنية التي تتحدث عن حقوق الإنسان وعن السلام وضرورة نزع السلاح النووي... إلخ.

دخلت ذلك الدكان، واستقبلني ثلاثة أشخاص يسألونني إذا كنت سأشتري إحدى اللوحات أو أحد الكتب. ولكنني قلت لهم: "أريد أن أعرض عليكم قضية من قضايا انتهاكات حقوق الإنسان تحدث حاليا في البحرين". رحبوا بي، ودعوني إلى مكان إعداد الشاي في مؤخرة الدكان. وبينما كان أحدهم يحضر لي الشاي كنت أشرح للآخرين ما أردت أن أوصله إليهم... وبعد أن استمع الجميع بإصغاء المتعاطف، طلبوا مني وثيقة او بيانا صادرا باللغة الإنجليزية، وهكذا كان علي أن أعد أول تقرير مفصل باللغة الإنجليزية عن الوضع في البحرين.

لم أضع الوقت، ذهبت إلى وثائقي، وبدأت في صوغ بيان مفصل يشرح كل ما أردت أن أقوله، ووقعت البيان باسم لم يكن موجودا وهو "اتحاد طلاب البحرين". أخذت البيان المكتوب باليد إلى مطبعة متخصصة "إذ لم يكن حينها تتوافر المعدات المتوافرة في المنازل هذه الأيام"، وأخرجوا لي البيان بشكل راق، وهرعت به إلى الجماعة نفسها التي طلبته مني...

قرأوا البيان وقرروا أن يتحركوا ضمن دائرتهم لإخبار أصدقائهم. ولكن وبعد الحديث معهم قالوا لي: "نحن نؤيد كل قضايا حقوق الإنسان وسنناصركم، ولكن تأثيرنا منحصر في مدينة غلاسغو فقط، وإذا كنت تود أن يكون تأثيرك أكبر وعلى مستوى دولي، فعليك أن تذهب إلى لندن، وتعمل من خلال المؤسسات التي تعمل على المستوى الدولي".

مثل هذه الحادثة غيرت كثيرا من انطباعاتي وأفكاري عن البريطانيين. فحتى ذلك الوقت كان الإسلاميون يقولون إن "مصدر الشر" في العالم هي بريطانيا، وإن البريطانيين "يضحكون في وجهك ولكنهم يغدرون بك من خلفك"... ولكنني وجدت شعبا طيبا ومساندا للقضايا التي لا تربطهم بها سوى مشاعر الإنسانية. ثم إن البريطانيين الذين يساعدونك في مثل هذه الأعمال لا يقبلون بتسلم أي مال، بل إن ذلك يعتبر إهانة لهم. وفي كل مرة اتحرك حقوقيا أكتشف الجوانب المشتركة بين الذين يؤمنون فعلا بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكيف أنهم يطبقون مقولة الفيلسوف الفرنسي فولتير "أختلف معك، ولكنني سأدافع عن حقك في التعبير عن رأيك". وفولتير الذي توفي قبل انتصار الثورة الفرنسية كان عاش عدة سنوات في المنفى في لندن.

البريطانيون أيضا يتحدثون عن أمر ملازم لحقوق الإنسان، وهو "التسامح" من أجل بناء الأوطان، لأن النزاع المستمر من دون تنازل يؤدي إلى ضياع الحقوق وضياع السلام. وربما هذا ما يمكن قراءته في تاريخهم الحافل بالنضالات من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية، ولكنه أيضا يحتوي على تنازلات وتسامح بين الأطراف.

لندن ولندن ولندن...

هناك عشرات الأنواع من لندن، إن لم يكن المئات. فكل زاوية من لندن تختلف عن الأخرى، وفي كل زاوية يمكن لهذه المجموعة أو تلك أن تخلق أجواءها الخاصة بها وتطلق عليها اسم "لندن". فالإسلامي يمكن أن يجد "لندن الإسلامية" واليساري سيجد "لندن اليسارية"، وأصحاب الهوايات المختلفة سيجدون "لندنهم" الخاصة بهم، ومن يود اللعب والقمار سيجد له "لندنه"... إلخ. لندن أيضا قد يضيع فيها الشخص، وكثير من الأفراد يذهبون إلى لندن ويعيشون السنوات الطوال ويخرجون منها "صفر اليدين". البعض يذهب إلى لندن ويعرف ماذا يريد منها ويتخرج منها بأفضل مستوى يسعى إليه وفي المجال الذي يحبه، سواء كان على مستوى التخصص أو على مستوى الاتجاه الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي. وعلى أساس ذلك، فإنك لو سألت عشرة أشخاص عاشوا في لندن فلربما تحصل على عشرة نماذج من لندن كل واحد منها يختلف عن الثاني. ولأن المجموعة البحرينية اللندنية أصبح لها نفوذ في الحياة السياسية البحرينية، فإنه من المناسب ذكر بعض الأجواء التي مرت بها هذه المجموعة خلال سنوات نشاطها وبدايات ظهورها.

في العام 1979 بدأ حزب الدعوة "بمختلف فروعه" يتحرك ضد الحكومة العراقية، بصورة سرية في بادئ الأمر، وثم بصورة علنية بعد إعدام السيد محمدباقر الصدر في أبريل/ نيسان .1980 وعندما بدأ يتحرك الحزب في لندن أخذ يقلد الإيرانيين ويمارس أنشطتهم نفسها. فالطلاب الإيرانيون كانوا يعملون من خلال اتحاد طلابهم "أنجمن" في جميع عواصم العالم. وفي لندن كانوا يخرجون في مظاهرات واعتصامات ويملأون جدران قطارات الأنفاق "المترو" بالشعارات المعادية للشاه. كوادر حزب الدعوة "ومن بينهم البحرينيون" بدأوا يقومون بالأعمال نفسها، إذ أخرجوا أول مظاهرة ضد نظام حزب البعث في لندن في أبريل ،1979 وبعد ذلك وزعوا الشباب على قطارات الأنفاق "المترو" لكتابة شعارات ضد نظام حزب البعث.

ثم كان الشباب يتوزعون كل يوم جمعة على مساجد لندن الرئيسية لتوزيع المنشورات المعادية لنظام حزب البعث العراقي. وكان العراقيون "في الغالب" يتحاشون القيام بمثل هذه الأعمال "لأن صدام سيعدم كل أهاليهم إذا كشفوا عن هويتهم"، على حد تعبيرهم.

وفي أحد أيام الجمع، كنت مع أحد الإخوة البحرينيين نوزع منشورات ضد نظام البعث العراقي في الجامع المركزي في لندن "ريجنتس بارك"، وكان ذلك في 11 ابريل .1980 مر علينا شخص له هيبة كان قد أنهى صلاة الجمعة وخرج مع المصلين إلى خارج المسجد متجها نحو الباب الرئيسي. الأخ البحريني الذي كان معي سلمه مجموعة من المنشورات التي تهاجم نظام حزب البعث العراقي، وثم مر الشخص بالقرب مني وخطا ربما عشر خطوات بعدي... وفجأة وإذا بصوت مزعج جدا يتكرر ثلاث مرات...

هرع الجميع إلى نحو الصوت، وكنت واقفا بالقرب من مكان الحادث، وإذا بالشخص الذي مر بجنبنا ملقى على الأرض وتناثرت حوله المنشورات التي كانت بيده بعد أن أطلق عليه شخص ثلاث رصاصات من خلال مسدس وجهه إلى ظهره مباشرة. الشخص، صاحب الهيبة، وقع على الأرض ومن شدة الألم مزق قميصه، ورأيت على سطح بطنه ثلاث بقع دائرية خضراء، وهي الرصاصات الثلاث التي أطلقت في ظهره ولكنها لم تخرج بعد من البطن. الشخص كان يحتضر، والمشهد كان مرعبا جدا، والجميع كان منذهلا.

كان بالقرب من المسجد يوجد شرطيان بريطانيان من دون سلاح، وقام أحدهما بالركض خلف من أطلق النار. ذلك الشخص أطلق رصاصة أو رصاصتين باتجاه الشرطي ولكنها أصابت أرضية الشارع فقط... وبعد دقائق انقض الشرطي على المسلح وألقى القبض عليه بالقرب من حديقة "ريجنتس بارك".

بعد ذلك عرفنا القصة... فالشخص المقتول كان "محمد مصطفى رمضان"، صحافي ليبي معارض ومطلوب للحكومة الليبية، وكان واحد من عدة اشخاص تم اسستهدافهم وقتلهم في لندن وأماكن اخرى ضمن حملة ضد المعارضين الليبيين.

لم تكن هذه هي الحادثة المروعة الوحيدة التي حدثت في الأجواء اللندنية آنذاك. فالسفارة الإيرانية تم احتلالها في مايو / ايار 1980 من قبل مجموعة "من ستة أشخاص" تقول إنها تطالب بتحرير إقليم خوزستان "عربستان" من إيران، وكانت تلك الحادثة أظهرت قوة الطلبة الإيرانيين المؤيدين لنظام الجمهورية الاسلامية "أنجمن". ولكن بعدها تم احتواؤهم وطرد الكثير منهم بعد أن ساءت العلاقات بين لندن وطهران. فالطلاب الإيرانيون كانوا أفضل الحركات الطلابية تنظيما في جميع دول العالم الثالث، وكان تنظيمهم قد أذهل المراقبين. فبمجرد احتلال سفارتهم، سارع الإيرانيون من مختلف أنحاء بريطانيا إلى موقع السفارة الواقع بالقرب من قاعة Royal Albert Hall الشهيرة. وهناك، عينوا متحدثة باسمهم، وبدأوا بتوزيع الأدوار وقرروا المبيت حول السفارة والاعتصام حتى تحريرها. القوات الخاصة البريطانية تدخلت وأبعدت الإيرانيين الذين سهروا عدة أيام حول سفارتهم. القوات الخاصة اقتحمت السفارة من الأعلى عبر إنزال مفاجئ تمكنت خلاله من قتل جميع الخاطفين ماعدا شخص واحد منهم.

هذه الحادثة كانت تقع بالقرب من المكان الذي كنت أسكن فيه آنذاك، في "سلون سكوير" بمنطقة "جلسي" جنوب مركز مدينة لندن، وهو مقر "رابطة الشباب المسلم" آنذاك، وكان عدد منا يراقب الوضع أولا بأول ويشاهد ما يحدث من تطورات دراماتيكية.

حادثة غريبة أخرى حدثت في مطلع الثمانينات، سمعنا أن أحد البحرينيين قد قتل خلالها. فقد انفجرت سيارة بالقرب من حديقة "هايد بارك" كان يوجد فيها بحريني وربما اثنان من الإيرانيين. وبعد الانفجار قتل البحريني، وجرح شخص آخر. الخبر كان مفاجأة بالنسبة إلى المجموعة اللندنية، لأن اسم البحرين بدأ يرتبط بأعمال من النوع الخطير. وبعد فترة عرفنا ما حصل ولكن من دون تفاصيل كثيرة. فالبحريني كان على ما يبدو من أتباع احد الاتجاهات الاخرى وكان معه إيرانيون يعدون لشيء ما لم يكن واضحا، ولكن بعض الأنباء آنذاك قالت إن الهدف لتلك المجموعة كانت جماعة من أنصار شاه إيران المخلوع الذين كانوا يجتمعون كل يوم أحد في حديقة الهايد بارك ويدعون إلى عودة الشاه وإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لم نتمكن من معرفة الحقيقة أو أية تفاصيل أخرى بعد ذلك. ولكن بعد عدة سنوات اعتقل عدد من الأشخاص من "خط الشيرازي"، وقيل لاحقا إن أحدهم بدأ باستخدام أموال كانت مودعة في أحد المصارف وكانت تابعة لأحد الذين اشتركوا في الحادث المذكور، وكان الحساب تحت مراقبة أجهزة الأمن البريطانية، وعليه تمت ملاحقة مستخدم الحساب المصرفي وتسفيره مع عدد من أصدقائه.

حادثة أخرى تبين جانبا آخر من أجواء لندن آنذاك. فلقد كنا نتابع كل أمر يرد فيه اسم البحرين، وفجأة سمعنا عن اعتقال بحريني في مطار هيثرو متهم بقتل بريطاني. لا شك أن الحذر من تبعات هذه الأنباء كان محورا من المحاور التي تدفع إلى المتابعة الحثيثة. ولكن اكتشفنا أن الأمر يتعلق بلندن من نوع آخر. فبحسب بعض المصادر، إن البحريني كان على "علاقة" مع بريطاني، وكان هذا البريطاني يعيش معه في البحرين. ولكن على ما يبدو حدث خلاف بينهما أدى إلى رحيل البريطاني عن البحرين. ولكن "الغيرة" اشتعلت في قلب البحريني، فركب الطائرة وذهب إلى لندن وقام بحرق "عشيقه" البريطاني وثم ركب الطائرة ليعود إلى البحرين، ولكن أجهزة الأمن كانت خلفه واعتقلته.

هناك حوادث عدة أخرى ربما تنفع في إلقاء الضوء على لندن وأجوائها، ولكن الإشارة ستقتصر على تلك التي ألقت بظلالها على المجموعة اللندنية. ومن تلك الحوادث، أن اثنين من الناشطين في المجموعة اللندنية "تحولا" بصورة "جذرية" إلى اتجاهات أخرى. فأحد الشباب الذين التقيتهم العام 1979 كان مملوءا بالحماس، وكان يصاحبني في عدد من النشاطات ويوجه "النصائح" إلي، وكيف أواجه التحديات كشاب مسلم في لندن. غير أنه وفجأة اختفى هذا الشاب القادم من إحدى القرى الملتزمة دينيا ولم نسمع عنه إلا بعد فترة وأنه تحول إلى الدين المسيحي، وأصبح من الناشطين ضمن مجموعة مسيحية.

شخص آخر كان ذكيا جدا وكان أيضا مملوءا بالحماس الذي يصهر من يقف أمامه أو يختلف معه، ولكن بعد فترة اختفى وقيل إنه لم يعد يؤمن بالتوجهات الدينية أو السياسية، وأن حياته أصبحت بريطانية أكثر من البريطانيين، وأنه استفاد من ذكائه للصعود بمستواه المهني - التخصصي.

اتحاد طلابي

قبل العام 1979 كان الاتحاد الوطني لطلبة البحرين يسيطر على عدد من الساحات الطلابية خارج البحرين، ولكن بعد ذلك أصبح المد الإسلامي هو الأكبر وبدأ يكتسح النشاط الطلابي كما كان يكتسح الشارع السياسي. وعليه تحرك عدد من الطلاب البحرينيين في لندن لتأسيس "الاتحاد الإسلامي لطلبة البحرين"، وقاموا بالاتصال بطلاب الجامعات الأخرى في عدد من البلدان التي يوجد فيها بحرينيون، وتواعدوا على اللقاء في البحرين في صيف 1980 لترتيب الأمور ومن ثم إشهار "الاتحاد الإسلامي لطلبة البحرين".

وفعلا شهد صيف 1980 تحركات واجتماعات عدة في البحرين، ولكن حزب الدعوة عرف بالأمر وتحرك بسرعة ومنع الطلاب من تأسيسه، لأن ذلك "سيخرج العمل السياسي إلى مرحلة علنية لا يتحملها الوضع"، بحسب التفسير الذي طرح آنذاك.

الطلاب الجامعيون كانوا هم المحرك للساحة، وكانوا فعلا طاقة هائلة يمكن أن تتجه بالساحة السياسية إلى هذه الناحية أو تلك فيما لو تنظمت صفوفها أكثر. وقد برزت قوتهم بعد العام 1984 عندما خلت الساحة الداخلية من التنظيمات الحزبية وتسلم الطلاب الجامعيون مهمات العمل التنظيمي بصورة غير رسمية.

في نهاية العام 1983 بدأ الخليجيون ينفصلون عن العراقيين وينظمون مؤتمرهم أو "رحلتهم" السنوية لوحدهم. وفي العام 1984 تطورت النشاطات بين البحرينيين والكويتيين في لندن، واقترح عدد من الناشطين تأطير العمل تحت مسمى "اتحاد طلاب الخليج". وفعلا، اجتمع المؤسسون في مدينة "اكسفورد" وكتبوا دستورا وفتحوا حسابا بهذا الاسم وشرعوا في تنظيم المؤتمر السنوي تحت هذا الإطار أيضا.

ولكن بدأت الإشكالات الحقيقية لاحقا. فالذين يحضرون نشاطات ما أطلق عليه مسمى "اتحاد طلاب الخليج" كانوا يخشون من ذكر هذا الاسم، لأن السلطات الأمنية لم تكن سترحم من ينتمي إلى اتحاد طلابي "بالنسبة إلى البحرينيين". كما أن ممارسة نشاط تحت مسمى "مؤتمر" كان يخيف البعض في ظل الظروف الأمنية القاسية. وعليه، تمت الاستعاضة بمسمى "الرحلة" بدلا من "المؤتمر".

"اتحاد طلاب الخليج" لم يكن اتحادا بالمعنى التقليدي. فهو يجمع طلابا "شيعة" فقط من البحرين والكويت، والكويتيون انسحبوا لاحقا لأن أوضاعهم اختلفت. ثم إن البرامج يغلب عليها الطابع الديني المصحوب بخطاب حماسي يعكس أوضاع المشاركين في هذا التجمع.

وعليه، فإن نشاطات الاتحاد أصبحت إما أنها "الرحلة" التي لا يهم إن كان من ينظمها يطلق على نفسه مسمى "اتحاد"، أو غير اتحاد، وإما أنها نشاطات دينية. وفي الحال الأخيرة، فإن مثل هذه النشاطات يمكن أن تندرج في إطار "دار الحكمة"، وهي الجمعية الدينية التي جمعت البحرينيين في لندن بعد تفكك "رابطة الشباب المسلم".

الثمانينات كانت سنوات عسيرة، وعدد من التجارب واجهت صعوبات حدت من طموحاتها. ولعل أخطر ما أنتجته تلك الفترة هو تعزيز الطائفية بدلا من مكافحتها، ولعل الأكثرية كانوا ضحية لظروف قاهرة. ولذلك، فإن هناك من استفاد من هذه الفترة للخروج بمشروعات في التسعينات أكثر نجاحا، وهناك من لم يستفد من التجربة

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 1085 - الخميس 25 أغسطس 2005م الموافق 20 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً