العدد 1218 - الخميس 05 يناير 2006م الموافق 05 ذي الحجة 1426هـ

محاكمة العصر: من يتستر على من؟

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

«هذا الغسيل لماذا؟» نوري السعيد يسأل عالم الاجتماع العراقي علي الوردي.

«شعبي يحب الغسيل» علي الوردي مجيباً.

لابد أنكم جميعاً تتذكرون جيداً قصة ملك الغابة الأسد الهصور الذي وقع في شباك الصياد، وظل لفترة طويلة تلفه تلك الشبكة وتشل حركته لا يعرف كيف يخلص نفسه من ذلك المأزق التاريخي المخجل: ملك الغاب في شباك الصياد من دون وجود أحد ينقذه، وتذكرون جيداً كيف خلصه فأرٌ صغيرٌ حقيرٌ من خلال تقطيع تلك الشبكة بأسنانه الحادة ليمنحه الحرية، ليعود من جديد إلى الغابة ويسلك السلوك نفسه: يتصيد الحيوانات العزل ويفترسها ويرمي بعظامها للكلاب الضالة. فأرٌ صغيرٌ حقيرٌ أنقذ ملك الغاب من تلك الورطة الكبيرة غير أنه لم يتعلم.

صدام حسين (طاغية العصر) والعصور التي عرفها التاريخ من قبل ومن بعد، لقبته حبيبة قلبه الآخذ بتلابيب قلبها والمتيمة به حتى الثمالة ابنته رعد بـ «الأسد»، صارخة على عدد من القنوات الفضائية العربية «إنه أسد، انظروا إليه إنه أسد، بحق أسد» (العجب العجب)! لأنه كما زعمت «يقاوم الاحتلال» و«ضحى بعائلته في وجه الاحتلال»! ولا أعرف أي عائلة تعني؟ هل هي «الشعب العراقي»، العائلة القطرية التي أذاقها الأمرين على مدى خمسة وثلاثين سنة؟ أم العائلة «العربية» الكبرى «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، التي لاتزال تئن من وطأة ما أدخلها فيه، أم العائلة التي تتنعم في جنان«الأردن» ونعيمه برعاية المنبعثين من ركام الرماد والقابضين على سراب الدخان توهّماً؟

على ان الابنة الحالمة تضيف: «وضحى بكرسيه من أجل مبادئه ومن أجل بلده»! (فبعد أن كنا نضحي بالخرفان أصبحنا بلمح البصر نضحي بالكراسي). لا تعليق!

وقع هذا «الأسد» في شباك الصياد شر وقعة، غير أنه لم ينتظر الفأر ليأتي لإنقاذه بل تدحرج في ظلمة المكان والزمان إلى أن وصل إلى جحر الفأر، ظانّاً أنه سيجد هناك فأراً يخلصه من ورطة العمر التي وقع فيها! الصياد في حال «صدام حسين» كان أذكى من الصياد في حال ملك الغاب، فقد تمكن من خلال أدواته العصرية أن يعرف بالضبط أين هي الشبكة بما حملته من صيد ثمين، فذهب إلى ذلك الجحر الذي خلا من الفئران كلياً وأخرجه مرغماً، وقد تراكمت على وجهه كل ما شاهدتموه من جرائم العصر في شهر ديسمبر/ كانون الأول .

اليوم يجلس هذا «الأسد» في قفص هو أردأ من قفص السيرك الذي توضع فيه الأسود عادة لكي يأتي دورها لتقدم للمشاهدين عروضاً تكون فيها العصا المحرك الأول والرادع الأكبر لكل ما يأتي به الأسد من سلوك يشي بشيء من الذكاء أو من الغباء أو الرعونة. في السيرك يُصفق للأسد إذا جاء بحركةٍ جميلة أو فيها شيء من الإبداع، أما إذا لم يقم بذلك فالسوط والعصا له بالمرصاد، في حال أسدنا هنا فإن التصفيق معدوم (فقط في حال اللبؤة الصغيرة) لكونه لا يأتي بأي حركة تشي عن حدة في الذكاء أو في الأداء، فبعد سنوات القصور والبنادق والبدل المستوردة من بيوتات الأزياء العالمية، أضحى يصرخ في وجه القضاة ووكلاء النيابة (الذين لا يحملون عصياً ولا أسواطاً) عن حاجته إلى ملابس داخلية وجماغات وعقل ووقت مخصص له ولرفقائه يزأر من خلاله كما كان في سابق عهده، في الوقت الذي يتمنى الشعب العربي من المحيط إلى الخليج تخليصه مما هو فيه بانتزاع أنيابه وأظافره وإعدامه عقاباً له على ما اقترفت يداه من جرائم.

الشعب العربي منذ عهدته عجول لا صبر له ولا حيلة، وقد أثبتت هذه المحكمة / السيرك بكل مجرياتها هذا الأمر ليس على مستوى الشعب البسيط الذي يريد سحق المجرمين من الحكام الذين أذاقوهم مر العذاب سحقاً ودفنهم في مزبلة التاريخ بأسرع ما يكون، بل حتى الحكومات العربية في مجملها أظهرت الصورة ذاتها حين شاهدت وسمعت ما جرى في محكمة العصر. كثيرون قالوا: أعدموه وخلّصونا منه. آخرون قالوا إنها تمثيلية أخرى من التمثيليات التي خبروها! آخرون قالوا دعوه يذوق المر والعلقم ويهان، وليتعلم الطغاة من هذه الإهانات الموجهة لصدام وأعوانه من المصير الذي آل إليه الأسد الهصور، وكأن التاريخ يخلو من هكذا صور سابقة على عهد صدام.

قضيتنا ليست هنا، فالطغاة وظلام الشعوب لا يتعلمون أبداً. المخجل حقاً أن سياسيينا ومحللينا الأفاضل فشلوا فشلاً ذريعاً في رؤية الحقيقة التي تأسست عليها المحكمة / السيرك، والهدف أو الأهداف التي ترمي إليها هذه المحكمة!

كنت في البدء ضمن هذه الدائرة الفاشلة التي لم تستطع أن ترى الحقيقة، ولا عجب، فما شاهدناه من صور وما سمعناه من كلمات وما قرأنا من كتابات عن «الأسد» منذ وقوعه في شباك الصياد حتى مثوله أمام المحكمة كانت قد أعمت بصرنا وبصيرتنا. غير أنه ومنذ بدء المحاكمة حتى آخر جلسة لها تغير الأمر بالنسبة لي ونبهني إلى موضوعات عدة أهمها، وهذا اعتراف مني لكم، بأني اعتقدت بأن صدام حسين «ذكي» لكونه تحدث وأعلن على الملأ أنه «بريء»!

لقد استغل القفص الماثل فيه أيما استغلال، إذ أضاف: «أن الاحتلال باطل وما بني على باطل فهو باطل»، وأنه «لا يعترف بالمحكمة»، وأنه لايزال الرئيس الفعلي للعراق بموجب الدستور! وأعلن عن مكان وجوده ومكان المحكمة والسجن الذي يسجن فيه. وبما أني أعرف بعض تاريخ العراق الدموي قلت بيني وبين ذاتي: ستسيل الدماء من جديد، إذ سيقوم بعض أتباعه الموهومين بمهاجمة المكان وتخليصه مما هو فيه وتهريبه إلى مكان آمن. هذا الأمر انتبهت له المحكمة، إذ قامت بقطع أجهزة الصوت عن صدام كلما همّ بالبدء في الحديث عن المكان والزمان.

في جميع جلسات محاكمة صدام ومعاونيه رأينا كيف تحاول هذه المجموعة جاهدة نشر غسيلها بما يحتويه ذلك الغسيل من أوساخ على العالم، لكونهم يعرفون كما عرف عالم الاجتماع العراقي علي الوردي أن الشعب العراقي يحب نشر الغسيل، ولنكن أكثر صدقاً أن العالم أجمع يحب نشر الغسيل. أي أنهم يحبون نشر الفضائح، ورأينا كيف أخذ الأخ غير الشقيق لصدام برزان التكريتي، بالتهديد أكثر من مرة ملوّحاً بكلتا يديه وبحركات عشوائية من رأسه المغطى بالغترة والعقال التي جلبت إليهم حين بكوا لعدم توفيرها لهم، فيما عدا رئيسهم الذي لبس الزي الغربي ليميّز نفسه عنهم وعن الشعب الذي يدعي الدفاع عنه، ويصرخ عالياً أنه يمتلك أسراراً وفضائح، وسيبدأ بنشرها على الملأ. والقاضي العراقي من أصل كردي رزكار محمد أمين، ذكي ورزين وعرف كيف يلجم هذا الصراخ والحركات بحكمة القاضي الجيد.

القضية الأولى التي حملت ملفاً ضخماً يحتوي على كل جريمة ارتكبها الجناة القساة في حق قاطني قرية الدجيل ذات التركيبة السكانية السنية / الشيعية، بعد محاولة قتل فاشلة لصدام حسين هناك في ثمانينات القرن الماضي. والقضية هي أخف القضايا التي يمكن أن يحاكم صدام وأعوانه بشأنها، فهناك «حلبجة» وهناك اغتيال رموز الشيعة الدينيين، وهناك تشريد أهل البصرة الذين ماتوا حسرة بعد أن كانت بلادهم تجلب الحسرة على من لم يزرها أو يراها.

القضية الأولى هذه لا تعدو كونها متنفساً وقتلاً للجموح إن كان هناك جموح من شخص ما لفضح ما تخبئه سنوات الظلم البشع غير الإنساني لحكم صدام، من أسرار قد تطال بعض ولربما جميع الحكومات العربية وأميركا وأوروبا، وحتى تلك المدللة وتبرز إلى السطح الدور الذي لعبته الدول تلك في قهر الشعوب عن طريق السجون أو التشريد أو الضرب بالأسلحة الكيماوية أو البيولوجية، وعن طريق إشعال الحروب بين العراق وجيرانها المسالمين.

هناك من يتستر على أمر ما عن طريق هذه المحكمة، ويحاول كسب الوقت حتى وإن تطلب الأمر التستر إلى اليوم الذي يذهب فيه الموت بصدام إلى عالم الآخرة، وهذا ليس صعباً على حكومات صبرت على التنكيل بشعوبها سنوات طوال؛ إلاّ أنه مع هذا قد يخرج من تحت عباءة الساحر رجل مثل عبدالحليم خدّام ويكسر الجرة ويعلن على الملأ ما عملت حكومات عدة على ستره عن الشعوب، وهو أمر ليس ببعيد.


زبدة الكلام

«أتمنى من كل فرد عربي أن يعيد النظر في رأيه بشأن هذا القائد (الهمام)! لقد اخطأ لمدة عاماً بحق شعب واع ومثقف ومتحضر، وحوّله إلى شعب همه الوحيد العيش والمحافظة على عائلته ونفسه من بطش هذا الظالم. من الممكن أن يتحمل الإنسان قسوة الحياة وضيق العيش، ولكن لا يستطيع احتمال الظلم والجور والقتل وانتهاك الأعراض. قام بإرهاب الشعب وتخويفه، وعشنا صامتين كل هذه الأعوام لا نستطيع أن نعبر عن رأينا ونخاف من قول الحق، أما الآن فنحن شعب حر لا يستطيع أي حاكم من أمثال صدام أن يتحكم بإرادتنا». أم أسرار/ امرأة عراقية.

كاتب كويتي مقيم في البحرين

العدد 1218 - الخميس 05 يناير 2006م الموافق 05 ذي الحجة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً