العدد 1309 - الخميس 06 أبريل 2006م الموافق 07 ربيع الاول 1427هـ

النچاس... شيخ كفيف رأى الموت في الزنزانة

«الوسط» تفتح ملف ضحايا «أمن الدولة» (14)...

بعيداً عن معادلات السياسة، وبعيداً عن كل المصالح والاتهامات المتبادلة في ملف الشهداء وضحايا التعذيب الذي فتح على بساط البحث، فإن لهذه القضية وجهاً إنسانياً لا يقبل التشكيك.

إنه حديث عن ضحايا كانوا ولايزالون يعانون، وكثير منهم لم يرتكبوا جرماً سوى المطالبة بحياة كريمة في ظل احترام الإنسان بصفته بشراً له كرامة وحقوق لا يفرط فيها.

لنبتعد عن السياسة قليلاً، وسنرى أن هناك واقعاً مأسوياً بكل ما للكلمة من معنى تعيشه عائلات بحرينية كريمة، بعضها فقدت حبيباً، وأخرى عانى أبناؤها من وطأة تعذيب في السجون والمعتقلات لفترات طويلة، وثالثة شرد أفرادها في أقطار الأرض.

«الوسط» تعرض ضمن مسلسلها المتواصل شهادات حية من عائلة بحرينية كان لها مع عهد أمن الدولة ذكريات مريرةلم تمح من ذاكرتها حتى الآن، وهي لا تزال تعاني بسبب القبضة الأمنية المحكمة التي كتبت لها رواية حزينة اختطت بحلم مواطنين كان جرمهم أن حلموا بوطن يحيا فيه الأمل.

اليوم نحن مع قصة الشيخ علي النچاس (47 عاماً)، والذي قضى داخل السجن واشتهر بـ «شيخ الشهداء».

«شيخ الشهداء» في سطور

ولد الشيخ علي النچاس (47 عاماً)، في العام 1950 وكان الابن البكر لوالديه، بعد ولادته أحدث في العائلة أزمة وإرباكاً بسبب أن الطفل الأول كان كفيف البصر. لذلك توقف الزوجان عن الإنجاب مرة أخرى لوقت ليس بالقصير خوفا وتأثرا من حالة ابنهما الأول.

سمي هذا الطفل بعلي على اسم جده لأبيه والمألوف من ان الولد أو الطفل دون سن الرشد يحتاج إلى رعاية فما بالك إذا كانت لديه إعاقة دائمة هذا ما لم يحدث مع علي في صغره، فانشغال الأب وكثرة أسفاره من جهة وفارق السن بينه وبين اقرب إخوانه والذي يبلغ حوالي عشر سنوات تقريبا، كل هذا جعل من علي يلعب الدور المفصلي في حياة أسرته واحتياجاتها اليومية عدا المعاشية.

انتقل بعدها علي إلى مرحلة أخرى من مراحل حياته ليدخل بإرادته إلى ما يسمى في مصطلحنا العامي (المعلم) وهو المكان الذي يقصده الناس لتعلم القرآن، وكان يساعده على ذلك حضور ذهنه وقوة حفظه الكبيرة، ولقي علي اهتماما بالغا من الأستاذ خلف المعلم المشهور في منطقة البلاد القديم، ولعب خلف دورا مهما في حياة هذا الطفل إذ تعهده ووجهه نحو الخطابة ولازمه فترة طويلة. وبما أن هذا الطفل كان مشروع خطيب لكنه، واعتمادا منه على نفسه لم يعرف عنه ملازمته لخطيب متمكن لتعلم فن الخطابة لذلك لم يكن صانعا عند احدهم كما يحدث عند معظم خطباء المنبر الحسيني. وانتقل بعدها على إلى مرحلة أخرى والتي لاقى فيها الرعاية من مساعد مدير مدرسة الخميس حسن السعيد، وعاش علي في منزله لمدة خمس سنوات، واستمر في حياته مكافحا حتى أصبح شابا ليدخل بعدها مدرسة الشيخ عبدالحسن لتعلم العلوم الإسلامية، وشيئاً فشيئا ذاع صيته في الخطابة ليصبح الطالب معلما تخرج علي يده بعض الفضلاء في الخطابة أمثال الشيخ حسن القيدوم والشيخ زهير البلادي، والسيد عباس السيد رضي، والملا علي البلادي، والشيخ زهير المقداد.

أمضى الشيخ علي النچاس في الخطابة ما يزيد عن العشرين عاما تمكن خلالها من ان يتزوج على رغم إعاقته لذلك كان عصاميا بكل معنى الكلمة. وللشيخ ولدان احدهما كان معتقلا أثناء استشهاده كما أنجب 4 بنات.

انتفاضة التسعينات

تأثر النچاس بالمطالب الشعبية والتي كانت تطالب بعودة الحياة البرلمانية للبلاد، وإلغاء قانون أمن الدولة، حتى أخذ الشيخ يتناول في خطابته الوضع المتأزم والمطالب الشعبية، ما جعله عرضة للاعتقال والاستدعاء من قبل أجهزة أمن الدولة.

وبحسب ابنه عبدالله «فقد اعتقل الشهيد في يناير/كانون الثاني من العام 1996 بعد هجوم شنته قوات أمن الدولة على منزلنا، وتولى التحقيق معه أحد كبار ضباط أمن الدولة». مشيراً إلى أن «هذا الضابط قام بحسب أحد الشهود بكي الشهيد بالسجائر في رجليه وصدره، كما قام الضابط نفسه بضربه ضربا شديدا على رغم علمه بأنه يعاني من مرض الربو». قدم بعدها الشيخ إلى محكمة أمن الدولة ليحكم عليه بعام كامل، وأوضح عبدالله ان عائلته رفضت تعيين محام للدفاع عن الشهيد فقامت المحكمة بتعيين أحد المحامين من جهتها، مردفا «لقد منعت العائلة من حضور المحاكمة التي حكم فيها الوالد بعام كامل».

بعد أن قضى الشيخ النچاس عاما كاملا في سجن جو المركزي وهي المدة التي حكم بها، لم يفرج عنه إلا بعد مضي شهور عدة، وعاد الشيخ من جديد للخطابة بالنفس التحشيدي ذاته وتعريف الناس بحقوقهم، والمطالبة بإلغاء قانون أمن الدولة وغيرها من المطالب التي كانت ترفعها انتفاضة التسعينات، موضحا عبدالله ان «قوات أمن الدولة أخذت تراقب الشيخ أينما ذهب».

الشيخ الكفيف يلاقي ربه

بعد الإفراج عن الشيخ علي النچاس ظلت أجهزة أمن الدولة تراقبه في جميع تحركاته، ولم تستطع أن تستحمل بقاءه خارج الزنزانة لتعيد اعتقاله بعد ثلاثة شهور فقط من الإفراج عنه. ليستشهد في التاسع والعشرين من شهر يونيو/ حزيران العام 1997.

وعن الحادثة الأخيرة يقول ابنه عبدالله «لقد قامت أجهزة أمن الدولة باعتقال والدي بعد ثلاثة شهور فقط من الإفراج عنه، فقد قامت قوات أمن الدولة بمهاجمة منزلنا، كسرت وخربت محتوياته وكان الهجوم أعنف من هجومها الأول بكثير»، مشيراً إلى أن «الشيخ نقل إلى سجن القلعة لبعض الوقت لينقل بعدها إلى زنزانة انفرادية، ولك ان تتصور رجلا يبلغ من العمر 47 عاماً وكفيف البصر ويعاني من الربو يوضع في سجن انفرادي».

القيادي المعارض الذي كان في السجن آنذاك حسن المشيمع قال للضابط المسئول - بحسب عبدالله أيضاً - أن الشيخ كان يلح على ضرورة علاجه والذهاب إلى المستشفى لعدم مقدرته على التنفس، كما خاطب الضابط قائلاً: «كنا نسمعه ولكنكم لم تعيروه اهتماما، إلى أن هدأ وخف صوته ثم بعد فترة أتيتم وأخرجتموه بالكرسي المتحرك لأنه على ما يبدو في حال حرجة وذهبتم به ولم يرجع ومن حينها شككنا ان مكروها أصاب الشيخ وهذا خطأكم ان تقوموا باعتقال الشيخ وتضعوه في زنزانة انفرادية لشهور وهو مريض وكفيف البصر». ونفى الضابط ذلك وقال «لكن الشيخ مات من المرض وليس من الضرب»، ورد عليه مشيمع إن هذا قتل رجل مريض تضعه في زنزانة انفرادية وتمنع عنه الأكسجين والدواء... ماذا يسمى ذلك؟».

تسلمت خبر الاستشهاد وأنا في السجن

عبدالله الابن الأكبر للشيخ والذي كان حينها يبلغ من العمر 19 عاماً كان معتقلا في سجن القرين، سمع بالخبر عن طريق أحد كبار المسئولين في الوزارة. بعد ذلك قابل عبدالله الضابط المسئول عن قضية الشيخ والذي حدثه عن مكان الدفن وعدد الحضور، ثم انتقل إلى مقبرة الحورة التي كانت محاصرة من قبل قوات الأمن، واحضر جثمان الوالد «وفي الوقت نفسه اخبرني احد المرافقين بأن العائلة رفضت الحضور وأصرت على تسلم الجثمان لدفنه في مقبرة البلاد القديم، وللسبب نفسه رفضت تسلم الجثمان ورحلت من المقبرة».

التشييع عنوة في مقبرة الحورة

في 29 يونيو العام 1997 أعلن استشهاد الشيخ علي النچاس، وهنا ينقل لنا النچاس الابن ما جرى أثناء الجنازة، موضحا ان «الخبر انتشر عن طريق من قام بمعاينة الشيخ بعد استشهاده، فعاينه شخص آسيوي منع البحريني الذي كان يرافقه من الدخول للمكان الموجود فيه الجثمان إلا أن الآسيوي أخبر مرافقه البحريني بأنه عاين شخصا كفيف البصر فارق الحياة وكانت حركة كبار الضباط في المنطقة تشير إلى أن الشخص المتوفى له مكانة خاصة. وبما أن الوالد هو الوحيد الذي كان كفيف البصر فانتقل الخبر بين الناس في الصباح الباكر، لتزدحم البلاد القديم بالمعزين».

الصورة في منطقة البلاد القديم بدت أكثر سخونة خصوصاً مع تجمع المعزين لانتظار الجثمان الذي لم يصل لأنه دفن في مقبرة الحورة من قبل أجهزة أمن الدولة. فطوقت قوات الأمن منطقة البلاد القديم بالكامل وتوترت الأمور، ليخرج المعزون في مسيرة سلمية في المنطقة إلا أن قوات الأمن المدعومة بمروحية قامت بإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص الانشطاري على المسيرة وقامت بتفريقها واعتقال بعض المشاركين فيها.

سنعفو عندما نتمكن من القصاص

لعائلة الشيخ النچاس موقف من التعويضات، أوضحه لنا النچاس الابن قائلاً: «من ضمن المطالب التي نطالب بها هو الاعتراف بشهداء للوطن وتمكين العوائل من حق العفو والقصاص ... وإنني أقولها للتاريخ نحن قوم تعلمنا من قوله تعالى «والكاظمين الغيض والعافين عن الناس والله يحب المحسنين»، ولكن لن يكون ذلك إلا بعد أن نتمكن من هذا الحق الذي سلب منا تحت قانون 56 للعام 2002»

العدد 1309 - الخميس 06 أبريل 2006م الموافق 07 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً