العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ

العقار الأول... وقصة نقل «العريش»

حسين راشد الصباغ comments [at] alwasatnews.com

إن ما أقصده من هذا العنوان هو عقارات المساكن والمنشآت العمرانية الأخرى وغيرها، وآمل ألا يتبادر إلى ذهن القارئ الكلمة الشائعة في البحرين ودول الخليج لكلمة (العقار)، وهو النميمة والغيبة والغوص في أعراض الناس، وهو أمر شائع في بلداننا. وحسناً ما فعله أهل الكويت حين أطلقوا كلمة (الحشّ) على العقار، وأعتقد أنها أبلغ وأقوى! ويحضرني هنا بيت جميل لامرئ القيس في معلقته المشهورة وصاحبته فاطمة تخاطبه بقولها:

تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرؤ القيس فانزل

وفي القرآن الكريم في سورة الشمس «فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها» (الشمس:14).

في العام 1972 حصلت على هبة كريمة من الأرض من صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين الراحل كانت مساحتها 60*50 قدماً، و على رغم صغرها فإنني كنت سعيداً بها، فهي أول عقار أتملكه في حياتي. وكنت آنذاك موظفاً صاعداً في وزارة الإعلام. كانت الأرض مجاورة للبحر والذي أصبح الآن الشارع الرئيسي المؤدي إلى ميناء سلمان وسترة والرفاع، يحدها من الشمال بيوت من العشش والعرشان، كان عريش السيدة مطيرة بنت جوهر يقع ضمن أرضي، وقد وافقت أن ننقل عريشها إلى داخل حوشها، وهكذا بعث لي الصديق محمود أديب السماهيجي رافعة عملاقة (كرين) من شركته، فرفعته بكل عناية ودقة، وظل معلقا بين السماء والأرض، وظلت معه أنفاسنا معلقة أيضاً، ووضعنا أيدينا على قلوبنا خشية حصول مكروه حتى وضعته في حوش السيدة الفاضلة مطيرة من دون أن يمسه ضرر أو يقع منه لوح أو مسمار. ولا أبالغ إذا ما ذكرت أن أطفال هذه البيوت من العشش والعرشان كانوا يتقاطرون زرافات ووحداناً عندما تواترت إليهم الأنباء الموثوقة بقدوم (كرين) السماهيجي. كانت لحظة نقل العريش أشبه بعرس أو زفة، صاحبتها مظاهرة في عصر ذلك اليوم الربيعي الجميل، كما دفعت إكرامية سخية للعمة مطيرة اذ طيبت خاطرها، كيف لا وهو موئل ذكرياتها لسنين طويلة خلت، ووعدت بعد إتمام بناء البيت أن تشارك في حفل بهيج من فرقة صديقتها قماشة بنت الماص، التي تملك فرقة من الطبالة الفنانين نساء ورجالاً وصبياناً، وقد طبقت شهرتها الآفاق في البحرين وربما في إمارات الخليج، والمذيع اللامع حسن كمال هو حجة في هذا العالم الأسطوري العجيب. وبعد تسع شهور بالتمام والكمال اذ شيدت هيكل (فيلتي) المتواضعة، أو الفخمة بالنسبة لأصحاب العرش البسيطة المحيطة بها من جانبين، أما من الجانب الغربي فكان يجاور بيتي بيت عتيق يعود لفطيس الهاجري، وهو شخص معروف في هذه المنطقة، لطيف الشمائل وفي غاية التواضع، وقال إن والديه أطلقا عليه هذا الاسم تيمناً. ويعود الفضل في إنجاز هذا الهيكل الخرساني إلى الإشراف المكين والدقيق من الصديق المهندس محمد صلاح الدين الذي يقوم بجولة إشراف على بيتي والبيوت الأخرى الواقعة ضمن مسئوليته الهندسية. والذي أثار انتباهي وفضولي وإعجابي وإكباري أيضاً، ان هذه الجولة التفقدية يقوم بها ساعة الظهيرة اللاهبة، في صيفنا الخانق برطوبته! ولك يكن المهندس يعبأ بكل ذلك طالما هو يؤدي مسئوليته، مرتدياً القميص والبنطلون بل وربطة العنق. ولا غرابة بعد ذلك أن يصبح قامة سامقة واسما لامعا في عالم الهندسة والعمارة. وهكذا كانت المرحلة الأولى من مشروع بناء هذا المنزل، وتوقفت لستة شهور حتى أستطيع تدبير مبلغ آخر، وكنت حينها أنوء تحت ثقل الديون، القرض الأول حكومي مريح وميسر، والآخر مصرفي مرهق لا يرحم بأرباحه المرتفعة والمركبة عندما تتراكم الأقساط دون تسديد ولو لشهور قليلة. واصلت البناء بعد ذلك بهمة ونشاط بعيداً عن عالم المقاولين ذات الأتعاب المرتفعة والجشع البين، واقتضى إتمامه في بعض الأيام إلى السهر مع العمال ليلاً، وقد أمدنا جاري سلطان الذي يسكن مع عائلته في عرش فاخرة من فئة الخمس نجوم، بدليل أن إدارة الكهرباء زودته بالتيار الكهربائي دون سواه من العشش نظراً لأنه يعمل فيها حاجباً أو فراشاً، ويبدو أن له دالة على هذه الإدارة من خلال ما يتمتع به من علاقات حميمة مع أصحاب القرار فيها، بناءً على إفادته لي وتأكيده أنه سيساعدني في الحصول على عداد الكهرباء بسرعة!

وبقي المنزل حتى إتمامه من غير سور أو جدار يحيط به. وحدث عصر ذات يوم ما لا يحمد عقباه، إذ حلا لغنم جارتنا العزيزة مطيرة بعد انصراف العمال، أن تتسلق الدورين حتى بيت السلم، غير عابئة بالمخاطر، وقد زلت قدم تيسها الأصيل أثناء ملاحقته عنزة مراهقة، فأسلم الروح بعد سقطة مميتة من السطح. كان هذا التيس خسارته لا تعوض بثمن، ولا سيما بالنسبة لبقية الغنمات! وقدمت التعازي الحارة لجارتنا مطيرة مع تعويضٍ مجزٍ، وذهبت بعد هذا الحادث الجلل إلى موقع بيتي فوجدت العمة مطيرة جالسة القرفصاء تندب حظها العاثر لهذا الخطب الأليم، شاخصة البصر تتأمل جثة التيس الممددة، تولول وتبكي بحرقة ونحيب. حاولت أن أخفف من وقع المصيبة عليها بقولي: ما أكثر التيوس يا أختاه في بلداننا العربية، وإذا بها تصرخ صرخة قوية بقولها: إن هذا التيس أصيل، وقد طبقت شهرته الآفاق في البحرين

إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"

العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً