العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ

السفينة اللبنانية في بحر هائج

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لبنان الآن يمر في حالات تخبط يرجح أن تدفع البلاد، في حال استمرت سياسات التحشيد والتخوين والتكذيب، إلى أتون الاقتتال المذهبي. فالشوارع اللبنانية تعيش الآن حالات هياج تحركها الكثير من «الأصابع» و»الطوابير» وتديرها من قريب أو بعيد «رؤوس حامية» تخطط لغايات لا تعرف حدودها السياسية. وحين تضيع الحدود السياسية تبدأ خطوط المذاهب والطوائف والمناطق بالظهور كبدائل واقعية وموضوعية وتعبيراً عن أزمة مفتوحة وغير مفهومة.

اللبنانيون الآن في حال ضياع بسبب المخاوف المتبادلة التي تعتمد على ردة فعل سلبية تقوم على فكرة المبالغة بالقوة الذاتية والاستهتار بقوة الآخر والاستخفاف بإمكاناته وقدراته. وحين يصل ميزان القوى إلى هذا التعادل السلبي بين فريق لا يستطيع التقدم تحسباً لانهيار الوضع العام وفريق لا يستطيع التراجع حتى لا ينهار الحصن المنيع الذي يتسلح به تصبح الحلول العاقلة ممكنة أو تنزلق القوى نحو التصادم لاختبار مدى قدرة الطرف المضاد على الصمود والتصدي.

المسألة إذاً معقدة وينتظر أن تستمر على هذه الحال إلى فترة اضافية وبعدها لابد من التفكير بحل معقول الا إذا قررت الأطراف المضادة الذهاب بعيداً في المغامرات السياسية والعسكرية والشعبوية أي الذهاب إلى «الفوضى الهدامة» والاقتتال الأهلي.

كل الخيارات صعبة. ولكن الطريق السليم لتصحيح المعادلة يضغط باتجاه البحث عن أسلوبين مترابطين لمعالجة الأزمة المفتوحة احدهما محلي الهوى والثاني إقليمي المدى.

محلياً لابد من مسارعة القوى المحايدة إلى الدعوة لعقد قمة روحية سداسية تضم قادة الطوائف الست الكبرى وصاحبة التأثير السياسي على الساحة تكون وظيفتها صوغ مشروع لقاء يجمع التعارضات في برنامج يرضي كل الفرقاء.

إقليميا لابد من مسارعة جامعة الدول العربية الى الدعوة لعقد قمة خماسية تضم لبنان إلى جانب سورية وإيران ومصر والسعودية في اعتبار أن عناصر التوتر القائمة الآن لا يمكن عزلها عن المحيط.

القمة الروحية السداسية اللبنانية يجب أن تسبق القمة الخماسية السياسية لانها تشكل ذاك الوعاء الذي يفترض أن يجمع مختلف التعارضات في بوتقة وطنية تمنع الانهيار الداخلي. والتوافق اللبناني لاغنى عنه لتأمين النجاح السياسي لقمة خماسية تشرف جامعة الدول العربية على إدارتها لمنع التدخلات الاجنبية صاحبة التأثير المباشر على مجرى القلق والتوتر والفوضى الذي يضرب المنطقة ويزعزع استقرارها الأمني والأهلي كما هو حاصل الآن في العراق.

ما يحصل في لبنان خطير للغاية ولغة الخطاب المتبادل بلغت درجة من الغليان يصعب ضبط تبخرها من دون غطاء «روحي» محلي و»سياسي» إقليمي. وهذا الخطاب الذي بدأ يتأسس بقوة على ارض منقسمة طائفياً ومذهبياً يمكن أن يدفع لبنان نحو التشكل السياسي القائم على استقطابات أهلية تشبه «نموذج» العراق الذي صنعه الاحتلال الأميركي هناك وهدد مراراً بتصديره إلى دول الجوار.

المنطقة على قاب قوسين من «عراق» آخر إذا استمر التدافع الأهلي إلى الشوارع اللبنانية. وبما أن الشوارع ليست موحدة سياسياً وهي بحكم الواقع موزعة على ألوان طائفية ومذهبية تتجاذبها المناطق في المركز والأطراف فمعنى ذلك أن احتمالات «العرقنة» أصبحت هي المرجحة في حال تأخرت القوى في احتواء الانفعالات في قمتين عاجلتين: الأولى روحية محلية. والثانية سياسية إقليمية.

الدور الإقليمي في لبنان يصعب تجاوزه أو تغييبه عن المعادلة المحلية نظراً إلى تداخل الأزمة المحلية مع أزمات المنطقة التي بدأت تشهد بدورها استقطابات سياسية/ أمنية ليست بعيدة عن فضاءات العراق. وهذا القلق العام يعطي ذريعة أقوى للقوى المعنية مباشرة بالساحة اللبنانية للتحرك ومنع الطوائف والمذاهب من الانزلاق من لغة تبادل الاتهامات إلى قرقعة السلاح.

لبنان ومحيطه

لبنان جزء من محيط ويتمتع بميزان قياس للحرارة والبرودة حساس جداً لانه ببساطة يعكس مزاج المنطقة وتعارضاتها ويتحرك بسرعة بهذا الاتجاه أو ذاك من دون حاجة احيانا للأوامر والتعليمات. فهذا البلد الصغير والجميل يلتقط الإشارات البرقية بسرعة الضوء ويقرأ بدقة الموازين الدولية والإقليمية ويعرف اتجاهات الرياح ويتحرك بآليات خاصة لا تحتاج منه إجراء حسابات عامة أو جردة لموازين القوى. فطبع هذا البلد مغامر ويميل دائماً إلى اختبار قوته متحدياً احياناً احتمالات الربح والخسارة. وهذا الطبع المغامر أشار إليه هيغل في «فلسفة التاريخ» حين ربط طباع الشعب الكنعاني/ الفينيقي بتلك السفن العابرة للبحار متحدية الأنواء والعواصف.

هذه الطبيعة المغامرة التي وصفها هيغل في فلسفته طبعت هذا البلد بمزاجية زادتها كثرة الطوائف والمذاهب (تنوع العصبيات) تقلباً وتطرفاً الأمر الذي يفسر ضعف الدولة فيه وحاجتها الدائمة إلى الرعاية الإقليمية للحد من الغلواء والتشنج.

المشكلة في هذا البلد الجبلي/ البحري أن مزاجه ليس موحداً بل يتوزع على عصبيات أهلية (طائفية/ مذهبية) متنافرة. والميزان الدقيق لرصد فضاءات المنطقة يملكه أكثر من طرف. وكل طرف يقرأ الأهواء والأجواء بأسلوب مختلف عن الآخر.

وبسبب تعدد آليات القراءة واختلاف إشاراتها البرقية عن الآخر ينظر كل فريق إلى نفسه بانه الأقوى وهو قادر لوحده على تعديل الموازين وتصحيحها. وهذا ما يزيد من احتمالات التصادم الأهلي ويرجح حصولها في حال لم تسارع القوى الإقليمية إلى احتواء انفعالاتها.

كل فريق يرى نفسه انه على حق. فهذا يتهم ذاك بالتسلط والاستئثار بالسلطة ويرد ذاك على هذا بالكيل نفسه ويتهمه بانه هو يريد التسلط ويحاول إلغاء السلطة من خلال تعطيلها. وبين هذا وذاك أخذت لغات الشوارع تنتصر على لغة العقل وبات الكل يتصارعون على حبال سفينة تتجاذبها أنواء البحر بحسب التوصيف الذي ذكره هيغل في فلسفته.

هذا الفريق يتهم الآخر الاستقواء بالخارج. ويرد الآخر بالكيل نفسه ويتهم الخصم بانه هو من يستقوي بالخارج ويلعب لعبته على ارض لبنان خدمة لمصالحه... إلى آخر الكلام.

منشأ هذا التخاصم يعود إلى أسباب كثيرة ومتعارضة بعضها يتصل بالانقسامات الأهلية المحلية وبعضها الآخر يرتبط بالتوازنات الإقليمية والتطورات الدولية. فهناك فريق يقرأ التطورات الجارية في سياق ينسجم مع رغباته وتطلعاته مقابل فريق يقرأ التطورات نفسها في سياق مخالف وينسجم إلى حد ما مع مخاوفه وهواجسه.

حتى القراءة ليست موحدة. فهناك قراءات لبنانية للحوادث والوقائع الدائرة الآن في المحيط والجوار. وبسبب اختلاف القراءات المحلية للفضاءات الإقليمية تأسست محاور سياسية (طائفية/ مذهبية) تدفع العلاقات الأهلية من التوازنات السلبية إلى التضاد.

المسألة اللبنانية لا يمكن عزلها عن المحيط الإقليمي والفضاء الدولي. وهذا ما يعطي ذريعة اضافية لجامعة الدول العربية للتحرك بسرعة والعمل على الدعوة إلى عقد قمة خماسية تستهدف في النهاية منع انزلاق البلد الصغير إلى مواجهات أهلية ليست سهلة وقد تؤدي إلى نوع من «العرقنة» أو ذاك «الحريق الإقليمي» الذي أشار إليه وزير الدفاع الأميركي الجديد وكذلك المح إليه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في أيامه الأخيرة في هذا المنصب. فعنان قال مراراً ان العراق دخل مجال الحرب الأهلية وان المنطقة الآن باتت مقبلة على «حروب إقليمية».

هل يكون لبنان مسرح ذاك المشهد الإقليمي أم تنجح جامعة الدول العربية في إلغاء ذاك الاحتمال؟ الوضع حساس جداً ولبنان يتخبط ويتأرجح في «السفينة» في وقت تظهر على السطح أدوات الخلع والقلع والقطع بينما الموانع قليلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً