العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ

من التفاؤل الكاذب إلى الخيبة الحقيقية

مشروع الإصلاح الأميركي:

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عقد في الأردن المؤتمر الثالث لـ «منتدى المستقبل» بين 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وأول ديسمبر/ كانون الأول الجاري وسط أجواء يسودها القنوط من السياسة الأميركية التي أوصلت المنطقة العربية إلى حال من الفوضى الأمنية وزعزعة الاستقرار وخلخلة التوازن الديموغرافي (السكاني) في الدول المحيطة بفلسطين والعراق.

قبل أسبوع من بدء أعمال «منتدى المستقبل» في البحر الميت أعرب العاهل الأردني عن خشيته من اندلاع ثلاث حروب أهلية في المنطقة. وكلام الملك عبدالله الثاني جاء ليلقي الأضواء على احتمالات ثلاثة: واحدة ابتدأت في العراق ويرجح أن تمتد بعد صدور تصريحات إقليمية ومحلية بشأن مخاطر انتشارها. والثانية بدأت تتحرك خيوطها في لبنان ويرجح أن تنفجر في حال لم تتدارك القوى سلبياتها وتتحرك لاحتواء انفعالاتها. والثالثة في فلسطين في حال استمرت «إسرائيل» تعاند الوقائع وتخالف قرارات الشرعية الدولية وترفض مبادرات السلم العربية.

هذا «المستقبل» السلبي الذي وصلت إليه دول المنطقة وشعوبها جاء يخالف كل التوقعات والوعود التي أطلقتها الولايات المتحدة لحظة اندفاعها العسكري لاحتلال أفغانستان نهاية 2001 وغزو العراق في ربيع 2003. فأميركا آنذاك اكتشفت أنها أسهمت في تقويض الدول وتهديدها ولم تنجح في تقديم البدائل المقنعة التي تبرر سلوكها في تمزيق شعوب المنطقة. وبسبب هذه السياسة لجأت واشنطن إلى تكتيك الخداع فأخذت تطلق المبادرات لشراء سكوت شعوب «الشرق الأوسط» التي تعاني البؤس من استبداد أنظمة المنطقة. كذلك استخدمت إدارة جورج بوش تلك الوعود لتبرير حروبها أمام الناخب الأميركي ودافع الضرائب، من خلال إيهامه بأن الولايات المتحدة تريد تبليغ رسالة حضارية ونشر الديمقراطية وتحقيق الرفاهية.

الفكرة إذاً لم تنهض انطلاقاً من دوافع إنسانية وإنما جاءت رداً على حاجة سياسية فرضت على واشنطن تزوير الوقائع لتغطية الدوافع الحقيقية لاحتلال أفغانستان وغزو العراق وتهديد الدول العربية والإسلامية بالمزيد من الحروب. فالفكرة لم تصدر عن قناعة وإنما جاءت لتبرير استراتيجية التقويض التي أعلنها مبنى «البنتاغون»بذريعة مكافحة «شبكات الإرهاب الدولية».

تحت ضغط الحاجة الأميركية إلى غطاء يستر عن الشعوب حقيقة أهدافها أطلقت واشنطن «مشروع الشرق الأوسط الكبير» ورفعت مسودته إلى مجموعة الدول الثماني الصناعية (أميركا، اليابان، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، كندا، وروسيا) لمناقشته خلال قمتها التي عقدت في سي ايلاند في جورجيا في 8 - 10 يونيو/ حزيران 2004 .وفي تلك القمة وافقت الدول الثماني مبدئياً على فكرة المشروع وأقرت خطة عمل تعتمد آليات لتنفيذ سياسة الإصلاح والتطوير ونشر الديمقراطية. وبناء على هذا التوافق اتفق على إطلاق صيغة «منتدى المستقبل» بصفته ذاك الوعاء الذي يجمع الآراء والأفكار تمهيداً لغربلتها وبلورتها في برامج ميدانية منتجة ومثمرة. وهكذا بدأت عجلات اللقاءات تتواصل دولياً وإقليميا تحت مسمى «منتدى المستقبل» فانعقد مؤتمره الأول في المغرب في 10 - 11 ديسمبر 2004 ،ثم مؤتمره الثاني في البحرين في 11 - 12 نوفمبر 2005. والآن أنجز المنتدى مؤتمره الثالث في الأردن. والنتيجة المباشرة لكل هذه اللقاءات صفر مكعب ويرجح أن تزداد الأصفار والمكعبات في الشهور المقبلة.

أسباب الفشل

يبقى السؤال: لماذا فشل مشروع تحديث المنطقة العربية/الإسلامية؟

هناك الكثير من الإجابات تبدأ أساساً من التشكيك بصدقية الولايات المتحدة ومدى التزامها الفعلي بفكرة الإصلاح والتطوير والعدالة ونشر الديمقراطية. والتشكيك يبدأ من نقطة بسيطة وهي أن من يريد الإصلاح والتحديث والتطوير لا ينطلق من مشروع تحطيم البنى التحتية وهدم الجسور وحرق المعاهد والجامعات وضرب المراكز الاقتصادية وتقويض مؤسسات الدولة. كذلك من يريد العدالة للشعوب لا يبدأ من سياسة الحروب والتدمير وتفكيك العلاقات الأهلية وشرذمة العائلات وتشريد الناس من مدنهم وقراهم.

الشك إذاً بحسن نوايا الولايات المتحدة ليس مفتعلاً ولا ينطلق من «الكراهية» و»الحسد» أو نظرية «المؤامرة» وإنما يستند إلى الوقائع وما أنجزته آلات الحرب من قتل وتخريب وتشتيت للناس في ديارهم وخارجها.

الشك إذاً ليس فرضية ايديولوجية وإنما هو مبني على معلومات وتجارب. وجاء توقيت طرح مشروع الإصلاح لدول المنطقة ليؤكد صحة رأي المعارضين. فالتوقيت اختلق لتغطية الأهداف الحقيقية من وراء الهجمة الأميركية. فالولايات المتحدة أعلنت فور احتلالها بغداد أن حربها لن تتوقف وأخذت بتهديد دول الجوار وحاولت فرض أجندة إسرائيلية عليها وأشارت مراراً إلى مشروع تغيير الأنظمة بالقوة وتعديل الخريطة السياسية لدول «الشرق الأوسط».

إضافة إلى التوقيت جاء موضوع الاستعجال في تطبيق مشروع الإصلاح «من فوق». فالولايات المتحدة تحولت فجأة من دولة كبرى تحارب القوى الديمقراطية والهيئات المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة إلى «جمعية خيرية» تستعجل حركة الإصلاحات وتدفع عنوة بمختلف القوى إلى الاستجابة لشروطها وإلا ستلاقي المصير الذي واجه أفغانستان والعراق. وبما أن المشكلات العربية والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وسوء الإدارة والتخطيط وتبديد ثروات الأمة ليس جديداً وإنما هو نتاج تراكم من السلبيات جاءت سياسة الإسراع والتسريع لتطرح المزيد من علامات الاستفهام والتعجب ولترفع نسبة الشك في صدق أميركا ونواياها الحسنة. فكل الأفكار التي طرحها المشروع لإصلاح المنطقة قديمة ومعظم المعضلات التي ادعى المشروع أنه يريد إصلاحها مزمنة وتحتاج إلى وقت لمعالجتها وتجاوزها. والسرعة القصوى التي طرحها المشروع فتحت باب الاستفهام عن جدية واشنطن ومدى قناعتها بإمكان إصلاح المنطقة في فترة قصيرة تتراوح بين 5 و10 سنوات.

إلى قصر المدة التي وضعتها واشنطن لتحقيق خطة الإصلاح والنهوض بالمنطقة ظهرت أسئلة أخرى تتصل بأدوات التنفيذ والقوى العربية القادرة على حمل المشروع والعمل على تطبيقه. فكل فكرة سيئة أو صالحة بحاجة إلى قوى اجتماعية تدافع عنها ووسائل عملية تتكفل ميدانياً في تنفيذها. وهذه الثغرة شكلت نقطة استفهام عن مدى صوابية الفكرة أو أثارت المزيد من الشكوك عن صدقية السياسة الأميركية ومدى قناعتها بالمشروع وضعف معلوماتها عن المنطقة ومشكلاتها الحقيقية. مثلاً لم تذكر واشنطن في مشروعها القضية الفلسطينية وموقعها المركزي في حل مشكلات المنطقة العادلة. كذلك لم تتردد إدارة بوش في دعم «إسرائيل» المطلق في سياساتها العدوانية.

هذه النقاط عززت أيضاً من هواجس الشك وغذت بقوة نظرية المؤامرة وطرحت أسئلة نقدية بشأن الدوافع الحقيقية التي أملت على واشنطن الإسراع في طرح مشروع الإصلاح في وقت تدك جيوشها القرى والمدن في أفغانستان والعراق وتدافع عن دك «إسرائيل» القرى والمدن في فلسطين ولبنان. فالسياسة العملية للولايات المتحدة كانت تخالف الكلام النظري. فالكلام النظري يتكلم عن «شرق أوسط جديد» كبير أو صغير وهذا يتطلب التفاهم والتقارب والوحدة والتوحيد والانفتاح وتوسيع الأسواق. بينما السياسة الميدانية كانت تصب في الاتجاه المعاكس حين لجأت إلى خلخلة منظومة الدفاع العربية وعطلت أنشطة جامعة الدول العربية واخترقت الأمن العربي وقوضت دولة العراق وهددت بتقويض دول الجوار وزعزعة استقرارها.

المنهج الأميركي كان يؤشر إلى اتجاه ويعمل فعلياً في اتجاه معاكس يعطل التطور ويلغي إمكانات الإصلاح ويوتر علاقات الدول العربية ويدفع بالنسيج الاجتماعي/ الأهلي إلى التفكك والاقتتال كما أشار العاهل الأردني في حديث له قبل أسبوع من افتتاح «منتدى المستقبل» في دورته الثالثة.

«الشرق الأوسط»

كل هذه العناصر والعوامل الظاهرة والباطنة تعتبر فعلياً من أسباب فشل المشروع الأميركي في تحقيق أهدافه، هذا إذا افترضنا نظرياَ أن طموح واشنطن من وراء تقويض المنطقة كان يريد إصلاحها وتطويرها وتحديثها. إلا أن كل المؤشرات تؤكد عملياً أن فكرة المشروع غامضة في أهدافها وغير واضحة في غاياتها.

خلال فترة السنوات الثلاث الماضية طرحت الكثير من الصيغ المبهمة للإصلاح استندت في معظمها إلى معلومات خاطئة وسلسلة أرقام غير واضحة. كذلك أسقطت تلك الصيغ العشوائية من دون دراسة أو تدقيق على منطقة تعاني من أولويات مختلفة عن مشروع الإملاءات الأميركية. مضافاً إلى كل هذه العشوائيات الإصلاحية أربكت واشنطن شعوب المنطقة من كثرة المسميات التي أطلقتها عليها. فهي حذفت من قاموسها تداول مصطلحات عرب أو إسلام واستبدلتها بمفردات للتعمية، فمرة تطلق على المنطقة شعوب «مينا» أي «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» ومرة «الشرق الأوسط الكبير» وأخرى «الشرق الأوسط الصغير» وأخيراً وبعد حفلة العدوان على لبنان أطلقت على المنطقة «الشرق الأوسط الجديد»، معتبرة أن سياسة حرق لبنان وتحطيمه هي بداية مخاض لولادة جديدة.

المشروع إذاً غير واضح الحدود السياسية والجغرافية ويكتنفه الغموض. وهذا النوع من الارتباك في تحديد المعالم أضعف هوية الفكرة وأعطى الكثير من النقاط السلبية لمعنى هذه الرخاوة في توضيح الصورة وزاد أيضاً من نسبة الشك وأعطى صدقية لنظرية المؤامرة وأثار الغبار بشأن الأهداف الحقيقية والدوافع المصلحية التي أملت على إدارة بوش الإسراع في طبخ مشروع لا تعرف حدوده ويحتاج إلى آليات وأدوات لتنفيذه وهي غير متوافرة في منطقة بائسة تتحمل الولايات المتحدة مسئولية الكوارث التي حلت بها من السودان وفلسطين ولبنان إلى العراق وأفغانستان.

انعقد في الأردن المؤتمر الثالث لـ «منتدى المستقبل» في جو تخيّم عليه الأثقال السياسية وعدم التفاؤل بالمستقبل والخيبة من الإصلاح. فالرئيس الأميركي يجرجر خيبات أمله من فشله في الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة إلى بحثه عن مخرج تسووي ينقذ ما تبقى له من مدة رئاسة باتت تترنح في الداخل والخارج. ورئيس الوزراء العراقي دائخ في سياسته ولا يعرف ماذا يريد وكيف يلبي حاجات أميركا في وقت تهدد أعمال العنف والاقتتال الأهلي حكومته. وفي فلسطين يستمر الاحتلال في عدوانه وأوروبا وأميركا في حصارها للشعب في وقت يطرح إيهود أولمرت مشروع تسوية على حساب نهوض دولة وعودة الناس إلى ديارهم. وفي لبنان هناك بدايات انهيار أهلي نجمت عن تداعيات العدوان الأميركي - الإسرائيلي عليه.

كل هذا حصل في سنوات ثلاث من الوعود بالإصلاح بينما الوقائع تشير إلى مزيد من الخراب. وهذه الوقائع دفعت العاهل الأردني إلى التحذير من مشروعات فتنة مذهبية تقوم على سياسة الدفع نحو تفكيك العلاقات الأهلية في ثلاث دول على الأقل: العراق، لبنان وفلسطين

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً