العدد 1583 - الجمعة 05 يناير 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1427هـ

بينوشيه... دروس من تجربة دكتاتور لاتيني!

مصباح الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع مصباح الحرية

رواية أوغستو بينوشيه الطويلة، ربما تكون بعيدة عن نهايتها، فسياسات أميركا اللاتينية هي غرفة كبيرة مليئة بالأشباح من الماضي، بيد أن وفاة دكتاتور تشيلي تعطينا على الأقل فرصة لاستعادة أحد أهم الدروس المستقاة من تاريخ بلاده الحديث.

الدرس الأول، هو أن المثاليات الاجتماعية تنتهي دائما بالدموع. لقد كان لدى تشيلي تراث ديمقراطي عندما جاء الماركسيون اليساريون إلى الحكم في العام 1970، بيد أن هذا التراث لم يكن قويا بدرجة كافية تمكنه من الوقوف أمام الطريق الثوري الذي اختار الرئيس سلفادور أليندي أن ينتهجه. لقد سخر اليسار بالمؤسسات التي أتاحت له الوصول إلى السلطة ودفع بالنظام الجديد إلى ما بعد حدوده، وبالتالي تسبب برد فعل عسكري شديد القساوة. واليوم، فقد تعلم الاشتراكيون في تشيلي الدرس من تلك التجربة.

الدرس الثاني، هو أنه لا يوجد شيء اسمه «الدكتاتورية الطارئة»، فأولئك الذين دعوا إلى تدخل عسكري، وكان من بينهم الديمقراطيون المسيحيون من يمين الوسط، ارتكبوا خطأ فادحا في ظنهم أن القوات المسلحة ستعود أدراجها إلى ثكناتها بمجرد أن تنتهي «حال الطوارئ». وما إن وُضع حكم القانون جانبا وتم التخلي عنه، حتى لم يبقَ من شيء يقف أمام بينوشيه وتعزيز قبضته على السلطة، كما حدث في حالات كثيرة، في قارةٍ تعشق القادة والحكام الأقوياء، وبالتالي استندت السلطة إلى تأييد شعبي كبير.

ودفع كثير من الديمقراطيين المسيحيين ثمنا باهظا لتأييدهم بينوشيه، وسعوا فيما بعد إلى تصحيح سوء التخطيط ذاك بتحالفهم مع الاشتراكيين منذ عودة الديمقراطية إلى البلاد في العام 1990.

الدرس الثالث، هو أن الأسواق الحرة والحكومات الدكتاتورية هي في نهاية المطاف لا تلتقي؛ لأن نظاما اقتصاديا حرا يتطلب توزيع السلطة، وهذا من شأنه في النهاية أن يحد من قدرة أولئك الذين يتولون زمام الحكم على مواصلة حكمهم. نعم، لقد كانت الإصلاحات الاقتصادية في عهد بينوشيه ناجحة جدا، بيد أنها خلقت جيلا من الطبقة الوسطى كره أن تحكمه العساكر. ومن السخرية أن الذين خلفوا بينوشيه أثبتوا أنهم ضامنون للاقتصاد الحر أفضل من الجنرال بينوشيه نفسه. فمنذ العام 1973 كان معدل النمو الاقتصادي السنوي 4 أضعاف، في المعدل، مما كان عليه بين 1810 وتاريخ وقوع الانقلاب العسكري. وفي الوقت ذاته، تراجع التأييد لبينوشيه بشكل منتظم على امتداد العقدين الماضيين، إذ نال 43 في المئة من الأصوات في الاستفتاء الذي خسره في العام 1988، وكان مرفوضا على نطاق واسع عند وفاته.

أما الدرس الرابع، فهو أن حقوق الإنسان ليست اختراعا حققته جماعات حقوق الإنسان، مهما كان الكثير من تلك الجماعات منحازة (فهي لم تتوقع نصف الضغط على دكتاتورية فيديل كاسترو الذي وضعوه على بينوشيه). لا شيء يمكن أن يبرر قتل 3197 إنسانا، وتعذيب أكثر من 29 ألفا وإرسال الآلاف إلى المنافي، كما جاء في تقرير اللجنة الوطنية للحقيقة والتصالح في العام 1991. ذلك السجل الوحشي لم يكن الثمن الذي دفع للاستقرار - الذي جاء فعلا مع نهاية النظام العسكري - بل كان نتيجة حتمية لحكم رجال يرتدون الزي العسكري. لقد فشلت إدارة نيكسون في أن ترى هذه الحقيقة، وكان من شأن ذلك تأجيج المشاعر المعادية لأميركا في «الهمسفير» الغربي. لقد تم تطوير حكم القانون لأن أي إنسان يملك قوة كبيرة قادر على ارتكاب أعمال مشينة.

إن جيشا يتحكم في أمة تحكما بلا قيود، سواء أكان يقوده بينوشيه أم كاسترو، سيرتكب على الدوام القتل والخطف وتعذيب المواطنين الذين يراهم يهددون نظامه. ونتائج السماح لذلك ستستمر في إلقاء ظلالها الداكنة على الشعب بعد زمن طويل من نهاية حكم ذلك النظام. فالجروح المفتوحة مازالت تُرى في المجتمع التشيلي وهي تشهد بهذه الحقيقة.

الدرس الخامس، هو أنه لا يوجد هنالك شيءٌ يمكن تسميته «الدكتاتورية الخالية من الفساد». فعلى امتداد سنوات كان ينظر إلى بينوشيه على أنه جندي «أخلاقي». وكان مؤيدوه يزعمون أنه كان خلافا للكثيرين غيره من الحكام العسكريين، إذ إنه لم يسرق أي مالٍ أبدا. لكن في العام 2004 كشفت لجنة تحقيق أميركية منبثقة عن مجلس الشيوخ الأميركي النقاب عن أن بينوشيه أودع عدة ملايين من الدولارات في بنك ريغز في واشنطن وفي غيره من المؤسسات، مستخدما هويات مزورة، وتبعت ذلك اكتشافات أخرى.

وآخر درس هو أن الانتقال إلى حكم القانون يجب أن يهدف إلى تحقيق عدالة جزئية على الأقل، إذا لم يكن بالإمكان تحقيق العدالة الكاملة وانسجامها مع الحفاظ على الفترة الانتقالية. لقد تحركت محاكم تشيلي متأخرة كثيرا ضد بينوشيه بسبب خشيتها من إثارة المؤسسة العسكرية، ولم يكن إلاّ بعد أن سمحت السلطات البريطانية له بالعودة إلى سانتياغو بعد 503 أيام من التوقيف في لندن، حينها تحرك النظام القضائي في تشيلي. نعم... لقد تم رفع الحصانة عن بينوشيه ما مجموعه 14 مرة، وكان عليه أن يقضي معظم سنوات حياته الباقية مناورا لتفادي السجن، لكن لم يحكم عليه أبدا. وكانت فترة الانتقال التشيلية في اتجاه حكم القانون مليئة بالشعور بالذنب، ما سيجعل من الصعب مكافحة شبح بينوشيه في المستقبل المنظور.

*معهد «الإندبندنت» في كاليفورنيا،

والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»

إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"

العدد 1583 - الجمعة 05 يناير 2007م الموافق 15 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً