العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ

السياب... والتباس المقـاومة والكتابة

«الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينة

والعابرون إلى القرارة مثل أغنية حزينة

وتفتحت كأزهار الدفلى، مصابيح الطريق

كعيون ميدوزا تحجر كل قلب الضغينة

وكأنها نذر تبشر أهل بابل بالحريق

من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف

من أي وجر للذئاب؟»

نعم مرة أخرى نعاود مقاربة السياب، حيث العراق مرة أخرى مثقل بأصفاد احتلال جديد ومحنة متجددة. وها هي الهوية الوطنية ما بين عرض مومس عمياء تعطي كل شيء وتبدد الفردي والجماعي، وما بين قارورة الثقافة كفعل مقاومة حقيقي ضد كل ممارسة للعنف ترفع راية التزوير الإعلامي بكونها تمثل الوطن سوق للشهوة المفتوحة الجشعة والمنغلقة الكراهية بجميع الأغلال الطائفية والحزبية والمناطقية، ليس فقط «الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينة»، وإنما تشربه القلوب فإذا بالنذر التي استشعر السياب قدومها في قصيدته القديمة تلك، تطبق على العراق وتحاصره وتخنقه.

فإذا كانت العقائد والميثلوجيات القديمة انحصرت ما بين الخير والشر والنور والظلمة والماهية والوجود (باعتبارنا نعتقد أن فلسفة ملاصدرا تطوير للتراث الإيراني القديم)، فإن العراق انحصر ما بين الحرب والشِعر، لكن بمزيد من اللبس والالتباس إذ تتصارع حرب الشعر وشعر الحرب جنبا إلى جنب: حرب الحرب وشعرية الشعر.

السياب أحد فواصل النضج الثقافي والقول النقدي المجدد، فليست القوافي هي التي هشمت في معبد الأوزان وضوابط الصرف وضروراته، وإنما الذي تهشم قبل هذا، ذلك السلوك في استخدام الأداة اللغوية ذاتها. مع السياب وضعت جدران عالية ضد ذلك اللون من الشِعر المطبل والمنافق سياسيا واجتماعيا المتمثل بقصيدة لتبريك هذا التجار على ولادة ابنه العاشر، والتزلف لذاك الجنرال على مذبحته المليون.

مع السياب لا يتعمق النظر في الشعر بأن التجديد الشعري كان ضد الوفاء للقوافي ولضوابط البحور الوزنية، ليتطور الأمر إلى مخاصمة الوزن من الأساس على يد ما سيسمى بقصيدة النثر وقصيدة النص.

حينما نعاود قراءة ما حصل في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، نجد أن التجديد الشعري كان يعتبر حركة تتخاصم مع السلطة السياسية ولها شجاراتها مع الهيئات الاجتماعية والدينية، فهل تتحسس السلطة السياسية والاجتماعية من مجموعة أدباء تركوا الكتابة بحسب ضوابط الفراهيدي؟!

التجديد الشعري كان تغييرا في موضوع القصيدة نفسها وليس في شكلها، في غريب على الخليج وأنشودة المطر والمومس العمياء، لن تجد تبريكا لخليفة ولا تملقا لطائفة، ولا تبريكا لتكتلات اجتماعية. هذا ما ينجلي بوضوح أكبر في كيفية عرض السياب لمدينة جيكور ونهر بويب، بشكل كبير وواضح، فتلك المدينة الهامشية، وذلك النهر الصغير، عرضهما التجديد السيابي بكونهما الأرض وبحر ما بين القمر والمجرات البعيدة، بكلمة أوضح: السياب مشروع فتح الباب على انسنة الشعر، والخروج بالإبداع الأدبي عن الثكنات والمعابد الاجتماعية والدينية. وهذا هو الذي يوضح لنا سر نجاح السياب بأن يكون جزءا من تكونات الهوية العامة للوطن وللأمة واشراع نافذة مطلة برحابة على العالمية.

لذلك سنفهم على ضوء هذه القراءة: سر تعاضد الفئات الناقمة على السياب شعريا أو استذكاريا، وتلك الفئات النافخة بنيران الحروب والأحقاد والانقسامات الوطنية والإنسانية، مهما حاولا تزويق جنوحهما الإجرامي بزخرفات إعلامية وتهويمات ادعائية، أو بحسب تعبير قصيدة السياب ذاتها هذه التي بين أيدينا، المسماة بلا مصادفة بالمومس العمياء:

«من أي عش في المقابر دف اسفع كالغاراب؟

قابيل أخف دم الجريمة بالإزهار والشفوف

وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء

ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء

عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة

والليل زاد لها عماها»

ما بين هاتين الفئتين ستجد زعامات موت وتسلط وشعراء بلاط من شتى الأصناف وتحت الطلب، حتى وصل الأمر إلى محاولة اغتيال السياب مرة أخرى بمحاولة التخلص من تمثاله وإعفاء قبره وهجران استذكاره، هؤلاء لا يريدون إلغاء نظرية أدبية، أو التخلص من سيرة شخص، هؤلاء ينافحون من أجل ما هو أبعد وأعمق وأخطر:

هؤلاء يريدون استبدال الوطن وإعادة مسخه بحسب أمزجة طائفية وقومية خاصة ومنغلقة، من الطبيعي أن يكون السياب خصمهم فهو أحد رواد الانفتاح الإنساني والثقافي الرحب والواسع العميق، كما أنه أحد أدلة النرجسية المتضخمة لنوع يحاول أن يميز نفسه من المتثقفين. وعليه فنحن مع الثياب لا نستذكر فرد شاعر وإنما نعاود قراءة نوع متميز من الثقافة، ثقافة ترفع النموذج من سلوكية المقاومة المغتالة للوطن، فكما لا قراءة للشعري من دون مراجعة السياب، كذلك لا معنى أي مقاربة للسياب من دون تجديد النظر في الهوية والأرض والوطن والإنسان، إن الذين يدعون سلوكا ما في المقاومة والكتابة ويتنكرون للتسامح السياسي والانفتاح الثقافي، هؤلاء هم الذين ستكمل قصيدة السياب الطويلة ذاتها وصفهم بأنهم:

«والأعين التعبى تفتش عن خيال في سواها»

فنجد الفوتغرافي احسان الجيزاني مثلا يترك تصوير جسد تمثال السياب، ويلقي الضوء على قديمه فقط، أي بذلك الجزء المرتبط بتراب الوطن والنقطة الأقرب إلى الأرض، الأرض التي تمثل العنصر المشترك لفقه الوطن والأمة والشراكة الإنسانية. لذلك كانت لقطة كهذه تلقي أن يكون السياب «تمثالا»، فحينما يتم تحويل الشاعر إلى تمثال وقراءته بهذا النمط فإن ذلك يعني إعفاءه عن وظيفة الشعر وشطبه من الأدب، كما كان يدلل الشاعر القتيل محمود البريكان.

هذا بالإضافة إلى أن لقطة الكاميرة المصوبة للإقدام والمخرجة لها بكونها هي الصورة، تدلل على عنصر الثبات؛ إذ إن جميع الحركات التي أتت بعد السياب لم تتخلص من تزلزل واضطراب كبير.

وهنا عنصر المفارقة، فما هو ثابت وعنصر مشترك في الثقافة والسياسية هو المهمش والمقصي، فإذا بقبر السياب اثر منسي يستذكره فنان فوتغرافي بجلب خطاط يعيد رسم شاعر الأمة الكبير: أمة نست تجديد كتابة اسم شاعرها عبر تجديد معاركها وحروبها وتنابذها بالسيف واللسان، فكان استذكار السياب محاولة من الذات استذكار نفسها. فما يُعّرف الذات لا يكون عنصرا تدميريا، ومن يريد المقاومة للوطن لا يكون فأويا تخريبيا. لذلك نلاحظ أنه على رغم انتماء السياب إلى الرومانسية، إذ يفترض التمحور حول الأنا الفردية، فإنه كان مشروع كتابة صوتها الوطن والجماعة والإنسان.

إذ الكتابة فعل وطني وأخلاقية إنسانية عامة، وهي أيضا مقاومة للبشع والقبيح، حيث التدليل على فقر السوق القديمة وسلوكية حفار القبور، وإشكالية المومس العمياء، ومفارقة الوطن الفقير الغني في قصيدة أنشودة المطر. فالمقاومة ليست عنوانا بلا مضمون، ولا لافتة سياسية تختبئ فيها تجارة محرمة ومعارك من أجل مناصب مناطقية وشخصية. تماما كالكتابة التي هي معلم من معالم التقدم الحضاري وممارسة للذات الإنسانية في قراءة نفسها والعالم والنص والوجود، وليست نخاسة إعلامية تدافع عن الطغاة ووسيلة خدمية لزعامات المال والمؤسسات. ومن هنا كنا نجد أننا في كل مرة نقارب فيها التجربة السيابية، نجد أننا لا نلتمس تفكيك عناصر النجاح الأدبي والتجديد الشعري، فيكون السياب إشكالية لغوية فقط، وإنما نحن بمقاربة السياب نزاول مقاربة المقاومة الحقيقية عن تلك الأخرى المزيفة، ومقاربة مسئولية المثقف وسؤال الوجود، وسجالية العالم والتباس النص. فكان لنا في كل مرة سؤال مختلف وهمنا المغاير، ولقطتنا التصويرية والتأملية المستجدة لسياب الذكرى وذكرى السياب، كتجديد للفعل والقراءة الثانية، إذ تتفتح مشاعر التسامح والرؤية الإنسانية: كأزهار الدفلى مصابيح الطريق.

* كاتب عراقي مقيم في استراليا

العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً