العدد 1721 - الأربعاء 23 مايو 2007م الموافق 06 جمادى الأولى 1428هـ

سيرة حياة إنسان متوحش

«هانيبال» في سينما السيف

فيلم «هانيبال» - الذي يعرض الآن في سينما السيف - يتحدث عن سيرة هذا الوحش البشري. فالشريط الأخير من هذه السلسلة عن شخصية هذا الإنسان المتوحش، يحاول إلقاء الضوء على الأسباب والعوامل التي ساهمت في تكوين تلك القوة المجرمة والمخيفة.

الأفلام السابقة ركزت على الأفعال؛ ما طرح أمام المشاهد أسئلة عن الدوافع التي صنعت هذه الشخصية. فالمجرم لا يولد فجأة. كذلك القاتل الذي يرتكب أفعاله ويشوِّه ضحاياه بأسلوب سادي لابد أن تكون هناك مجموعة عوامل صنعت هذا العنف المتوحش.

الشريط الأخير من المجموعة أجاب عن أسئلة المشاهد. فالمدعو «هانيبال لكتر» هو نتاج جريمة ارتكبت ضد أهله حين كان في سن الطفولة في العام 1944 حين بدأ السوفيات هجومهم المعاكس لدحر النازية في أوروبا الشرقية.

في هذه السنة وهي الأخيرة في نهاية الحرب العالمية الثانية شهد شرق القارة معاركَ عنيفة بين الجيوش المتحاربة. وأدت هذه المعارك إلى تشريد عائلات وتدمير قرى واجتياح بلدات واجتثاث جماعات أهلية لأسباب عرقية أو دينية أو اجتماعية. وتحت وطأة المواجهات عانت الكثير من الأسر حالات تمزق وجوع وخوف دفعت بالآلاف نحو مغادرة منازلهم والهرب إلى الريف أو الغابات بحثا عن ملاذ آمن وبعيدا عن المواجهات بين الجيشين النازي والأحمر.

من تلك العائلات كانت أسرة «هانيبال» التي اضطرت إلى مغادرة منزلها في البلدة واللجوء إلى بيت في الريف يقع على مقربة من غابة. إلا أن حظ الأسرة الهاربة والخائفة كان عاثرا. فالبيت الريفي ليس بعيدا عن الحرب وهو يقع على تقاطع طرقات تحتاج إليه الجيوش المهاجمة أو المنسحبة أو تلك المجموعات المسلحة التي أخذت تتراجع وتقتل وتنهب وتسرق الناس وهي في طريقها إلى الغابات.

أسرة «هانيبال» كانت تتألف من أب وأم وطفل وطفلة وهي الشقيقة الوحيدة والصغيرة له. وحظ الأسرة السيئ لعب دوره في تكوين ذاك الوحش في شخصية الطفل. فالهجوم طال الغابة والمنزل الريفي وأدت الاشتباكات بين الجيش الأحمر والنازي إلى تدمير أجزاء من البيت ومقتل الأب والأم وبقاء الطفلين. إلا أن المصيبة لم تتوقف عند هذا الحد. فهذا المنزل الريفي كان عرضة لهجوم من قبل عصابات مسلحة هربت من الجيش الألماني وأخذت تنهب وتسرق وتقتل مستفيدة من الفوضى العامة وانشغال الناس في البحث عن أمكنة تضمن حياتهم من السلب والقتل.

آنذاك حُرِقت المزارع وتوقفت المصانع وعمّت الأمراض وانتشرت المجاعات. فالحرب تكفلت بتخريب المستودعات وأتلفت المنتوجات وأبادت حتى مزارع البقر والأغنام والدجاج. حتى الطيور والحيوانات فرّت من مناطق المواجهات ولم يبقَ فيها ما يكفي لسدّ رمق الجوع.

في إطار هذا المشهد المتداعي انعزل الطفلان فيما تبقى من منزلهما الريفي إلى أن اقتحمته مجموعة مسلحة بغية السلب والسرقة وبحثا عن مخازن للطعام والحبوب. مشهد اقتحام المنزل كان خطوة أولى في إطار مسلسل رعب وخوف وقلق أصاب الطفلين. فالمجموعة التي استغلت الفوضى وأخذت بالاستيلاء على موجودات البلدات والقرى وجدت نفسها في موقع عسكري حساس لا تستطيع الإفلات منه فقررت البقاء في المنزل الريفي لفترة وجيزة حتى تسنح لها الفرصة للهرب مع السرقات (ذهب ومجوهرات). إلا أن الجوع داهمها وأخذت تبحث عن موارد غذاء وطعام في منطقة نائية. وحين لم تتوافر الحاجة قررت العصابة قتل الطفلة الصغيرة وطبخها أمام شقيقها الطفل «هانيبال».

هذا المشهد المقرف والمقزز للنفس شكّل الأساس النفسي لنمو ذاك الوحش في داخل «هانيبال» الذي تحوّل إلى سفاح ومجرم يريد الانتقام من المجموعة التي ارتكبت تلك الجريمة الرهيبة والموجعة.

قتل الطفلة أمام شقيقها الطفل كان البداية. فهذا الذي شهد المنظر المخيف والمرعب لم يكن بإمكانه فعل شيء لحماية شقيقته. وبقي حس الثأر في داخله يدفعه ويحرّضه على الانتقام من جريمة بالأسلوب نفسه.

«هانيبال» الكبير إذا كان مجرد طفل بريء شاء القدر أن يعرّضه لامتحان قاسٍ ليرسم في داخله شخصية متوحشة تتعامل مع الضحايا بالأسلوب نفسه: تشويه الضحية وتمزيقها وأكلها بشراهة.

كبر «هانيبال» وتربّى في مدرسة أيتام أقامتها الدولة بعد هزيمة النازية. والمجموعة المسلحة آكلة الطفلة هربت لاحقا مع المسروقات والمنهوبات إلى فرنسا واتخذت أسماء مستعارة وأسّست شركاتٍ تمارس تجارة الرقيق (النساء) والأسلحة وغيرها من محرّمات وممنوعات. وحين بلغ الطفل سن الشباب قرّر الانتقام فهرب من مأوى الأيتام وشرد إلى ضواحي باريس حيث تقيم زوجة عمّه.

التدريب على القتل

زوجة عمّه - الذي قُتِل في الحرب - على مذهب الشانتو البوذي وقتل أهلها أيضا في قنبلة هيروشيما. هذه الصبية عانت من الحرب ولكنها لجأت إلى التديّن لتخفيف الوطأة النفسية. حاولت اليابانية أن تنقذ «هانيبال» من هواجسه الليلية وأرقه النفسي وأفكاره الحاقدة والداعية إلى الانتقام وفشلت. ولكنها نجحت في تدريبه على ممارسة هواية الكاراتيه واستخدام السيوف بأسلوب فني وسريع.

أدى التدريب على القتال إلى تطوير نزعة القتل. فـ «هانيبال» استقوى بالسلاح واكتسب مهارة فنية وتقنياتٍ وسرعة وخفة كان يحتاج إليها؛ للثأر من القتلة. ومن هذه الزاوية بدأ مسيرته في طريق تنفيذ ذاك الوعد الذي قطعه على نفسه حين انتُزِعَت شقيقته منه وقُتِلَت بدم بارد لتُطبخ وتُوضع على مائدة اللصوص.

خطورة فيلم «هانيبال» أنه يضع المشاهد أمام صورتين: الأولى التعاطف مع الطفل الذي انتُزِعَت منه البراءة. والثانية قساوة الانتقام والمبالغة في الوحشية. وبسبب تعارض الصورتين يقع المشاهد في مشكلة بين تفهّم دوافع القتل وعدم الرغبة في الثأر البشع الذي يفوق التصوّر.

«هانيبال» في النهاية هو شاب مريض وقع أسير مشهد مروّع في طفولته لم ينجح في تجاوزه والسيطرة عليه. فهو بريء من جانب ومجرم من جانب آخر. وهذا التعارض في الصورتين يشكّل أساس الفكرة التي أراد المخرج نقلها إلى المشاهد حين تحدّث عن سيرة وحش بشري.

أراد المخرج أن يضع نفسه على مساحة محايدة إذ حاول تقديم نماذجَ عانت من المصيبة نفسها. اليابانية قُتِل أهلها في هيروشيما ولكنها لم تفكر في الانتقام. ورئيس الشرطة (المحقق الفرنسي) قُتِل أهله إبان الغزو النازي لدياره ولكنه قرّر مطاردة المجرمين من طريق القانون والقبض عليهم وجلبهم إلى القضاء.

«هانيبال» لجأ إلى سلوك آخر تخطى القانون وذهب بعيدا في الغابة المتوحشة التي تأبى القبول بما هو معقول ومحدود. فهذا الطفل رحل وتوقف نموّه الإنساني في لحظة مأسوية بشعة. نظرات الطفل تسمّرت على البشاعة ولم تعد عيونه ترى الجمال في الحياة.

سيرة «هانيبال» عنيفة وسرّها يكمن في طفولة قُيّض لها أن تكون بشعة ومتوحشة من دون قرار منه وإنما بخيار فرضته ظروف الحرب وما أفرزته من آليات أسّست تلك الشخصية المرعبة التي ترتاح لسماع أوجاع الضحيّة وتتلذذ بمشهد الموت وتتغذى بأشلاء الجسد.

العدد 1721 - الأربعاء 23 مايو 2007م الموافق 06 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً