العدد 175 - الخميس 27 فبراير 2003م الموافق 25 ذي الحجة 1423هـ

غزل البنات: صناعة وأسرار

من عضلات الرجال إلى أفواه الأطفال

معظم الاطفال يجهلون أين منبع «غزل البنات»، هذا النوع من الحلوى الذي يشبه الشعر المنفوش أو الحرير المندوف، المتلون ألوانا جذابة، فيسيل له اللعاب.

يأتي باعة «غزل البنات» من عالمهم الغامض بكل أبهتهم المزركشة، راجلين أو في سيارات، أو فوق دراجات، تسبقهم نداءاتهم الحاملة وعدا بالأطايب.

عالم حميم يشيعه هؤلاء الباعة، وانت تلتقيهم في الشوارع والساحات وعند المنعطفات وعلى أبواب المدارس... تنتشر أخبار قدومهم مثل شائعة، فيهرع الاطفال، وحتى الكبار، إلى الشراء او الفرجة، ودعك من السكاكر الوافدة المغلفة، المعروضة في الواجهات، فهذه تستدرج الاطفال اليها فلا تكلف نفسها عناء الذهاب إليهم. واما باعة غزل البنات فعالمهم أرحب، فهم سادة الشوارع والساحات، وهم متواضعون، حميمون يذهبون الى الاطفال حيثما وجدوا.

وفيما تتعزز جبهة الشوكولا والبونبون بإنجازات العلم والاختراع، وترفل باستمرار في أوراقها الملونة القشيبة، فإن قوة «غزل البنات» في شعبيته وفي بساطته وفي تقنيات صنعه التقليدية.

نافورة من الشعر الملون

و«غزل البنات» نوعان: أبيض وملون... أما الملون فمعروفة تقنيات صنعه. حتى ان الباعة ربما أتوا بآلة صنعه يدورونها على مرآى من زبائنهم الصغار، يلقمونها السكر الخام والصبغة، فيخرجان - على نحو غامض - نافورة من الشعر الملون الحلو. ولكن هذه الآلة نفسها تفقد شعبيتها وبساطتها اليوم، اذ تتخلى عن التسخين بـ «وابور الكاز» وتعتمد على الكهرباء، واذ يحبسها صناع «غزل البنات» في المعامل والمحلات.

وأما «غزل البنات» الأبيض، المزين بالفستق الحلبي المطحون، المغلف بأكياس النايلون، فقصته قصة!

كنا نحسب انه يخرج - الأحمر والأصفر - نافورة من آلة تدور، حتى رأيناه في المحترف، فإذا قصته قصة، واذا الجهد المبذول فيه يغير التوقعات، ففي صنع هذا النوع من الحلوى، الذي يذوب في الفم بسهولة، تبذل جهود، ويحتاج إلى عضلات وخبرات.

تاريخ غزل البنات

ولكن مهلا... أفما يحسن بنا أن نعرف لماذا سميت هذه الحلوى «غزل البنات»؟

محمود هوانا، أحد صناع «غزل البنات» في بيروت يقول إن التسمية بدأت مع أسرته، فلا يجيب عن السؤال مباشرة، بل يقدم تاريخا موجزا لـ «غزل البنات» في اقطارنا العربية. فـ «غزل البنات» منشؤه تركيا، وجاء الى لبنان وسورية وغيرهما أيام «السفر برلك».

نحشر هوانا في زاوية السؤال، فيقول: «أبي كان عنده سبعة ابناء... كانوا يساعدونه في صنع «غزل البنات»... وجدوه شبيها بشعر البنات، ثم وجدوا ان البنات حين يتحاورن يقلن كلاما فيه غزل... من هنا منشأ التسمية».

ولكنك تقدم تفسيرين لا تفسيرا واحدا. ثم انك تريد القول ان التسمية بدأت مع والدك؟

- نعم... هو سماها «غزل البنات»، وكانت في تركيا تعرف بـ «الحلاوة».

فكيف انتقل «غزل البنات» من تركيا الى لبنان؟

- سنة 1914 أخذوا والدي الى تركيا... غاب هناك مدة ثم رجع من الحرب سالما... في تركيا شاهدهم يصنعونه، فتعلم، ولما رجع علّمنا.

لا نظفر من حديث محمود هوانا بتفسير يركن اليه، فلماذا لا نفترض منشأ أكثر واقعية، كأن نقول ان خيوط «غزل البنات» الدقيقة تشبه خيوط الحرير التي تغزلها البنات... ثم، ما الفرق بين «غزل البنات» الآلي وهذا الغزل الذي صنع يدويا؟ يجيب محمود هوانا: «ذاك، الملون بالأحمر والزهري والأصفر، سكر خالص، مع بعض الصباغ... غزلنا نحن، هذا اليدوي الصعب، يدخل فيه السكر والطحين والسمن».

سر الصنعة

لو تحدثنا بالتفصيل عن تقنيات صنعه.

- نأتي بالسكر، كما رأيتم، ونغليه في قدر نحاس حتى يصبح معقودا، مثل ذلك الذي تنزع به النساء الشعر... نعقده بحرارة تتعدى المئة درجة. بعد ذلك نضعه على رخامة وندلكه حتى لا يبرد، ثم ننزله الى صدر نحاس كبير... في هذه الاثناء نحضر على النار طحينا وسمنة حموية... نضع السكر المعقود مع الطحين، بعد ان نجعله كعكة كبيرة، ثم يتولى أربعة رجال أشداء أو خمسة جعل الكعكة كعكتين، ثم اربعا، فثمانيا، الى ما لا نهاية، حتى يدق المعقود ويصبح عشرات آلاف الخيوط... بعد ذلك ننفشه ونقسمه ثم نوضبه في أكياس نايلون أو علب بلاستيك.

في الماضي كنتم تعرضونه في صناديق زجاجية، وتبيعونه غير مغلف؟.

- نعم... كنا نعرضه أمام المدارس وأمام دور السينما... وقت الاستراحة يخرج رواد السينما من الصالة ويشترون.

هذه المهنة هل فقدت سرها؟

- نعم... بإمكان أي انسان صنعها... ولكنها شاقة وتحتاج الى عضلات قوية، ولذلك لا يصنعها أحد في المنازل.

كانت غزل البنات حلوى منزلية في الماضي؟

- هكذا كان في تركيا... اشياء كثيرة تغيرت، لا غزل البنات وحده.

هل جربتم صنع غزل البنات آليا؟

- هذا النوع لا يكون إلا يدويا... انا حاولت تصميم آلة، فوجدت انها تكلف مالا كثيرا.

تدوم صنعتك؟

- تدوم الى ما شاء الله... انا أزاولها منذ العام 1936، ولا أزال أزاولها... نتوقف عن العمل في الصيف لأن غزل البنات لا يصمد للحر، ثم نعاود العمل في سائر الفصول. والمصلحة مزدهرة.

غزل البنات حلوى تركية تنتشر في الاقطار العربية، شأنها شأن سائر انواع الحلوى التي تسمى مع ذلك «حلوى عربية».

وايا ما كان منشأ التسمية، ففرضية الشبه بين خيوط غزل البنات وخيوط الحرير الخارجة ناعمة من بين أنامل البنات، تبدو الفرضية الأقرب الى المنطق.

وغزل البنات الذي يحبه الصغار، مبذول للجميع، فلا تستغربوا اذا همسنا في آذانكم ان الكبار يحبونه ايضا، وانه ربما قُدّم، كالنقول، إلى الضيوف فأكلوه وتندروا هربا من الحرج

العدد 175 - الخميس 27 فبراير 2003م الموافق 25 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً