العدد 178 - الأحد 02 مارس 2003م الموافق 28 ذي الحجة 1423هـ

بعيدا عن الجسد

ليلة من الجنون التام... ما أراحني أنني أخيرا سأتوقف عن ملاحقة دودة ضياع تتقن الانزواء في تفاحة القلب... وأنني سأترك جسدي... هذا الهيكل المحشو بالوجع... سأخلعه... سأجري عارية الروح في أحراش اللاشيئية... وربما سأطفو قليلا للأعلى... أجرب أن أكون طيرا... بلا مادة زيتية ما ادهنها على أجنحتي... مجرد الاستحمام بعطر الرغبة... أغمر نفسي في شلال النوايا الحسنة أو حتى السيئة وأبدأ الرحلة... رحلتي المؤقتة للنسيان... للانسلاخ من استسلام دوني اعتدت اللجوء اليه اتخذت قراري... ليلة من الجنون التام... واعتبرها ليلة صحوي الوحيدة... رفيق وحشة ما... درب ما... غربة ما... حملني في قمقم الاثارة... اغلق الفوهة... قادني حريقا للهفة لجلسة سرية للجنون...

نور خافت... خافت... يذكرك بزقاق مجهول النزعة داخلك... تحس وأنت تخطو للداخل... للداخل وكأنك تسير في اعماقك... وكأنك تدوس شريانا للدم يجري... هناك وتضيق المسافة... وكأنك تمشي في خنصرك... يتفرع الطريق... نعم ثم البنصر... اخيرا نصل الى الابهام... لننساب جميعا للداخل... هدوء... هدوء... شدني الرفيق من يدي.... انتبهت توا لشخص يتوسط المكان... يتحلق حوله مجموعة من الرفقاء... رفع رأسه باتجاهي... نظر من خلالي... كانت نظرته نافذة... مؤلمة... مؤلمة... وكأنه يثقبني بمسمار... وفاجئني ذاك الصداع... وهو مازال هناك ينظر... وينظر... رفعت عيني الى وجهه... لم يدهشني نور أخضر في عينيه... وربما أبيض... إذ أنني من الصداع لم أعد أميز الألوان... وسمعت صوتا... صوتا حارا... حارا... لا نبرة ما... حنان... قسوة... لا شيء... صوت متطرف الحياد...

لماذا...

تطلعت بحيرة في فمه... همس الرفيق في أذني: قولي له سبب وجودك هنا...

فتحت فمي لأجيب:

صوتي أين صوتي؟ افتش عن احبالي الصوتية عن حنجرتي... يبتسم ذاك الغامض... يتحدث بغرابة: لا يهم... تعالي اجلسي بجانبي... يجمع علامات السؤال في عينيه ويهمس: لقد قرأت أفكارك... كيف يملك انسان كل هذا الوهج... كل هذه الحرارة... ومازال ثمة بخار ما يخرج مع انفاسه... زال صداعي فجأة مثلما جاء فجأة... تقدمت ببطء... دفعني الرفيق من خلفي مشجعا... تقدمت ببطء... وتربعت إلى جانبه... ولكن هل اقول إلى جانبه لم يكن شيئا يتحمل ضميرا ما... كان كتلة هواء... يمكنك النظر خلالها... يمكنك مد يدك عبرها.

- لا يمكنك مد يدك عبري... حاولي...

انظر اليه بهلع... يبتسم ويقول: ألم أقل لك اني اقرأ افكارك... ثم اني لست هواء... ولست كتلة... انا حضور... انا مرآة لشخص يجلس في القطب الجنوبي... يرتفع فجأة من جانبي... ويجلس مقولبا على السقف... انظري انني حتى لا يمكن ان اطلق على نفسي شخصا... انا روح... انا حضور... انظر مبهورة اليه... التفت إلى الرفيق... تبرق ومضة تقديس في عينيه... يعود الحضور إلى جانبي....

- انهم مجرد مبتدئين... مجرد مداومين على الدروس لا احد يملك الموهبة... لم ينجح احد حتى الآن في الوصول إلى هذه المرحلة... لقد استغرقت مني اعواما...

انظر اليه بخيبة... يقرأ افكاري:

لا تظني انك ستتخلصين من سلاسل الجسد بسهولة... لا يستطيع الانطلاق الا من يملك الرغبة والقدرة معا... كدت اهتف: املك... املك...

- تريدين الهروب... أومأت ايجابا... والنسيان... هز رأسه: لن اعدك بالنسيان... نحن لا نتحلل من اجسادنا لننسى ولكن... لنمنح انفسنا القدرة على الرؤية الصحيحة.

- هجرك زوجك مع طفل... حدقت به مذهولة... كيف عرف وقد حرصت على تخبيئي الواقع في اكثر غرف القلب ظلاما... لفحتني حرارة صوته: اني اعرف حتى مواقع شباك العنكبوت في حواري كيانك... ذرات تراب نسيت كنسها هنا وهناك... كرية حمراء ضلت الطريق إلى الكبد... قطرة لعاب نسيت ان تزدردينها خوفا مني الآن... عدد الزغب في ذراعيك... عدد التفافات مصرانك... اعرف من عصارة معدتك ماذا تناولت على الغداء... من وضع خمارك.. هل سرحت شعرك هذا الصباح... من انفاسك نوع معجون الاسنان الذي تستخدميه... من بشرتك... هل واجهتك مشكلة حب الشباب في المراهقة... الم تفهمي بعد اني شفافة... اقرأك بسهولة... اكتشف مخابئك الطفولية بلا اي جهد... أحدد موقفك... طريقك في هذه الحياة... وربما صبغة الشعر الذي تنوين صباغة شعراتك البيضاء به... ولون طلاء الاظافر... ولكنك لست سطحية لهذه الدرجة... لست تافهة... واستطيع ان اعرف انك تريدين هذا بقوة...

- ولكنك لست الله لتعرف كل هذا...

- بالطبع... كل ما هناك انني استغل مواهبي... طاقاتي الداخلية الكامنة... خبرتي في قراءة الشخص من طريقته في الوقوف او قضم اظافره... انا مجرد كائن ضعيف... ولكني موهوب.

- اسمعني... كنت زوجة تعيسة... ولكني كنت زوجة... واكتشفت متأخرا اني كنت جسرا للعبور... مجرد وسادة للراحة قبل اتخاذ القرار...

- اعرف... استغلك ليصل إلى هنا... ليجد عملا... وظيفة... يعود بعدها مليونيرا إلى بلده...

- استغلني

- ليحصل على اقامة مجانية في بيت تملكينه تركه لك والدك... ونقود قليلة وفرتها بعرقك من وظيفة متواضعة...

- وغادرني

- غادرك بعد ان احسن استنزافك... كان يجب ان تعرفي هذه النهاية.

- ولكني كنت امرأة... وحيدة... وجدت اني سأشيخ شيئا فشيئا من غير ولد أو زوج... وكنت امرأة... هل تعرف معنى ان تكون امرأة في مجتمع شرقي... يرى في الرجل الظل والسند... انت لا تعرف لانك مجرد حضور لشخص جاء من القطب الجنوبي...

- حسنا... اذا لن أجادلك... انت تريدين الهروب... وطفلك تتركينه.

- تركته عند جارة ما... ولكن لست قلقة

لم اعد اجيب... لماذا وهو يستطيع معرفة ما اريد قوله قبل ان انطق به...

نظر إليّ بعنف... وكأنه يمسك رأسي ويهزه.. بدأت اشعر بالغثيان...

- هل انت مستعدة... أومأت برأسي...

- هذا شيء سهل... عليك ان تركزي... انت صادقة... وهذا شيء جيد... بقي ان نعرف ان كنت موهوبة.... ركزي جيدا فيما تريدين فعله... الخروج من جسدك... المشي على دبيب الفراغ... على اطراف غير موجودة... ركزي... حتى تبدأ عملية الطفو... الانزلاق... بخفة... بخفة... انت تنجحين... هذه اول محاولة ناجحة في جلساتنا... انت موهوبة... نعم تابعي... كأنك صابونة مبلولة تلبطين... تنسلين... نعم اني اراك الآن... تحومين.. تحلقين... لا تخافي... لا يوجد شيء اسمه السقوط الآن... واصلي... وا ص لي

يبدو صوته بعيدا الآن... خفيفة... خفيفة... متحررة.. ما اروع هذا المرور عبر الجدران... التحليق عاليا... لمس القمر... الخروج من المجرة... من يصدق اني قطعت الف سنة ضوئية... اعود... إلى الارض... احس بنشوة... ان تتخلص من محدودية الجسد من... الجاذبية الارضية... ما اجمل الهروب... الضياع في رحابة الأماكن والأزمان... اسافر بلدا ما... ادخل بيتا عبر الجدار... تفاجئني امرأة عمياء... تتحسس الجدران لتصل إلى الفرن... فجأة صوت ما... قذيفة... يتحطم المنزل... تتناثر اشلاء العجوز... اهرب.. اختبئ خلف سحابة ما... اطل من الاعلى.. مدينة اخرى... هدوء... انزل لارتاح... ارى جزارا يتجهز لذبح خروف العيد... ألحق به... ارى طفلا معلقا من قدميه... الرجل يهوي بالساطور على رقبته... قبل ان اتحرك لافعل شيئا يقضي عليه... ألحق به برعب لأعرف هدفه ارى ابناءه يتحلقون حول الطاولة... اراهم يلتهمون الطفل بنهم... حتى الرأس... وتلك النظرة الخابية في العينين... نظرة شاة مذبوحة...

اهرب... اهرب... في الطريق ينقض صقر على حمامة... يطير بها إلى عشه... ما هذا العالم... هل اهرب من وجعي إلى وجع آخر وجع اعمق... وجع اكبر... هل اهرب من نفسي لاعيش هاربة من الناس.. اعود بسرعة... افتش عن جسدي لارتديه واعود إلى عالمي... إلى طفلي الذي تركته عند جارتي... اعود إلى الغرفة الخافتة الانارة... يأتيني الصوت الحار: لم تتأخري... الم ترق لك التجربة؟... اعود ارتدي جسدي، القدمان اولا... ثم ادخل في رأسي...

- ما هذا خيبة... حزن... قلت لك... نحن لا نمنح النسيان... انا فقط اعطيك المنظار الصحيح لتري الدنيا... اهرب من وجهه... اعدو... اجر الرفيق المذهول من ذراعه... ونغادر معا... انفض رأسي لأتخلص من تأثير ذاك المكان... ارتاح لأني استعدت السيطرة على افكاري... استعدت خصوصيتي... افرح لاني عدت مشدودة للارض بقوى الجاذبية... التفت للرفيق... مستغربة صمته... اتراجع بخوف... ان له وجه الحضور نفسه... اركض هاربة منه... احاول يدي في جيبي لاخرج مفتاح سيارتي... افاجأ بالخواء في يد المعطف... لا لقد نسيت ادخالها في جسدي... احس بلمسة ما على كتفي... لا انه هو... ويأتيني صوته حارا... حارا.. بال نبرة ما... حنان... قسوة... حياد تام:

هل نعيد التجربة؟

قاصة بحرينية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:12 م

      ضروري

      عائشة اتمني ان احصل علي عنوان بريدك الالكتروني للضرورة

اقرأ ايضاً