العدد 1793 - الجمعة 03 أغسطس 2007م الموافق 19 رجب 1428هـ

دور الذاكرة الوطنية في تعزيز ثقافة الديمقراطية(1)

محمد ديتو comments [at] alwasatnews.com

يثيرنا في الحاضر من الزمن الاهتمام غير المسبوق بموضوع الذاكرة وتجلياتها. ما السر في كل ذلك؟ ولماذا تكتسب هذه الظاهرة بعدا عالميا على رغم تباين جذورها في كل بلد أو فئة اجتماعية؟

تحاول غالبية الشعوب وفئات المجتمع المختلفة والقوميات والأعراق إعادة صوغ علاقتها بالماضي في ما يبدو أنه «موجة مد كبيرة للاهتمام بالذكريات» حسب وصف المؤرخ الفرنسي «بيير نورا» الذي بحث بعمق في دوافع هذه الظاهرة وحاول أن يفسر أسبابها وأشكال ظهورها.

يؤمن المؤرخ الفرنسي «بيير نورا» بوجود ترابط بين هذا الاهتمام الكبير بالذاكرة الوطنية وظاهرتين تاريخيتين في عصرنا: الأولى متعلقة بالتغيير الذي طرأ على إحساسنا وتعاملنا مع الزمن، والثانية تختص بالأبعاد الاجتماعية لعملية التذكر.

الظاهرة الأولى يمكن وصفها بحسب تعبير «دانييل هاليفي» بـ « تسارع التاريخ» كسمة مميزة للعولمة التي أدت إلى تغيير كبير في طريقة فهمنا للزمن الذي نعيش فيه. فالصفة المميزة لحاضرنا ليست الاستمرارية، بل التغيير. وهذه العملية تحول كل شيء يصادفها بسرعة إلى ماض مندثر. يؤدي هذا الوضع إلى تأثير كبير على عمليات الذاكرة التي اعتادت أن تربط الماضي والحاضر والمستقبل في مسار خطي مستقيم. النتيجة حسب رأي «نورا»، أن طبيعة النظرة إلى المستقبل تواجه حالة مختلفة غير معتادة حتى الآن. في المنظور التقليدي كان ما يشكل المستقبل بالنسبة لشعب أو مجموعة اجتماعية هو الذي يحدد ما يتعين عليهم أن يتذكروه من الماضي، وهذا ما يضفي معنى على الحاضر الذي يلعب دور الجسر بين الاثنين. أي مستقبل نريده يحدد أي ماض سنتذكره. مع تصاعد الغموض بشأن المستقبل في عصرنا يتصاعد الاهتمام بالذاكرة وخصوصا في علاقتها بتشكيل الهوية وإضفاء المعنى على حياة الحاضر. ما يزيد من الحاجة إلى تفحص الذاكرة ودراستها في سياقها الاجتماعي. الحاجة تتكامل مع إمكان تحقيقها إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أننا نعيش عصرا يتيح فيه تقدم العلوم في مختلف التخصصات إمكانات هائلة لربط وتكامل المعارف في حقول متعددة لدراسة الذاكرة. علم النفس وعلم الاجتماع وغيرها... تحت تصرف البشرية الآن «ذخيرة كاملة» من الوسائل العلمية لدراسة وفهم الماضي. من الطبيعي أن ذلك لا يجب أن يؤدي إلى الانغماس في الماضي على حساب فهم الوقائع المعاصرة لحياتنا الراهنة. إن فعل التذكر يجب أن يكون مصاحبا لفعل «النسيان النشط» حسب تعبير فرديريك نيتشه، والذي قصد به الأثر الإيجابي للنسيان في تمكين الإنسان من مواجهة تحديات حاضره ومستقبله.

الظاهرة الثانية تتعلق بالأبعاد الاجتماعية المرتبطة بعملية إحياء الذاكرة، ويحددها «نورا» بطبيعة «دمقرطة» المجتمعات في العالم وما يعنيه ذلك من اتساع نطاق الاتجاهات التحررية لمجموعات متنوعة من فئات المجتمع التي طالها التعسف والاضطهاد في الفترات الماضية. تجسد إعادة تركيب صورة الماضي شكلا من إعادة الاعتبار للهوية التي طمست خلال المراحل السابقة. هناك ثلاث مجموعات رئيسية تخوض معترك «إعادة صوغ الذاكرة» في سعيها لتأكيد هويتها، وهي تشمل كما حددها «نورا» أولا: كل من المجتمعات ذات الإرث الاستعماري الصعب والطويل والتي تصبو إلى إعادة تشكيل وعيها بذاتها الذي تشوه بفعل السيطرة الاستعمارية، وثانيا تشمل الأقليات العرقية والدينية والفئات الاجتماعية المختلفة في البلدان الغربية، وثالثا مجموعة الشعوب التي كانت ضحية الأنظمة ذات الأيديولوجيات الشمولية سواء كان ذلك في أوروبا أو في أميركا اللاتينية أو إفريقيا وآسيا. كان فتح ملفات «الكي جي بي» في روسيا أمام العلن، ونشر كل ملفات الشرطة السرية (ستازي) في ألمانيا الشرقية في مجلدات عديدة، دورا مهما في إنعاش وتفعيل الاهتمام بالماضي في ظل تلك الأنظمة ومادة خصبة للعديد من الباحثين خصوصا الغربيين منهم في دراسة آليات عمل النظم الشمولية ذات الصبغة الأيديولوجية.

كل هذه التحولات التي جرت خلال العقود الماضية تضع تحدي صوغ الذاكرة الوطنية في مقدمة الأولويات ذات الأهمية لتعزيز وترسيخ المسار الديمقراطي لهذه الشعوب، وخصوصا أن بروز عنصر الهوية وإعادة تشكيلها أو الدفاع عنها أو محاولة فهمها بصورة أعمق يشكل عنصرا حيويا للغاية في تفعيل دور هذه المجموعات في المسيرة السلمية للتطور الديمقراطي. أشار إلى ذلك بالإضافة إلى «نورا»، المفكر الفرنسي من أصل بلغاري «تزفيتان تودوروف» صاحب العمل الرائع «الأمل والذاكرة - خلاصة القرن العشرين» (1).

عملية «التذكر» لم تأخذ شكلا واحدا في البلدان كافة, فهناك دول تمت فيها العملية بتفاعل ديمقراطي بين الدولة والمجتمع المدني، كما حدث في جنوب إفريقيا، بينما كانت غالبية الحالات في الدول الأخرى مرتبطة بنشاط منظمات المجتمع المدني وبعض مراكز الأبحاث مع مشاركة جزئية من قبل الدولة كما جرى في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية. ولعل من أبرز الأمور في سياق عملية «التذكر» للمجتمعات, قضية تحديد محتوى ووظائف «الذاكرة الوطنية» وهي من الأمور التي تختلط فيها أحيانا مفاهيم العلوم الاجتماعية مع المفاهيم السياسية التي تقارب به هذه المسألة, الأمر الذي يجعلها مثار جدل باعتبارها إشكالية قائمة حتى الآن. ولكن على رغم كل ذلك فإنه يمكن التوصل إلى إطار يحددها مفاهيميا وسياسيا إذا ما أخذنا الطبيعة المتناقضة لمكوناتها. المفكر الفرنسي «ألون كونفينو» يقترح تعريف الذاكرة الوطنية بأنها «عبارة عن ذكريات مختلفة، غالبا ما تكون متعارضة، ولكن على رغم تنافسها، لديها القدرة على أن تلعب دور القاسم المشترك على المستوى الرمزي، يستطيع التغلب على الاختلافات الاجتماعية والسياسية الفعلية وتشكيل مجتمع افتراضي مرغوب» (2).

الذاكرة الوطنية هي شكل من أشكال وعي أفراد المجتمع بهويتهم، وبذلك فإنها ذاكرة جمعية بالضرورة، أي لا تقتصر على فرد واحد فقط بل مرتبطة بمجموعة أو فئة اجتماعية، تتشكل وتتطور ضمنها ضمن سياق تاريخي اجتماعي محدد. ولأنها وطنية، أي تحمل اسم الوطن بما يشمله من جميع أعضاء المجتمع المنتمين إليه، فإن محتواها يجب أن يعكس تنوع ذكريات مختلف فئات وشرائح هذا المجتمع، ولا يقتصر على فئة من دون الأخرى، سواء كانت في مواقع المعارضة السياسية أم موقع السلطة الحاكمة. غالبا ما يتم اشتقاق مفهوم الذاكرة الوطنية من مفهوم الحركة الوطنية، مع السعي لتجسيد القيم الايجابية فقط في هذه الحركة، وهذا أمر مفهوم، ويلعب دورا إيجابيا، خصوصا في مراحل النضال من أجل تحقيق الديمقراطية وإنهاء حالة الاستبداد السياسي التي يمر بها المجتمع. ولكن في الوقت نفسه فإننا نواجه خطر اختزال هذه الذاكرة إلى جانب مهم ولكنه أحادي الصورة في عكسه لذاكرة الوطن التي يجب أن تحتوي على السيئ والجيد، المفرح والحزين. أرى أنه من الضروري التعامل مع الذاكرة الوطنية باعتبارها عملية وليست حدثا أو اسما لمعطى ثابت لا يتغير. تتأثر هذه العملية بصورة كبيرة بطبيعة سياسات الذاكرة المتبعة والسائدة. وكما يشير «هولباخ « صاحب الفكرة الأساسية للذاكرة الجماعية، فإن هناك تاريخا واحدا وذكريات عدة! وحدة الذاكرة الوطنية تكمن في الإقرار بتنوعها واختلاف مكوناتها، ولكن بقدرتها في الحصول على التعاقد الوطني بمختلف الذكريات التي تجسدها. إنها الوحدة في التنوع، وهذا ما يضفي على قيمتها المعنوية بعدا قادرا على عكس ليس فقط ما يعتز به أبناء الوطن الواحد سواء بمنجزاتهم أو قيمهم، بل ما تعلموه من تاريخهم، من دروس الأخطاء التي يمر بها كل مجتمع بشري. لذلك فإنه وعلى عكس الماضي الذي كانت فيه الذاكرة الوطنية تصاغ بصورة شبه عفوية أحيانا، فإن ارتباط «إعادة التذكر» بتحولات وإصلاحات ديمقراطية يحتم التعامل مع الذاكرة الوطنية وفق منظور جديد مرتكز على إجماع وتوافق شعبي ورسمي، بوصفها خيارا اجتماعيا واعيا وديمقراطيا يسهم في نجاح واستدامة هذه الإصلاحات.

في مراحل الانتقال إلى الديمقراطية تبرز مسألة تدعيم الثقة بوصفها مهمة مركزية للمؤسسات المعنية بهذا الانتقال. يقول «أليكس بورين»: «من السهل الحديث عن الديمقراطية، ولكن الأمر يختلف تماما حينما نواجه مسألة الإيمان بالديمقراطية وتطبيقها فعليا». تساهم «الثقة هنا في تمكين المواطنين في الإيمان وتطبيق الديمقراطية في إدارة شئون مجتمعهم وفي بناء ما يعرف بثقافة الديمقراطية. وليس المقصود هنا الثقافة بالمفهوم المتعارف عليه شعبيا (الفنون والآداب) بل الثقافة بوصفها سلوكيات ومعايير ومنظومة من القيم التي تمكن المواطنين من حكم أنفسهم. الإيمان بالديمقراطية ينتج من الثقة بها. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك في مجتمعات تهشمت الثقة فيها بصورة منظمة عبر سنين متصلة من الاستبداد والقهر والمكر المتواصل؟ ما هي الوسائل لغرس بذور الثقة ورعايتها بصبر وحكمة لتكون قادرة على تمكين الناس من الإيمان ومن ثم تطبيق الديمقراطية في شئون حياة مجتمعهم كافة؟ كان لا بد من البحث عن إجابات عملية على هذه التساؤلات التي برزت في مختلف حالات الانتقال السلمي إلى الديمقراطية. وكثمرة لتعاون نادر بين مؤسسات البحث العلمي ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان فقد برز إلى السطح مفهوم «العدالة الانتقالية» التي تعنى «بتنمية مجموعة واسعة من الاستراتيجيات المتنوعة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي، تحليل هذه الاستراتيجيات وتطبيقها عمليا بهدف خلق مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية.

-1 « الأمل والذاكرة - خلاصة القرن العشرين» تزفيتان تودوروف - نقله إلى العربية : ترمين العمري - دار العبيكان للنشر - المملكة العربية السعودية - الطبعة العربية الأولى 2006 . (ص 454 ).

2 - ألون كونفينو : « الذاكرة الجماعية والتاريخ الثقافي» (ص 1400).

العدد 1793 - الجمعة 03 أغسطس 2007م الموافق 19 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً