العدد 1812 - الأربعاء 22 أغسطس 2007م الموافق 08 شعبان 1428هـ

إمبراطورية «الوحش» المتدين

من «صالح العرب» أن يتركوا القدس لـ «إسرائيل»، وإذا كان العرب والمسلمون على تصميمهم بأن «القدس عربية» فإنه في مقدورهم تغيير اسم قرية قريبة «وراء التل» هي «أبو ديس» لتسمى «القدس»، هناك مدن كثيرة في أميركا اسمها «القدس»، وهناك مدن اسمها «القاهرة» «والإسكندرية» و»بيروت»!

الرئيس الأميركي الأسبق بل كلنتون

كانت البدايات الأميركية بدايات إستعمارية التشكيل، الحراك، التفكير، والتَخلق. كان الإسبان فاعلين في أراضي أميركا الجنوبية. وهناك في نيو انجلند - حيث يقطن المستعمرون الأوائل للإمبراطورية - كان البريطانيون خصوصا، والأوربيون «البروتستانت» عموما، يمارسون الدور نفسه.

قدمت الشواهد التاريخية لبدايات الإمبراطورية - إلى جانب الحلمين البوتستاني «المقدس» و«الديمقراطي» اللذين كان المستعمرون الجدد يبحثون عن تحقيقهما وتمثيلهما على أرض الواقع - شواهد صارخة من ثقافة «الاستيلاء» و«القمع» والسلوك «البربري» تجاه السكان الأصليين.

وعليه، يستطيع أي باحث أن يقرأ بدايات الإمبراطورية الأميركية من زاوية الأحلام الكبرى للقاطنين الجدد فينتصر للديمقراطية والحرية الجديدة، ويستطيع أيضا، أن يفهم معاناة السكان الأصليين آنذاك، وأن ينطلق من أوجاعهم ومعاناتهم الكبرى ليقرأ الإمبراطورية هنا بوصفها إمبراطورية «الشر» منذ أيامها الأولى.

شواهد الرواية العربية

قدمت الرواية العربية - وهو أمر لم يلتفت له أحد من النقاد العرب خلاف الأكاديمي العراقي عبدالله ابراهيم الذي قدم قراءة متقدمة في هذا السياق - تصورا كاملا لمرحلة البدء الأمبراطوري «البروتستانتي» في أميركا الشمالية من جهة، والبدء المقارن «الكاثوليكي» في أميركا الجنوبية من جهة أخرى، على أن ثنائية التكون «البروتستناتي» و«الكاثوليكي» هي ثنائية سنتطرق لها بالتفصيل في إحدى الحلقات القادمة.

يقول عبدالله ابراهيم «لم تغفل الرواية العربية هذا الموضوع، وآخر ما اطلعت عليه من روايات أثارت هذه القضية، رواية «أمريكانلي» لصنع الله ابراهيم، ورواية «شيكاغو» لعلاء الأسواني. فقد أشارت الروايتان في سياق عرضهما لنشوء مدينتي «سان فرانسيسكو» و«شيكاغو» إلى جانب من ضروب التنكيل الذي مارسه المستوطنون البيض ضد الهنود الحمر. وفيهما اتضحت استراتيجية اقصاء الأصول المجتمعية للساكنين الأصليين، وكيفية استمرار حملات المستوطنين، ودفع الهنود من شرق أميركا إلى غربها بتطهير عرقي تؤججه أطماع المال والاستيطان إلى أن انتهى الأمر بفناء الجماعات الأصلية، وثم جرى إعادة صوغ ذاكرة ما تبقى منها باعتبار أن أفرادها غرباء، ووضعت خطة محكمة لإعادة صوغ ذاكرة ما تبقى من الهنود.

ويضيف ابراهيم «سأكتفي بمثالين استقيهما من الروايتين المذكورتين، ففي رواية «أمريكانلي» أشير إلى طقس «سلخ فروة الرأس» الذي مارسه المستعمرون الأوائل، واستقر في وعي المستوطنين البيض فيما بعد «كانت السلطات الاستعمارية ترصد مكافأة لمن يقتل هنديا، ويأتي برأسه، ثم اكتفت بفروة الرأس. وتصاعدت هذه المكافأة حتى بلغت مئة جنيه في العام 1704وهو مبلغ كان يعادل أربعة أضعاف متوسط الدخل السنوي للمزارع في مستعمرات «نيو انجلند» فكان بإمكان أي مستوطن عجوز أن يصطاد طفلين وثلاث نساء من الهنود فيصبح ثريا. وسرعان ما تأسست شركات - إنجليزية وفرنسية - تستأجر فرقا من المغامرين لقتل الهنود والعودة بفروات رؤوسهم. وصار المستوطنون يتباهون بعدد ضحاياهم، وتباهى أحدهم بأن العدد 40 في الطلعة الواحدة. وتباهى آخرون - قبل زمن هتلر - بأن ملابس صيدهم وأحذيتهم مصنوعة من جلد الهنود».

كان حضور الأسطورة الشريرة في متخيل الأميركي الأول عن الهنود الحمر ملازمة لعمليات الإبادة فيما وراء نيو انجلند، يقول إبراهيم «ذهب كثير من المستعمرين البيض إلى أن «الهنود الحمر» على رغم من كونهم ضمن مخلوقات الله على نحو ما، فإنهم لم يخلقوا بروح المسيح، وإنما خلقوا بروح أخرى ناقصة وشريرة». وأكد آخرون بثقة «إن الهنود الحمر مثل الحيوانات، مخلوقات بلا روح ولا ضمير، وبالتالي فهم لا يحملون القيمة الإنسانية التي يحملها الرجل الأبيض».

وكما يذهب لينين على أن «طريق الجنة مزدحم الجانبين بالجثث» كانت صناعة «القتل» الاميركية في البدء مكونا من مكونات الإمبراطورية الأميركية. وفي جانب أخر قبالة عمليات القتل هذه، ابدع الساسة والقساوسة في صناعة «الهوية» الأميركية على الأنقاض، هذه الهوية الجديدة التي أدخل فيها من تبقى من الهنود استطاعت تجاوز بربرية الدخول الأوروبي ومراحل بدء الإمبراطورية، واليوم لا تقطن قصص العذابات «الهندية» في هوليوود إلا في جزئية «التوظيف» الذكي للهوية الأميركية الجديدة. وكخاتمة لهذه الجزئية تحديدا أقول، بالفعل، نجح الأميركيون في صياغة «الهوية» الجديدة التي تجاوزت مرحلة التأسيس الأولى بعذاباتها خاصة في الجنوب الأميركي، لكن الذي تبقى عالقا في الذهن هو ذلك الإرث المحمول ثقافيا وإجتماعيا داخل الولايات المتحدة حتى اليوم والذي سنستعرض نتائجه لاحقا.

الزمن الأميركي من نيويورك إلى كابول

كتب الكاتب والمؤرخ المصري محَّمد حسنين هيكل في كتابه «الزمن الأمريكي من نيويورك إلى كابول» يقول: «إن الولايات المتحدة بلد محظوظ: لديه كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ. ومعنى ذلك أن لديه غنى في الموارد بلا حدود، وخفة في أثقال التاريخ وحمولاته لم يتمتع بها غيره، وذلك منحه اطمئنانا إلى وفرة مادية طائلة، ثم إنه أعفاه من وساوس تاريخية ينوء بها عديد من الأوطان أو البلدان».

لكن لماذا يعتبر هيكل الخفيف من ذاكرة التاريخ ميزة؟، يقول «الذاكرة الوطنية للشعوب في بعض الأحيان عبء بمقدار ما هي حافز ـ لكن الهجرة إلى أميركا كانت مشروطة بالتخلي عن القديم والبدء من جديد لمن يبغون الفرص الطموحة».

كانت «نيو انجلند» بمثابة الأرض التي على المهاجرين أن يفقدوا فيها ذكرياتهم، وبلغة واضحة، كان نشوء الإمبراطورية متلازما في مراحله الأولى من صناعة الوطن الجديد، هنا في نيوانجلند لا مكان للذكريات إلا بما يتصل بصناعة الوطن الجديد والهوية الجديدة، يقول هيكل أيضا: «إن الولايات المتحدة لم تنشأ كوطن، وإنما نشأت كموطن. ولم تبدأ كدولة، وإنما بدأ كملجأ. أي أن الولايات المتحدة في واقع الأمر بدأت ونشأت كفضاء مفتوح لكل من يقدر على عبور المحيط أو يضطر لعبوره وإن تنوعت الأسباب: كان هناك المهاجرون والأول من المغامرين ـ ثم لحقهم المنفيّون ممن كنت دول أوروبا راغبة في التخلص منهم لأسباب سياسية أو أمنية ـ ثم كان هناك الهاربون من الاضطهاد العنصري أو الديني ـ ثم كان هناك الباحثون عن الثروة في بلد تكشف أن موارده بلا حدود من الأرض إلى الماء ـ ومن الفضة إلى الذهب!».

في هذه الفترة تحديدا كانت اخبار المستعمرات الاميركية تروج في أوروبا بوصفها «أرض الميعاد»، وبتعبير هيكل هنا في نيو إنجلند تتسع الحقيقة «لكل من يشاء، وفيها ما يحتاج إليه وأكثر، ثم إنها أرض بلا ملوك، ولا كنيسة، ولا إقطاع، ولا قانون، ولا بوليس، وإنما هي فضاء مفتوح لأي قادر على عبور المحيط، وعلى التعامل مع الحدود القابلة للاتساع والتمدد كل يوم».

الأميركيون أعوان الرب

ويعتبر محمد حسنين هيكل - في شهادته - نظرية «المنفعة» الفكرة الرئيسة التي سوقها النازحون الجدد في دخولهم إلى العمق الأميركي على حساب السكان الأصليين. يقول هيكل: «إن الضمير الأميركي كان يتعين عليه أن يجد مسوغات معنوية ونفسية تبرر له جوانب العنف والقسوة في مغامرته التي بدأها على الشواطئ الأميركية، ومنها إلى الداخل والوسط، وحتى أقصى الغرب، وهنا تأسس فكر راح يستكمل ويستوفي مطالبه وضروراته حتى تحول إلى مدرسة بأكملها».

ويضيف كانت بداية التأسيس من عناصر المهاجرين بسبب الاضطهاد الديني، ومن المفارقات أنه من عندهم ظهرت «نظرية المنفعة» في طبعتها الأميركية، وفي سياقها الأساسي وخلاصتها:

* إن الله لم يخلق هذه الأرض وما عليها عبثا، وإنما خلقها لبشر سواهم على مثاله.

* وإذا كان ذلك فإن هؤلاء البشر ـ على مثلا الأله ـ مكلفون بما ينفع الأرض ويحقق عليها كلمة خالقهم.

* وإذا كان نفع الأرض هو هدف البشر فإن الأقدر منهم على النفع هو الأحق بالقيام عليها.

* وإذا كانت هذه الأرض في حوزة الهنود الحمر منذ نشأة الحياة، ولم يقوموا بحقها ـ فإن مشيئة الله تتحقق بأن يحل محلهم من هو أقدر منهم.

النقطة التي إعتبرها هيكل إستثنائية جدا بالنسبة للمستوطنين الجدد في اميركا الشمالية هي انفتاحهم الكبير وتنوع موارد هذه الأرض وخيراتها. الذي كان يعنيه هيكل هو أن المستوطنين وجدوا في أوروبا - على رغم من عديد نزاعاتها الداخلية - تجارب وثقافة ومعارف وعلوم تستحق أن تنتقل معهم، وليس ثمة حقوق محفوظة.

إن الشكل الأميركي اليوم ما هو إلا صورة مضخمة لما انتجه عصر النهضة في أوروبا، وليس الأميركيون إلا نتاج التطور الثقافي الأوروبي. ولذلك، أعتقد أن الحديث عن ثقافة أو مجتمع اميركي جديد كانا قد أوجدا مع بدايات نيو انجلند يعتبر إطلاقا لا موضوعيا لدى البعض، فثمة من يقرأ الإمبراطورية بصفتها النموذج «السليم» لعصر النهضة بعد أن ألغى المهاجرون ذاكرتهم السياسية والتاريخية وأبقوا على معارفهم وفلسفتهم وصولا لتعصبهم الديني أيضا.

العدد 1812 - الأربعاء 22 أغسطس 2007م الموافق 08 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً