العدد 1882 - الأربعاء 31 أكتوبر 2007م الموافق 19 شوال 1428هـ

في رثاء والدي الغالي المرحوم الأستاذ أحمد العمران

نزلنا هاهنا ثم ارتحلنا

كذا الدنيا نزولٌ وارتحال

هأنذا أرثيك يا والدي الغالي وقد رحلت عن هذه والدنيا بعد إن ناهزت القرن من الزمان! كم قلت لي «لقد طولت يا ابنتي ولم يبق من جيلي من يرثيني»... فهأنذا أرثيك يا والدي وقلبي مملوء بالحزن لفراقك ولكن مفعم بالفخر والاعتزاز؛ لأن ذكراك باقية على مدى التاريخ عبر الأجيال التي ربيتها وتعبت على نشأتها يا والد الجميع، يا رائد النهضة التعليمية في هذا الوطن الغالي.

أضنت السنون الطوال جسدك يا والدي وانطفأ النور عن عينيك اللتين كانتا نافذتك الوحيدة على أغلى ما عندك في هذه الدنيا وهو القراءة والاطلاع... ولكن أبى عقلك الفذ، وذاكرتك الثاقبة، وروحك التواقة لمعرفة كل ما يدور حولها في هذه الكون من الاستسلام. وبقيت تسأل وتسأل عن كل ما هو جديد. كم كنت تشعر بالفرح عندما أخبرك بالتقدم العلمي والتكنولوجي والتطور الذي جلبه العصر الحديث وتذكرني دوما بأن العلم «من المهد إلى اللحد!».

والدي أحمد العمران أنت المعلم والمربي والأديب، واللغوي الضليع والخطيب البليغ، والعالم في الرياضيات والفلك، والإداري العملي المنظم الحكيم، والرجل الإنسان المتواضع الكريم، والأب العطوف الحنون.

يا والدي المعلم ... قرن من الزمان عايشت. وفي عصر لم تكن الوسائل التعليمية متاحة، ولا الإمكانات المادية موجودة. علّمت نفسك بنفسك، وتعلّمت على ضوء الشموع من كتب وأوراق صفراء رثة، حبرها باهت ،ومجلداتها متآكلة، ولكنك ثمنتها بأغلى ما تملك، والتمهمتها لشغفك بالعلم والمعرفة. ولم تكتف بذلك بل سعيت بكل ما أوتيت من مقدرة إن توصل هذا العلم لغيرك؛ لإيمانك بأنه النور الذي يضيء حياة الإنسان، وأنه طريق المستقبل للشعوب والبلدان!

أحببت إن تسمّى «طالب علم وناشره» وهأنذا أحييك يا والدي المعلم وأقف أمام مثواك الأخير مرددة ما رددته علينا مرارا:

قم للمعلم وفـّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

أعلمت أفضل أو أجّل من الذي

يبني وينشئ أنفسا وعقولا؟

رحلت عنا يا والدي وبقيت مكتبتك العامرة تخلّد ذكراك. بقيت الكتب والمجلدات والدوريات التي لم تفارق يدك يوما واحدا عندما كنت قادرا على القراءة تذكرنا انك كنت هنا «معنا ومعها». كتب في الدين والفلسفة والتربية والتعليم والعلوم الاجتماعية والأدب ودواوين الشعر والنحو والبديع والبيان. كتب في الرياضيات والفلك والهندسة. كتب العربية والإنجليزية في الجغرافية والسياسة والتاريخ المحلي والخليجي والعربي والعالمي. كتب الروايات الكلاسيكية والقصص من جميع أنحاء العالم. مراجع قيّمة قديمة وحديثة. كتب عن هندسة وبناء اليخوت وعن البحار والأسماك والخرائط البحرية القديمة التي تضمنت «هيرات الغوص» بالمسى القديم التي عايشتها في صغرك. اذكر كيف كانت هذه الكتب كالأهرامات حواليك وكيف كنت تنتقل من كتاب إلى آخر وموضوع إلى آخر بشغف ولهفة. أحببت مكتبتك يا والدي وتمتعت بروائع وعجائب ما احتوت مرددا دوما:

«ما ترك الأوائل للأواخر شيئا» كنت غزير المعرفة واسع الإطلاع لا تكف عن القراءة ولا تكف عن السؤال والاستفسار ولو من أبسط الأشخاص لإضافة معلومة ولو متواضعة إلى معلوماتك الفياضة.

كنّا نسميك «الموسوعة المتنقلة ونضحك معا عندما نتأمل عظمة هذا الدماغ الذي خزن كل هذه المعلومات على مدى تلك السنين الطويلة، وكم هي خسارة فقدانها بعد الموت!

فقدناك يا والدي ولكن لم نفقد هذه التركة التي حرصتَ أن توصلها إلينا ولأجيال هذا الوطن العزيز.

يا والدي الإداري الحكيم ...علمتنا يا والدي النظام، وعلمتنا أهمية الوقت، وعلمتنا إدارة شئوننا اليومية وأعمالنا بدقة وإتقان وعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد، واخذ الاحتياط والتخطيط المسبق لكل طارئ وحدث.

ويشهد هذا «البيت العود» في العدلية الذي سكنته ما يقارب من النصف قرن، بعد انتقالنا من المحرق، إن ربّانه كان رجلا إداريا منظما دقيقا في حياته اليومية كما كان في إدارته للمؤسسات التعليمية والتربوية التي حمل مسئوليتها في القرن الماضي. علمتنا يا والدي إن أغلى ما يحمل الإنسان في هذه الدنيا هي مبادئه: المبادئ الإنسانية التي إن خسرها خسر نفسه كإنسان. وشددت على النزاهة والإخلاص وحفظ الأمانة،واحترام جميع الناس والشعوب. تمسكت بمبادئك يا والدي، ولكنك لم تعش يوما في عالم من المثاليات. كنت واقعيا جدا وعمليا إلى أقصى الحدود في إدارتك للأمور. اذكر كيف كنت تحدد ما يمكن تنفيذه مباشرة وما يستحسن إمهاله وما يجب التخطيط له للمستقبل.

وان كنت شديد الاحترام لأصحاب الفكر والرأي وحاملي المسئولية ومتخذي القرارات ركزت على أهمية التنفيذ مرددا:

«إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا»

كنت حكيما في تعاملك مع واقع الناس والنواقص البشرية، ولا يكل لسانك ولا يتعب عن ترديد الحكم والأقوال والأمثال في كلّ موقف أو مناسبة أو حدث.

لم تصل يا أبي إلى ما توصلت إليه إلاّ نتيجة الجهد والمثابرة والتضحية والعمل الحثيث. فكنت النموذج الذي أردتنا أن نحتذي به. فتحت لنا أبواب العلم والمعرفة كما فعلت للأجيال من أبناء هذا الوطن الغالي، وحرصت على دفعنا لأعلى المستويات، ولكنك كنت شديدا علينا لحمل المسئولية والاعتماد على النفس كما فعلت أنت في حياتك، وتذكرنا دوما:

«ليس الفتى من يقول كان أبي

إنّ الفتى من يقول هأنذا»

وإن كنت شديد الغضب إذا تأخرنا في أمر ما، أو لم نصل إلى المستوى العالي الذي توقعته منّا، كنا نعرف أنك عندما تهدأ وتستقر سنجدك حليما رؤوفا.

ولدت يا والدي في بدايات القرن الماضي ونشأت وترعرعت في أحضان هذا الخليج العزيز «برا وبحرا»، وكنت تعرف كل شبر منه وأحببته بكلّ جوارحك، ولكنك لم تكن يوما رجل الماضي إلا في حكاياتك وحكمك. عشت الحاضر بكل ما أوتيت من قوة وعزم وكنت دوما رجل المستقبل في تطلعاتك للتغيير وتوقعاتك من العصر الحديث وتحضر عقلك وأسلوب تربيتك لنا. لم تشعرنا يوما إن هناك فرقا بيني وبين إخواني وأحفادك من الذكور والإناث في العلم والعمل والحقوق والأمنيات والطموحات.

وأبقيت والدتنا العزيزة دوما على رأس الهرم في المحبّة والاحترام والتقدير.

لم تكن يوما محدودا في زمان أو مكان. كان أفقك أفقا واسعا يسمو إلى مستوى إنساني عالمي تخطى الحدود والحواجز الضيّقة.

يا والدي الكريم...

يشهد لك يا والدي الكثير من أبناء هذا الوطن ومن خارجه الذين رفعت عنهم كربهم أو رعيتهم في أزماتهم إنك كنت سخيّا كريما عطوفا على كل من جاءك بحاجة أو طلب منك مساعدة. ولم تفرق يوما بين محتاج وآخر فالكلّ عندك سواسية بإنسانيتهم.

ولكنك دائما تردد إنّ المال وسيلة وليس غاية وفوائده يجب أن تعم على الجميع قائلا:

«يجود علينا الخيّرون بمالهم

ونحن بمال الخيّرين نجود»

يا والدي الغالي هناك الكثير من الأشياء التي لن استطيع ذكرها في هذه السطور المحدودة. أردت يا والدي أن أعدد بعضا من مآثرك قبل أن تشغلنا عجلة الحياة عن ذكرى فراقك. أرجو أن أكون قد استطعت إعطاءك ولو جزءا من حقك واعذرني يا والدي إن خانتني اللغة في التعبير فأنتَ المعلم الضليع في اللغة، البليغ في الخطابة، ولكن المشاعر الفيّاضة أبت إلا أنْ تضع بعض النقاط على الحروف في وداعك الأخير.

والدي في اللحظات الأخيرة وأنت معنا بعد أن فارقت الحياة، قبّلت رأسك ويديك، ثم قبّلت رأسك ويديك، ثم قبّلتهم مرة أخرى وأخرى لأودعك الوداع الأخير وأشكرك، ثم أشكرك على النور الذي أدخلته في حياتنا من خلال شغفك بالعلم والمعرفة.

فلقد كنت النبراس الذي أنار لنا الطريقَ، والصخرة التي استمددنا منها قوتنا، والمنهل الذي استقينا منه العطف والحنان. ويبقى فخرنا واعتزازنا بك لكونك والد الجميع ومربي الأجيال.

وداعا والدي الغالي

ابنتك هالة أحمد العمران

العدد 1882 - الأربعاء 31 أكتوبر 2007م الموافق 19 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً