العدد 2316 - الأربعاء 07 يناير 2009م الموافق 10 محرم 1430هـ

أنت حر... أم عبد!

(جعفر... وخالد) صديقا الطفولة... وزملاء الدراسة... شابان عاشا ملح الحياة وسكرها، مرّها وحلوها هكذا يسمونهما أهالي الحي الذي يقطنانهما لطول صداقتهما منذ أن فتحا عيناهما في الحي الصغير الواقع في إحدى ضواحي العاصمة وهما أبرياء صغار وأصدقاء أحرار وأكثر من أخوان إذ يعيشان سنويا عاشوراء الذكرى فقط من دون العبرة يستمعان للخطباء عبر المنابر و يترددان على جميع مآتم العاصمة يبحثان عن الوجبات الدسمة التي تقدمها المآتم المختلفة وأذهانهما مشغولة فقط بالأكل والشرب. كلاهما لايعرفان أن عاشوراء في حياة الحسين (ع) أكبر همّ وأكبر مصيبة عاشها الإمام مع أهل بيته وخصوصا أخته الطاهرة زينب (ع) ضد الطغمة الفاسدة المستكبرة الجاثمة على صدر الأمة آنذاك، ولكنهما فهما من كربلاء أن الإمام الحسين (ع ) قدم دمه ونساءه بل وأبنائه كالأضاحي من دون أن يدركا السبب وراء إقدام الإمام (ع) على هذ الخطوة وما المغزى من ذلك كله!

إلى أن نضج العقل ونمت الفكرة وطلع القمر وسطعت الشمس بأنوارها... راح جعفر يخطب في خالد من على منبر عقله وعواطف قلبه «إن الحسين (ع) رفض البيعة والمغريات وآثر الموت من أجل المبادىء والقيم التي تتشدق بها اليوم الدول العربيه والجمعيات الدولية وكشف زيف المستكبرين المتسلطين وكشّف وعرّى للعالم الشخصيات البلاطية والطوبية المتمثلة في بني أمية، وقدم لنا أنموذجين من واقع كربلاء، هما الإنسان المادي الطوبي والطاغية الأموي الذين ركضوا وراء المادة والسلطان والبلاط والأنموذج الثاني هو الإنسان الحسيني العاشوري (أصحاب الحسين، الحر، وزهير، وحبيب، ومسلم) وعلى راسهم أخوه العباس».

كل هذه المشاهد والحوارات والمواقف الحسينية التي سمعاها ظلّت عالقة في أذهانهما وخصوصا (خالد) الذي لم يستطع أن يكتمها في قلبه حتى فجرها يوما: «ماأعجبني يا جعفر وشدّني كثيرا وكاد أن يقلب حياتي رأسا على عقب هو موقف العباس البطولي والرجولي مع أخيه (الإمام الحسين) وذلك عندما سمعته من الخطباء البارحة حينما انبرى من منبره وهو متحمسا قائلا: «إن العباس رفض البيعة والمنصب بل رفض الدنيا كلها من أجل الحسين (ع) والأدهى من ذلك أنه رفض الأمن والأمان لنفسه في حين لا أمان لأخيه» والذي أكده أيضا حينما صرخ الخطيب في وجوهنا حتى ظننت أن الشمر جالس بيننا قائلا «قبح الله وجهك يا شمر... أتعطيني الأمن والأمان وأخي وريحانة رسول الله لا آمان له». ولكن لو لا تلك المشاهد الدخيلة التي سمعتها منه التي حالت أن تميلني!

وما هي المشاهد التي أزعجتك ياخالد؟

المبالغة الزائدة في تصوير الخطيب لشخصية العباس وهو يقاتل لوحده وهو في حالته هذه!

هنا سكت جعفر ولم يعقب إلى أن تدخل القدر فدخلا أحد المآتم وقد انتصف الخطيب في حديثه وهو يروي أحدى القصص الهادفة عن المرحوم (الحاج النوري) في كتابه اللؤلؤ والمرجان التي رواها أحد الخطباء وهو نائم إذ شاهد نفسه يأكل لحم الحسين (ع) بأسنانه فراح يقص قصته على الشيخ البهائي الذي ارتجف و أطرق برأسه إلى الأسفل ثم رفعه وقال له: هل أنت من قراء التعزية؟ فقال: نعم. فقال له: ينبغي عليك ترك المهنة أو أن تعود إلى المراجع و المصادر الصحيحة!

لأنك بهذه الأكاذيب والقصص المحرفة التي ترويها للناس و يتناقلها الكثير من الخطباء مثلهم مثل من يقطع بدن الحسين (ع) بأسنانه! عندها زاد فضول خالد أكثر وأكثر إلى معرفة المزيد عن ملحمة كربلا والتقرب إلى ريحانة الرسول(ص) والتي فتحت له آفاقا لم يكن يدركها! وخصوصا أن دقات قلبه تحاصره ليل نهار، إلى أن استوقفته كثيرا عند هذا البيت من الشعر للشمر بعد أن أجهز على ريحانة الرسول (ص) وراح يتبختر طالبا الجائزة:

املأ ركابي فضة أوذهبا إني قتلت السيد المحجبا

هذا البيت من الشعر الذي، حتما، تبرأ منه الأدب العربي وكيف استطاع الشاعر أن يصور لنا قتل ريحانة الرسول (ص) من أجل الدنيا ولم يوقضه من بكائه العال المتفاعل مع هذا البيت إلا صديقه (جعفر) يخبره بانتهاء المجلس الحسيني... حينها عاد خالد إلى بيت والده وهو مهموم مغموم وتوجه رأسا إلى غرفته من دون أن يلقي التحية على والدته ونام مبكرا ناسيا موعده مع صديقه جعفر لتناول طعام العشاء! ولكن يقضة الضمير وصحوة القلب حالت بينه وبين نومه والتي ايقضته في منتصف نومه يفكر في حالته هذه وهو يقلب عقله وفكره... إلى أن أطلق العنان إلى ضميره!

ماذا أفعل حينما أحاسب عن عقلي وعواطفي... عن خذلاني لهما ولريحانة الرسول! ماذا أقول أو بما أتعذر!

يا ويلي... ماذا أقول للرسول (ص) ولفاطمة (ع) يوم الحساب؟ ألم أسمع داعية الحسين؟ ألم أسمع عن نصرته وعن وحدته ومظلوميته؟ إلى أن استسلم للبكاء والنحيب في حلكة الليل وسكونه حتى أيقض والدته مذعورة مسرعة إليه! وضمّته إليها وما أن رفع رأسه حتى انهالت عليه بأسالتها مع نبرتها الحاقدة التي لم يعجبها سلوكه وخصوصا ما شاهدته منه هذه الليله! حيث لم تستطيع ان تخفي حركاته وسلوكه حتى شكته إلى خاله (سالم)!.

وما عساك أن تفعل يا خالي العزيز في قلبي الحائرالمضطرب!

أو مع قناعاتي المتدفقة... أو مع عواطفي الهائجة كأنها بحر لجّي! ماذا عساك أن تفعل ياخالي؟؟ أبعد فوات الآوان.

هل تستطيع أن تقفل قلبي أو تستخرج حبي لهذ الشخصية الفريدة من نوعها... هل تمنعني من البكاء على ذلك الخد التريب أو الجسد العريان الذي ضلّ ثلاثة أيام دون أن تقترب منه عسلان الفلوات! أو تمنعني من عشقي وحبي لريحاتة رسول الله الذي منع عنه الماء! حبي لهذا المنحر الشريف الذي ظلّ يتدفق إلى اليوم حبا وكرامة وهيبة لملايين الفقراء والمستضعفين والمحرومين. أم للثغر الذي راح يتلوا سورة ياسين وهو محمول فوق الأسنة يدار به من بلد إلى بلد!

أسمع يا خالي «الحسين ليس للشيعة فقط بل للجميع، للسنة والشيعة والمسيح وللمحرومين وللمستضعفين والأيتام». الحسين سفينة النجاة... وقضيته ستظل باقية نعيشها كل يوم في سلوكنا في معاملاتنا! فمن فهمها نجا بنفسه ومن تخلى عنها هلك وهلك من كان معه! يا خالي لا تكن عبدا لغيرك وقد خلقك الله حرا بل كن عبدا لله وحده جل جلاله.

عندها سكت (سالم) ولم يستطيع أن يعقب أو أن يرد بل جمد في مكانه أمام هذا البحر الهائج المتدفق شعورا وإحساسا وعاطفة... وانسحب من مكانه يضرب كفا على كف غير قادر أن يغير موقفا خطّه الحسين ولا أن يعدل رأيا سار عليه أبناء الحسين(ع)... بل آثر الانسحاب على الهزيمه!. أخيرا ظهر القمر وسطعت الشمس بأنوارها وانكشف المستور... وكما أيقن خالد أن الإمام الحسين ليس للشيعة فقط بل للسنة والشيعة وللجميع. بل وسيظل حقيقة أبدية لن يحجبها صوت ولا سيف ولا رصاصة ولامدفعيه بل قضية مستمرة لن تنتهي أبدا مادامت السموات والأرضون، أي مادام هناك ظلم مستمر وتمييز باق بين فئة على حساب فئه، فئة تركض وراء الدنيا وملاذهاتها والسلطان وأخرى تدافع عن القيم والمبادىء والرسالة.

كذلك أيقن جعفر أن واقعة كربلاء ليست للتجارة عبرالشعارات المخيفة فقط ولا بالقصص الكاذبة هنا وهناك تكررها من مأتم إلى مأتم كي تكسب منها آلاف الدنانير لتركب بها السيارات الفاخرة ولتسكن بها الفلل العالية وتلهج بلسانك في كل ليلة فوق المنابر.

إننا أيضا لا بد من أن نسجل موقفا إذ نرغب في خطباء يجسدون معنى الثبات على الحق والصدق ومسئولية الكلمة والموقف ويجسدون الأخلاق و السلوك المحمدي وليس في خطباء يجمعون المال من هذا المأتم ومن ذاك المأتم غير مبالين لما يطرحونه من قصص خرافية كي تبكي الحضور واللطم على الصدور .

من هنا ظهرت أصوات تنادي من بعض الخطباء الأجلاء بضرورة مراجعة المواد الكلامية و الخطب والقصص التي يطرحها أصحاب المقاتل لكي يتم تصحيحها بعيدا عن التحريفات و الأوصاف التي حصلت في كربلاء ولا أريد أن أسهب في حجم المبالغات والتحريفات التي أصابت الملحمة الحسينية كما وردت في كتاب الأستاذ مرتضى مطهري منتقدا أحد الخطباء في مجلسه قائلا: إن البكاء على الإمام الحسين فيه من الثواب الكبير بحيث يمكن للمرء أن يستخدم هذه الوسيلة في التكفير عن كل ذنوبه!

إننا نتمنى أيضا من الرواديد الحسينين أيضا الصدق فيما يرددون والثبات على السمعة والسلوك... كذلك نرغب أيضا في هذه الأيام بالذات أيام محرم الحرام أن تتلاشى و تختفي كل مظاهر الخلاف و الفرقة بين ذاك المأتم و هذا المأتم ولتكن دعوة الإمام الحسين للوحدة و ليس للفرقة فلا حاجة لإثارة الحجج الواهية التي يراد بها بث الفرقة بل المطلوب من جميع الإدارات الحسينية خدمة المواكب و المآتم بعيدا عن المصالح والأغراض الشخصية و تغليب العقل وإظهار الأخوة والتعاون الذي يرضي الله تعالى أولا وأهل بيت محمد (ص) ثانيا: متمنين أن يكون هذا العام عاما هجريا مباركا تتوحد فيه كلمة المسلمين وكما قال سماحة آية الله محمد حسين فضل لله في خطبة سابقة له: «إن عاشوراء ليست جلدا للظهور بالسياط بل إنها حركة وعي ودعوة وجهاد ووحدة».

مهدي خليل

العدد 2316 - الأربعاء 07 يناير 2009م الموافق 10 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:01 م

      الحسن والحسين سيدا شباب الجنة

      لااعرف لما تبكون على رجل بشر بالجنة . والجنة هية دار القرار وليست الدنيا الزائلة انا جدي الحسن ولكني ابكي على حالي حيث لااعرف ايامر بي الى الجنة ام الى النار اعوذ بالرحمان منها .فتامل اخي من احق ان يبكاء عليه من بشر بالجنة ام من لايعرف اين مستقره عسى ان يجمعنا بهم الله في الجنة فنكون عندها من الفائزين
      وفي الختام السلام عليكم والصلاة والسلام على الرحمة المهداة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الاله وصحبه ومن تبعهم باحسان

اقرأ ايضاً