افتتح المعرض، والتمعت أضواء آلات التصوير المتلهفة لكي تلتقط من الإرث العظيم لسيدة الغناء العربي أم كلثوم أجزاء من فيض ذكرياتها وتاريخها الحافل، الذي قام مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة باستحضاره في معرض «الهرم الرابع» الذي افتتح السبت الماضي بالتعاون مع معهد العالم العربي في مودا مول بمركز التجارة العالمي.

المعرض الذي افتتحته وزيرة الثقافة والإعلام الأمين العام لمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، تضمن باقة مختارة من المقتنيات الشخصية للراحلة أم كلثوم، والتي التفت إلى جانب عدد كبير من المجموعات الأخرى المرتبطة بأم كلثوم وفنها كي تشكل معرضا متكاملا في تلبيته وملامسته لأحاسيس جميع الجماهير الذين تدفقوا بغزارة لكي يستحضروا أجواء الفنانة في معرضها.

وكان من المثير أن المعرض إلى جانب تقديمه للمقتنيات الشخصية للفنانة قد قدم آليات العرض المختلفة لتنقل توثيقا عن مجمل الإنتاج الفني الذي قدمته، بدءا من شاشات العرض البصرية والأجهزة السمعية التي تستعرض مجموعة الأعمال المصورة والموثقة صوتيا للفنانة.

وذكرت وزيرة الثقافة والإعلام الشيخة مي في تصريح لـ«الوسط» أن المركز خلال تقديمه لمعرض مئوية الشاعر البحريني إبراهيم العريض قد زار معرض «الهرم الرابع» بباريس، إذ تم الاتفاق مع رئيس معهد العالم العربي الذي ينظمه على أن يتم تقديم المعرض للجمهور البحريني بعد باريس مباشرة.

وأكدت وزيرة الثقافة والإعلام أن ما يدفع لإقامة هذه الفعالية هو «الحضور والحب لأم كلثوم التي تمثل الوحدة العربية والانسجام المتكامل والذكريات».

ويقترح المعرض مسارا يعتمد على أربعة مراحل وموضوعات، هي الأيقونة، الموهبة، الالتزام والتراث، إذ يتضمن مقاطع صوتية وسمعية بصرية، حاجات شخصية، أسطوانات، منشورات وآثار، مبدعات معاصرات تتضامن جميعا من أجل استدعاء حياة كاملة، منذ فجر العشرينيات إلى أواسط السبعينيات.

وكانت المقتنيات قد حازت على اهتمام الجمهور، حيث تم استحضارها من متحف أم كلثوم بالقاهرة، وكانت تتمثل في مجموعة صور للحظات خاصة في حياة «الست» كما يحلوا للكثيرين تسميتها، وعدد من قطع الملابس والحلي، إلى جانب الأحذية والشنط والمنديل الذي اشتهرت بحمله.

إلى جانب ذلك كانت شاشات العرض تقدم مقاطع من أغاني أم كلثوم المصورة، وكانت أجهزة الراديو القديمة تنقل صوت أم كلثوم كما اعتاد الناس سماعها في حينها في أجواء لمصر الستينيات والسبعينيات.

وانتشرت على الجدران الأعمال التشكيلية واللوحات المصورة التي تحيي ذكرى الفنانة، إلى جانب قصاصات الصحف والصور التي كانت تنقل أخبار أم كلثوم خلال تلك الفترة. كما تضمّن المعرض أوسمة وشهادات تقدير مذيلة بتوقيع الملك فاروق، وجواز سفر الفنانة، وعدد من الأدوات الشخصية مثل مفكرتها الخاصة التي كانت تسجل فيها الكلمات الفرنسية وترجمتها باللغة العربية.

وكان من بين أبرز تلك المعروضات كتابات بخطوط شعراء، كتبوا فيها قصائد غنتها أم كلثوم، وهم الشعراء أحمد رامي، أحمد شوقي جورج جرداق و بيرم التونسي.

أم كلثوم والشعر العربي

يعتبر المعرض جزءا من سلسلة برامج أخرى يقيمها مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث مرتبطا بموضوع أم كلثوم، إذ أقيم مسياء يوم الأحد 11 يناير/ كانون الثاني الجاري محاضرة للناقد صلاح فضل والفقيه الدستوري يحيى الجمل، استعرض الأول علاقة أم كلثوم بالشعر العربي وملاحظاته حول تأقلم أم كلثوم وتطويعها للكلمة العربية، فيما قدم الجمل جملة من الطرف والمواقف التي عاصرها ويتذكرها من حياة الفنانة.

وبدأ الحديث عند صلاح فضل الذي استذكر من خلال الحفاوة التي حضيت بها أم كلثوم خلال برنامج مركز الشيخ ابراهيم رحلاتها بعد نكسة العام 1976، التي كانت من خلالها تسعى لإزالة آلام الحرب وتصحيح أخطاء السياسيين، إذ وصفها فضل بأنها «فنانة جادة وملتزمة وتعي أهمية فنها ودورها».

ويواصل فضل «أم كلثوم كما نعرفها علامة على عصر بأكمله، وهي مظهر من مظاهر فوران العصر والنهضة والبعث العربي، إذ كانت شخصية واعية ومنخرطة في مشروع وطني وقومي يشمل السياسة والاقتصاد والتعليم والفن، وهو ما كون لظروف أم كلثوم الخاصة التي سنستحضرها لمعرفة علاقة أم كلثوم بالشعر العربي».

الناقد فضل أخذ في استعراض نشأة أم كلثوم القروية، التي جعلت فيها صفات وقيم خاصة، أصرت أم كلثوم على الحفاظ عليها بمنئى عن الإنجراف إلى نمط الحياة العصري في المدينة التي انتقلت لها لاحقا.

وكانت أم كلثوم قد بدأت بداية دينية، أفادتها في انطلاقتها ضمن آفاق المدينة، من حياتها الفقيرة والبسيطة، وهو ما كان ضروريا لصقل إمكانياتها وإثراء روحها.

وأضاف فضل «عاشت أم كلثوم فترة انتقالية مهمة، إذ بدأت مع بداية عصر التسجيل الصوتي وعايشت زهوة عصر السماع في الراديو وبداية عصر الصورة، ولو قدر لها أن تعيش فترة مغايرة لما قدر لها النجاح».

ومن هنا استدل فضل على أن أم كلثوم بدأت تعي تلك الأهمية التي تشكلها، والفرق الذي بإمكانها أن تحدثه عبر غنائها، مستحضرا بعض المقاطع من مقابلة لأم كلثوم أجراها معها الناقد ربيع النقاشي، والتي سجلت فيها مواقف مهمة والنقلة التي أحدثتها في الشعر العربي، إذ سألها في ذلك اللقاء عن إضافتها إلى تاريخ الثقافة العربية فكانت إجابتها أن أهم ما حققته هو نقل الجمهور من الإسفاف الغنائي إلى مستوى أرقى من الغناء القائم على الشعر العربي.

وكانت أم كلثوم بوعيها كما ذكر صلاح فضل قد عهدت إلى الشاعر أحمد رامي بكتابة قصائد تعتمد لغة تشبه لغة الصحافة، وتحمل مافيها من بساطة وقبول لدى الجميع، مع احتفاظها برصانة وجمال اللغة العربية؛ وبذلك حققت أم كلثوم مع أحمد رامي بخفة لغة الصحافة النقلة التي كانت ترجوها في ذائقة المستمع الغنائية.

وكانت أم كلثوم قارئة للشعر ومتذوقة له، وتهتم بنوعية الكلمات التي تقدمها في أغانيها، إذ كانت تحذف وتضيف وتعدّل ما هو موجود في القصيدة بما تراه مناسبا، إذ استحضر صلاح فضل بعض الإحصائيات التي كان فيها غناء أم كلثوم لأشعار 26 شاعرا يكتب باللغة الفصحى، و15 شاعرا يكتب باللغة العامية، فكان مجمل ما قدمته أم كلثوم 280 عملا غنائيا، منها 140 عملا كتبه الشاعر أحمد رامي.

شاهد على الهرم الرابع

وكان حديث القانوني المصري يحيى الجمل منطلقا كطرف كان شاهدا عليها وعاصرها خلال حياة الفنانة أم كلثوم، التي وجدها إحدى أهم رموز الصمود والإصرار والوطنية.

وفي بداية سرده للمواقف والذكريات، قال إن الراديو المصري توقف عن بث أم كلثوم بعد حرب يوليو/ تموز، وكان الرئيس جمال عبدالناصر قد لاحظ أنه لم يستمع لأغنية من أغاني أم كلثوم، فسأل رئيس الإذاعة عن ذلك، فأجابه «دي من العهد البائد»، قاصدا أن أغانيها من الأمور المرتبطة بالعهد الملكي، فأجابه عبدالناصر: «طيب نهدم الأهرام لأنها من العهد البائد كمان»، ومنذ ذلك الحين عادت أم كلثوم تشدوا وعاد العرب يتوحدون حول صوت أم كلثوم.

وقال الجمل: «حينما كنت في نيابة جنوب القاهرة، قالوا إن هناك قضية على أم كلثوم لمصلحة الضرائب، فطلب أن أمثل النيابة فيها لحبي الشديد لها، فأتت أم كلثوم ومعها مصطفى مرعي الذي كان يعد أكبر محامٍ في حينها، وحينما مثلت أم كلثوم أمام القضاء، أخذت تتكلم لمدة ساعة متواصلة، وتفند رأي مصلحة الضرائب بكلام قانوني موزون، حتى انتهت ولم تترك مجالا لأحد كي يتكلم من بعدها، فحجزت الدعوة للحكم».

ومن بين الطُرف التي استذكرها الجمل منع نزار قباني من دخول مصر بعد نكسة العام 1967، إثر قصيدة كتبها، فاتصل نزار بأم كلثوم وأخبرها، فتصدرت الحديث مع الرئيس جمال عبدالناصر بشأن هذا المنع، والذي بدوره بحث عن السبب مع وزير الإعلام في حينها وأمر بالسماح لنزار بالدخول إلى مصر وتوجيه دعوة له لذلك في إشارة للدور والأهمية التي كانت لأم كلثوم.

أما في شئون علاقتها الخاصة، فقد استذكر الجمل حادثة كان قد تحراها شخصيا، وتأكد منها، إذ حصل خلاف يوما بين أم كلثوم وزوجها طبيب الأمراض الجلدية حسن الحنفاوي، ووصلت المشادة بينهما إلى أن يضرب أم كلثوم على وجهها، فرفعت الأخيرة الهاتف، وكلمت الرئيس جمال عبدالناصر وهي متأثرة من ذلك، فترك جمال منزله وهو يرتدي قميصا وبنطالا عاديين في سيارته الخاصة دون حرس، وتوجه إلى منزلها، وحينما استأذن ودخل، تحدث إلى زوجها بالقول: «أنا ماليش دخل في حياتكم الخاصة، لكن دي مصر، ومحدش يمد إيده على مصر»، وهو يلمح إلى القيمة التي تمثلها أم كلثوم.

وكانت آخر ذكريات يحيى الجمل حينما بلغه خبر وفاة أم كلثوم من مستشفى القوات المسلحة عند الساعة 2 ظهرا، فأخبر رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، الذي طلب منه كتابة نعي وبثه بالتنسيق مع وزير الإعلام عبر الإذاعة، إذ يقول: «في الساعة 2 ونصف كان أول خبر أذيع هو نعي أم كلثوم، وعند الساعة 2:45 بث الراديو الإسرائيلي خبرا هو أن أم كلثوم لم تمت، ما أحدث فوضى كبيرة حينها، إذ استند الراديو الإسرائيلي على جهاز كان يبين نبضا بسيطا لأم كلثوم، فيما أعلن المستشفى موتها الرسمي، وبذلك تقرر أن يبث النعي بمعدل مرة كل نصف ساعة وتجاهل خبر الراديو الإسرائيلي»