العدد 2547 - الأربعاء 26 أغسطس 2009م الموافق 05 رمضان 1430هـ

الجفال يوقع مجموعته القصصية «رغبة»

في أمسية بين العزف والنقد والمسرح

في أمسية ضافية جمعت بين كثافة القصة القصيرة جدا، وعذوبة اللحن، وظلال المسرح، واحتفاء النقد، وقع القاص السعودي حسين الجفال مجموعته القصصية الأولى «رغبة» بجمعية الثقافة والفنون بالمملكة العربية السعودية بالدمام بحضور حشد من الأدباء والمثقفين والأصدقاء، وقد احتوت المجموعة على 56 نصا سرديا من «القصص القصيرة جدا» صادرة عن دار فراديس للنشر والتوزيع، ابتدأت الأمسية بعرض فيلم يرصد محطات الجفال الثقافية تقديم الشاعر زكي الصدير، وشرع الجفال في قراءة نصوصه بمصاحبة عزف للفنان محمد الصفار، فيما قدم القاص مالك القلاف قراءة نقدية بعنوان «الحس القومي في السرد العربي: رغبة الجفال أنموذجا»، وخلال الأمسية قدمت فرقة آفان المسرحية عرضا مسرحيا قصيرا مستوحى من قصة «بدلة سوداء» إخراج الفنان عقيل الخميس وتمثيل الفنان أحمد الباشا، بينما قرأ الشاعر محمد الفوز مجموعة من الشهادات النقدية في تجربة الجفال.

وفي قراءته النقدية رأى الناقد مالك القلاف أن سير الجفال رغباته التي تفجرت إثر كبتٍ طال أمده، ذلك الكبت الذي لا يعرف إلا أن يفرز أدبا مؤنسنا، هذا النوع من السرد يحمل في العادة ثقل الجبال ورائحة الورد، ينقل الوجع باللون الأبيض، والحلم بنكهة الليمون الحامض أحيانا. هكذا كان الجفال في رغبته، حمل هم الأرض ونادى بالحضارة ضد اللا حضارة، هكذا وجدنا لديه توثيقا تاريخيا داخل سرده، من زيارة السادات للقدس في «زيارة متعبة»، مرورا بأطفال قانا في «انعتاق»، إلى أن يصل لتاريخ 1 يناير/ كانون الثاني 2008م في قصته «رصيف» حين يضع المريض خطوة أخرى، ويمضي.

ووجد القلاف أن الجفال في سرده الهم العربي والنخل والطين والنفط العربي وحضورا صاخبا للأنثى، فقدمها لنا بشكل غير مألوف، تارة كأم، حاضرة بشعرها الأبيض، بخمارها، بصلواتها، وأخيرا... بروحها. وتارة كوطن موجوع غافٍ على أجفان الأنبياء، وتارة أخرى كحبيبة بلهاء طالما ازداد عنادها عند الساعة العاشرة ليلا فتغلق نافذة العمر، وتسهر مع القمر. يهمنا في كل ذلك ما يتعلق بالمفهوم القومي وارتباطه بالسرد عموما وبرغبة الجفال خصوصا، لذا وكاستعراض سريع وموجز للحالة السردية فإن الأدب العربي بشكل عام من بداية القرن العشرين إلى نهايته أفرز سردا يتمتع بذاكرة قومية غير مزعزعة، ونجد ذلك بشكل ملفت عند أدباء الشام والعراق ومصر والمغرب العربي بحكم تجاربهم مع الإمبرياليات الاستعمارية، فبسبب خصوصية العالم العربي الذي كان مستعمرا وبقي هدفا استعماريا، شكل حلم التحرر الوطني بشكله القومي عنصرا داخليا في الوعي السردي للكثير من الدول العربية، كما وسجلت هذه الذاكرة بدأب واجتهاد ما كان حلما للإنسان العربي ولم يظفر به.

وأضاف القلاف أن الجفال الذي تعمد أن يرافق متلقيه والذوات الفاعلة الأخرى بسفن سرده مراودا السواحل المسكوت عنها وبشكل موارب ومبهم في بعض الأحيان، ما يلبث أن يختفي تاركا تلك الذوات الفاعلة حائرة وعالقة، وعزز ذلك أيضا استخدامه للعنصر الدلالي بشكل مكثف لينهي جل قصصه المكثفة بنهاية فاغرة الانفتاح، فكان استخدامه لتلك التقنيات السردية لا أقول مناقضا وإنما مغايرا لما ألفه أدب القومية العربية بشكله الكلاسيكي وخصوصا في حقبة السبعينيات بمصر، حيث كان أغلب السرد القومي يراود أحلام الوحدة العربية ويتداول القضية الفلسطينية فقط وبشكل جاف يخلو من التقنيات المملسة للسرد والمستوردة حديثا من آداب أخرى.

واستدرك القلاف بأن الجفال استطاع أن يجتاز ويكسر هذه الكلاسيكيات سواء على مستوى اللغة المتوجة بالمفردة الشعرية، أو على مستوى الفكرة، حيث زاوج الحس القومي في قصصه بالأنثى وبالأم وبالفن والثقافة والأدب والمسرح، وراوحت اشتغالاته لتطال حجم النصوص بدءا بالقصة المعتادة إلى الأشكال المستحدثة كالقصة القصيرة جدا أو ما يسمى بالـ ق ق ج، حيث لا تسجل الذاكرة القومية العربية أدبيا أي اشتغالات في هذا المجال سوى القليل جدا وبشكل مغاير أيضا، حيث يذكرني الجفال في قصصه القصيرة جدا بأسلوب مدرسة الروماني إميل سيوران، وشذراته التي لا تتجاوز في العادة السطرين، شديدة التكثيف وموغلة في الدهشة وصادمة إلى آخر حرف فيها.

ووجد القلاف أن في سرديات (الجفال) مماهاة بالأدب القومي، شكلين من الاغتراب: أحدهما التطلع المستمر إلى مجتمع عربي واحد، تتحقق فيه جميع المثل الكونية الكبرى كالعدالة والمساواة والحرية، ونجد ذلك واضحا جدا في مستهل المجموعة وقصة (أنين السُمْر)، أما الشكل الثاني، وهو أكثر ثقلا من الأول فصادر عن إخفاق أو قمع المشاريع الحداثية كلها، سواء كانت كتوجه كالقومية أو الاشتراكية أم كانت كأدب، ومهما تكن هواجس الجفال في رغبته فقد حاكى مجمل المثقفين العرب في هواجسهم، وأخذت القضية الفلسطينية والعراقية أيضا في قصصه حيزا واسعا، ولعل هذا الاغتراب الواسع هو الذي يضع في بعض القصص عنده نبرة مريرة، تقارب اليأس والقنوط أو تختلط بأشياء من التمرد والغضب، رغم وجود بصيص أمل، ولعل أكبر مثال على ذلك قصة (السمراء وجذور لا تموت)، حين غنت تلك السمراء لفيروز رغم وجودها فوق حطام بيتها الذي تهدم فوق رؤوس عائلتها، ثم تصرخ منتشية عندما وجدت دفتر يومياتها وجهاز الحاسوب: انتصرت عليك يا أولمرت.

وأشار القلاف إلى أن ثمة حنينا يكتنف شخوص هذه المجموعة وقد أعاد صياغته القاص حسين الجفال في أكثر من موضع بشكل نمطي أحيانا، ويعيد هذا الحنين صوغ الزمن المفقود، فيبدو حلما تحاول الذاكرة القبض عليه ولا تستطيع، لذلك نجد الجفال يقدم شهادة على الوضع الروحي والفكري للمثقف القومي، الذي عاش في شبابه (الوعد العربي) بكل أحلامه وتطلعاته وثقافته، كما نجد مثالا على هذا النموذج من الشخصيات في بطل قصته (قوس قزح)، ثم عاد الجفال ليضع شخوصا عادت في شيخوختها إلى تأمل الوعد الموجوع كما هو في قصة (صوت). وعلى المستوى الفنّي رأى القلاف أنّ نصوص المجموعة تنتمي إلى ما يصطلح (إدوار الخرّاط) عليه بالحساسية القصصية الجديدة، التي تكسر الترتيب السردي الاطرادي، وتقوّض العقدة التقليدية، وتغوص على الداخل، وتهدّد بنية اللغة المكرّسة. فعلى سبيل المثال قصة (انتشاء) وقصة (شاشة)، نرى شكل السرد هنا ينجز قصّا متمرّدا على مواضعات القصّ التي أرساها الشكل الشفاهي للمحكيّ عامة، والتي مارست، ولا تزال تمارس، نفوذا طاغيا في الكثير من تجارب القصّ العربية، حيث يتّم تفكيك المتن الحكائي إلى وحدات سردية.

واستدرك بأن وإن بدت هذه الفعالية في بعض النصوص تزيينية وليست دلائلية، كما في قصة “قرمشة الخبز”، فإنّها، في الأغلب الأعمّ، تحيل على السمة الثانية، أي على ما يؤدي وظيفة في خطاب القصّ، وما يكشف عن مخزون معرّفي واضح لدى القاص بالموروث الحكائي وبما يزخر به ذلك الموروث من إمكانات تخصّب القول الأدبيّ وتزيده ثراء... الجدير بالذكر أن القاص الجفال لا تتحدّد استعاراته من ذلك الموروث بمبنى النصّ القصصي لديه فحسب، بل تتجاوزه إلى المتن أيضا.

في نهاية قراءته أشار القلاف أن نجاح هذه المجموعة يعتمد على مدى وعي المتلقي ويعتمد انتشارها على وعي الذات الفاعلة والفرد في كيفية تلقيه لها سواء كمنفتح للفكرة القومية فيجاهد في استخلاصها من قصصه، أو كمناهض ومدى انفتاحه لتقبل الأفكار الأخرى. فيظل التساؤل هنا، هل سنشهد رعيلا من الشباب واعيا يحمل هذه المجموعة أو ما يوازيها في القيمة ويتمعن في معانيها، أم ستبقى حبيسة لشريحة من المثقفين والذين يؤمنون ويعون أصلا لهذه الأفكار مسبقا!

فيما رأت الشاعرة سعدية مفرح ضمن مجموعة الشهادات التي قرأها الشاعر محمد الفوز عن أصحابها أن الجفال يتماهى مع نصه إلى درجة الاندغام، فيشفُّ النص القصصي عن ذات الشاعر في حين تعبر تلك الذات إلى مفردات القص برشاقة وأناقة وانبهار بالتفاصيل الموحية والمنمنمات الخزفية من دون أن ينسى وضع إطار موسيقي حركي يبعث في شخصياته حياة إضافية مشتهاة.

بينما وجد الناقد المسرحي عباس الحايك في شهادته أن الجفال بوصفه ناشطا ثقافيا، تجاوز الممكن، وحرك الساكن، ولم يركن للجمود ولم يؤمن بما هو كائن. الجفال تخرج من ثقافة شمولية، حفزته للخروج من تقليدية الثقافة وعاديتها، ولم ينحاز للقصة أو الشعر وحدهما، بل جعلت منه شموليته ينحاز للثقافة والفن بكل أشكالها.

فيما أكد دخيل الخليفة أن رغبة الجفال حس إنساني عميق فمن الومضة الأولى في «رغبة» الجفال، نجد أنفسنا أمام نصوص مفتوحة قصيرة بقدر ما هي كتابات سردية. فالأسلوب الذي ينسج به همومه لا يحاول أن يحصره في نوع أدبي معين بل تتداخل الأشكال ما بين السرد والمشهد واللغة. وفي «رغبة» يحاول أن يكتب مشاهداته الخاصة لهذا العالم، ويصرخ صرخته بلون مختلف يخرج من مرارة السخرية البشرية في عالم باتت فيه التصنيفات القائد الأول. النهايات بحد ذاتها في هذا العمل حالة خاصة، فهي تلخص ملاحظاته على مجتمعات ميتة بفعل فاعل، وهي صوت اللامرئي الذي لا يخرجه أحد إلى الضوء سوى المبدع. هناك صوت يبزغ من نافذة فقراء يبحثون عن ذواتهم الغارقة بالخيبة وهم يطلون من كوة صغيرة إلى عالم أرحب يتشح بالغرائب والغرائز واللهو وسلطة القوة التي يمارسها قابيل ضد هابيل... ليس من أجل امرأة هذه المرة بل ليبقى عبدا مدى حياته... الجفال انعكاس لفكر يبحث عن مدينة فاضلة ، في زمن كل ما فيه يشي بالتشرد ، حيث «الفقير لا يحلم بعيدا» وحيث «الأحلام التي ليس لها واقع لا تبقى» وحيث «حواجز التفتيش المملة، وحيث تصمت العصافير باكرا دون سبب معروف... إنه الحزن والضياع الذي يداهم الناس باكرا... الناس التي فقدت صوتها في زحمة الأشياء المزيفة، في لغة الشمع الأحمر.

فيما رأى الشاعر العماني ناصر البدري في شهادته أن الكتابة عن الجفال تعني أن تكتب وتمسح وتكتب وتمسح وتكتب وتمسح... فإذا ما استحضرت حسين القاص/ الشاعر أبى الإنسان في حسين إلا أن يكون أولا، حتى إذا بدأت به ضيَّق المساحة على سواه! الجفال نصٌّ مستعصٍ على الكتابة الأولى فضلا عن الإسهاب، هو كلمة ألقتها اللغة خارج التعبير فاستعصت على تركيبة الجُمَل... نقي ونادر جدا جدا في عصرٍ كهذا الذي نعيش. ورأى القاص عبدالسلام الحميد أن الجفال انتقائي في اختيار كلماته وتراكيب جمله السردية، ولكنه عفوي بل وفوضوي أيضا في صداقاته فهو صديق للجميع وبلا استثناء تجده في كل المناسبات الثقافية يبتسم لهذا ويمازح ذاك، والأهم أنك لن تخرج من هذه المناسبات إلا وقد عرفك أبو فدوى على غالبية الحضور يبتسم كطفل ويقف معك في الأزمات كأشد الرجال.

فيما رأت الكاتبة السعودية فاطمة الياس أن الجفال مثقف استثنائي تلبسته الكتابة وكل ما يكتبه هو بوح ذاته المسكون بالشجن، وبالهم الاجتماعي، والتجربة الإنسانية للفرد في عصر التأزمات الفكرية والسياسية، وبحثه المستمر عن أفق جديد وفضاء أرحب لهذه الذات القلقة وجميع الذوات التي تعبر عنها كتاباته.

العدد 2547 - الأربعاء 26 أغسطس 2009م الموافق 05 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً