العدد 2589 - الأربعاء 07 أكتوبر 2009م الموافق 18 شوال 1430هـ

مجموعة قصص في سيرة فنانة

عودة إلى مسلسل «أنا قلبي دليلي»

المسلسل التلفزيوني «أنا قلبي دليلي» الذي عرضته محطة البحرين في شهر رمضان يستحق المشاهدة وإعادة القراءة. المسلسل من جانبه الفني متواضع ويفتقر إلى التماسك الدرامي وتجتاحه ثغرات أضعفت قوته سواء على مستوى الحبك أو على مستوى تتابع الرواية.

الجوانب الأخرى من المسلسل ثرية وفيها الكثير من المعلومات التي تلقي أضواء كاشفة على جزء من تاريخ مصر السياسي وسير العائلات الفنية ونشاط الحركة الصهيونية في أوساط الجالية اليهودية وذاك الانقسام الذي وقع بين التيار الأول الذي يغلب الوطن على الطائفة والثاني الذي يغلب الطائفة على الوطن.

هذه النواحي من الشريط التلفزيوني الذي امتد على 33 حلقة أعطت قيمة لتلك الرواية وصلتها بشخصية الفنانة ليلى مراد. فالحوار تجاوز سيرة الفنانة التي اعتزلت هذا الحقل في العام 1957 بسبب زواجها من المخرج فطين عبدالوهاب وبعد عدوان السويس في العام 1956 لتعيش وحدها مع أسرتها وتموت خارج الأضواء في العام 1995.

قيمة المسلسل الدرامية تكمن في هذه الزاوية. فالحوار استطاع أن يتخطى سير فنانة حين اتجه نحو توسيع دائرة الكشف عن سيرة مختلفة. فالشريط أمعن في توضيح شخصية الفنان الكبير أنور وجدي الذي رحل شابا. والشريط تحدث بالتفصيل عن عائلة مراد وسيرتها الفنية منذ نزوحها من المغرب إلى مصر في مطلع القرن الماضي. والشريط أيضا لم يغفل تطور الحياة الفنية في مصر وانتقالها من محطة إلى أخرى على الصعيدين المسرحي والموسيقي.

كل هذه السير جمعها المسلسل في إطار تاريخي تحدث عن الفضاءات السياسية التي شهدتها مصر منذ ثورة سعد زغلول الدستورية في العام 1919ونفيه وعودته ووفاته مرورا بالصراعات داخل القصر وصلتها بالضغوط البريطانية وانتقال الولاية من عهد فؤاد الأول إلى الملك فاروق وصلاته بالقطاع الفني والسينمائي وتلك القوى التي كانت تؤثر على القرار.

الجانب التاريخي مهم في سير العائلات الفنية لأنه يتطرق إلى محطات سياسية بدأت تتدحرج منذ ثورة 1919وصولا إلى الانقسامات الحزبية ونشاط الصهيونية بهدف تأسيس دولة وما أنتجته من انتفاضات وحروب مع الاستعمار البريطاني انتهت بهزيمة الجيوش العربية وخسارة فلسطين في العام 1948.

إعلان دولة «إسرائيل» شكّل علامة فارقة في ولاء اليهود لمصر وكان نقطة فصل لتوضيح معنى الانتماء الوطني ومدى التزام الأطياف الأهلية بالدولة ورفض الانجرار إلى حلقة الانطواء في الهوية الطائفية. والإعلان كان مناسبة لكشف تلك الشبكات التي تعمل سرا لتمويل الصهيونية وتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين. وهذا ما أدى إلى إشعال مشكلات وتدخلات أضرت كثيرا بسمعة ليلى مراد حين اتهمت زورا بأنها تبرعت للجيش الإسرائيلي بمبلغ 50 ألف جنيه. الإشاعة سددت ضربة قاتلة للفنانة التي تزوجت أنور وجدي (طلقته ثلاث مرات) وشهدت الشهادتين من دون أن تنجح في تطويق ذيولها السيئة على شعبيتها التي تدهورت منذ تلك اللحظة. وتبين لاحقا أن رؤساء الحركة الصهيونية في مصر هم الذين أطلقوا الشائعة عقابا للفنانة التي رفضت الموافقة على فكرة الهجرة إلى فلسطين.

الجانب السياسي لا يقتصر على توضيح خفايا الصراع الداخلي وأزمة هوية اليهود في مصر وتعثر الدمج الوطني للأقليات في بنية الدولة فقط وإنما امتد ليشمل زوايا كثيرة منها الصراع على السلطة وفضيحة «السلاح الفاسد» في حرب فلسطين وظهور حركة «الضباط الأحرار» وخلاف القصر مع الإخوان المسلمين واغتيال رئيس الوزراء النقراشي باشا والرد باغتيال مرشد الحركة الشيخ حسن البنا والاصطدام الذي وقع في الإسماعيلية بين الشرطة المصرية وقوات الاحتلال في السويس وانفعال الشارع وغضب القاهرة وقيام حملة حرائق طالت350 مؤسسة أجنبية.

«حريق القاهرة» المفتعل كان خطوة مهدت للثورة وسقوط الملكية ومغادرة فاروق مصر إلى الخارج في العام1952. والحريق الذي أعطى المبرر للانقلاب، لم تتوقف نيرانه حين انفجر الخلاف بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر وما أعقبه من اصطدامات وخلافات مع الصحافة المصرية وتسلط الرقابة العسكرية على حرية النشر والإبداع.

هذه العناصر أعطت ذاك الزخم السياسي للمسلسل حين ألقت الضوء على موقع مجلة «روز اليوسف» ودور إحسان عبدالقدوس في الفترتين. فهذه المجلة المستقلة التي أسستها الفنانة فاطمة اليوسف بعد أن اعتزلت المسرح لتتفرغ للصحافة لعبت دورا مهما في كشف فضائح حرب فلسطين وتخاذل القصر ولكنها تلقت ضربات موجعة من الضباط وسياسة العسكرة التي شهدت المزيد من التضييق على حرية الكلمة.

هناك مجموعة قصص في سيرة فنانة. وهذا النوع من الدمج بين الروافد أعطى الشريط التلفزيوني قوة تاريخية لأنه حاول أن يوسع دائرة الرؤية ونقلها من حياة ليلى مراد إلى تاريخ مصر في صعوده وهبوطه وصولا إلى عدوان السويس واعتزال الفنانة وتفرغها لتربية أسرتها.

الشريط طويل زمنيا لأنه يمتد من العام 1919 إلى العام 1957 وكان لابد له أن يقدم مختصرات عن الحياة الموسيقية والغنائية والمسرحية والسينمائية في تلك الفترة. والمختصرات لا يمكن أن تكتمل من دون التطرق إلى سيرة الفن من خلال سير كبار الفنانين. فهناك سيرة عائلة مراد (والد ليلى زكي وشقيقها الفنان منير). وهناك سيرة أنور وجدي الشاب القوي والعنيف والطموح والناجح في عمله والفاشل في الزواج. وهناك سيرة المطربين والمسرحيين (محمد عبدالوهاب ويوسف وهبي). وهناك سيرة الصحافة (روز اليوسف وابنها الروائي الكبير عبد القدوس). وهناك سيرة تطور السينما في مصر التي وصلت في أيامها إلى احتلال سمعة دولية عالية. وهناك أيضا سيرة اليهود وانشطار الطائفة إلى خطين الأول طائفي تمثل في الفنانة راقية (راشيل) إبراهيم وانتهت بمغادرة مصر والزواج من متمول يهودي في أميركا، والثاني وطني تمثل في الفنانة ليلى مراد وعائلتها وانتهت إلى العزلة خوفا من الفشل والإشاعات.

مسلسل «أنا قلبي دليلي» قد يفتقد إلى بنية فنية درامية إلا أنه يعتبر من الأشرطة التلفزيونية التي نجحت في تقديم صورة سريعة عن مصر في تنويعاتها من خلال عرض مجموعة سير في إطار فضاءات سياسية لعبت دورها في التشويش على حياة عائلات وزعماء وقيادات حزبية. وبهذا المعنى يمكن اعتبار المسلسل ذا قيمة خاصة لأنه لم يعزل الثقافة عن السياسة ولم يسقط السياسة من تطور المحطات الزمنية وتفاعلاتها في بلد يحتل موقعه الخاص والمميز سواء على مستوى التأثير في تحولات التاريخ العربي أو على مستوى إنتاج رموز وتأسيس فاعليات أخذت دورها في الغناء والمسرح والموسيقى والسينما.

العدد 2589 - الأربعاء 07 أكتوبر 2009م الموافق 18 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً