العدد 2750 - الأربعاء 17 مارس 2010م الموافق 01 ربيع الثاني 1431هـ

القرم: النظام البيئي الذي انتهى من البحرين

أشجار القرم لم تنتهِ من مملكة البحرين بعد فلا زالت تنمو بصورة طبيعية في حيز ضيق ويحاول البعض جاهدا أن يحافظ على استمرار بقاء هذه الأشجار في مملكة البحرين. لكن ما انقرض من مملكة البحرين ولن يعود لسواحلها إلا بمعجزة هو ذلك النظام البيئي الذي ارتبط بتجمع أشجار القرم وكذلك كل أشكال الثقافة التي تتبع هذا النظام البيئي.


ليس نظاما بل مجمع للنفايات

عند زيارة ما تبقى من أشجار القرم على ساحل خليج توبلي ستجد بضع شجيرات من القرم مسجاة في بيئة شديدة التلوث ومحاطة بعدد من المصانع التي تضخ أشكالا من الملوثات المتعددة وسط تجمع تلك الشجيرات. لقد تسببت تلك الملوثات بتعطيل النظام البيئي الطبيعي لنباتات القرم ذلك النظام الذي عرف باسم «مصانع القرم» وهو روح أشجار القرم وبزواله تصبح تلك الأشجار جسد بلا روح. منذ أكثر من أربعة آلاف عام بدأ نظام بيئي يضخ شتى أنواع الحياة على سواحل خليج توبلي واستمر يقوم بمهمته على مدى آلاف السنين وقد تم القضاء على ذلك النظام في أقل من 40 سنة وهي الأربعة عقود الأخيرة. قد أتفق مع من يقول أن تلك الأعداد المحدودة من السرطانات البحرية وتلك الأعداد البسيطة من الطيور هي جزء من النظام البيئي للقرم ولكنها لا تمثل إلا جزءا بسيطا من نظام بيئي زال من البحرين دون عودة, ذلك النظام يستحق على أقل تقدير أن نروي قصته التي بدأت منذ آلاف السنين فلربما تكون تلك القصة هي خير نعي ننثره على أجساد أشجار القرم المسجاة على ساحل خليج توبلي بعد أن سلبت روحها منها. ولكن قبل أن نبدأ تلك القصة علينا أن نعطي بعض المقدمات التي تعرفنا بأشجار القرم والنظام البيئي الذي ارتبط بها.


أشجار القرم

القرم هو الاسم المحلي والعربي للنبات المعروف بلغة العلم Avicennia marina وهو يكون نظام بيئي يسمى Mangal وهو مشتق من كلمة Mangrove وهو مصطلح بيئي يستخدم ليشمل كلا من الشجيرات والأشجار من ذوات الفلقتين والفلقة الواحدة، والتي توجد في المناطق الاستوائية وتحت الاستوائية الضحلة الواقعة تحت تأثير المد البحري, وهو مكوّن من كلمتين: الأولى برتغالية “Mangue” وتعني شجرة، والثانية إنجليزية Grove”» وتعني مكان الأشجار، وقد ترجمت إلى اللغة العربية خطأ «مقابر الإنسان» والأفضل أن تسمى أيكة ساحلية (شلتوت 2003). وعلى المستوى العالمي يوجد نحو 80 نوعا من هذه النباتات (78 من ذوات الفلقتين + 2 من ذوات الفلقة الواحدة) تنتمي إلى 18 فصيلة و23 جنس موزعة حول المناطق الاستوائية وتحت الاستوائية في العالم، يوجد العدد الأكبر منها (65 نوعا) في منطقة جنوب شرق آسيا، بينما يوجد نحو 11 نوعا في العالم الجديد ومنطقة الكاريبي. وفى الوطن العربي يوجد ثلاثة أنواع من نباتات الأيك الساحلية هي: Avicennia marina و Rhizophora mucronata و Bruguiera gymnorhiza. ويعتبر نبات القرم Avicennia marina (Forssk.) Vierh (كما يسمى في الجزيرة العربية) أو الشورى (كما يسمى في مصر والسودان) هو نبات الأيك الساحلي الأكثر شيوعا حيث ينتشر حول ساحل البحر الأحمر الغربي (مصر والسودان) والساحل الشرقي (المملكة العربية السعودية واليمن)، وكذلك على خليج العقبة والخليج العربي (شلتوت 2003).

وسيكون حديثنا هنا عن نوع من أشجار الأيك وهو القرم الأسود Avicennia marina الذي يوجد على سواحل مملكة البحرين.


تكيف أشجار القرم

تنمو أشجار القرم في المستنقعات المائية في مناطق ما بين المد والجزر أي المنطقة التي يغطيها الماء أثناء المد وتنكشف أثناء الجزر، وقد تكيفت أشجار القرم على مثل هذه البيئة فهي نباتات مقاومة للملوحة ومتأقلمة معها بنجاح وذلك لوجود خواص تساعدها على التكيف كإفراز الأملاح عن طريق غدد ملحية خاصة أو تركيز الأملاح في الأوراق ثم التخلص منها. كذلك تتميز هذه النباتات بانتشار جذورها الهوائية في مسافات متفرقة من الأراضي الطينية التي تنمو فيها حيث تكون التربة فقيرة الأوكسجين وهذه الجذور الهوائية من أحد أهم تحورات شجر القرم للمعيشة في التربة الطينية.

وهناك تحور آخر في نبات القرم وهو أن بذوره لا تسقط من الشجرة الأم إلا بعد أن تكون قد نبتت قليلا حتى تتمكن من التثبيت في التربة المحيطة ولا يجرفها التيار أثناء الجزر إلى مناطق غير مناسبة.


موطن أشجار القرم في البحرين

تنمو أشجار القرم في البحرين بصورة حصرية على سواحل خليج توبلي الذي يقع على الساحل الشرقي لجزيرة البحرين الرئيسية وبذلك تكون سواحل خليج توبلي محمية أي ليست مواجهة للرياح فالرياح السائدة في البحرين هي رياح شمالية غربية وهذا يجعل من خليج توبلي حوض تترسب فيه حبيبات الطمي, أضف إلى ذلك موقع الخليج الفريد حيث أنه خليج داخلي وشبه مغلق, وذلك يختص بهدوء تياراته البحرية وقلة أمواجه, كل ذلك ساهم في وجود ساحل طيني. والأهم من كل ذلك وجود المياه العذبة التي تصب في هذا الخليج وهي مياه قنوات الري (المنجيات) وهذه المياه العذبة يحتاجها نبات القرم في بداية حياته.


النظام البيئي المرتبط بالقرم

تعتبر بيئة شجر القرم من البيئات الساحلية الغنية بالمواد العضوية والأملاح الغذائية وهي تعرف باسم «مصانع القرم» وقد سميت بذلك لقدرة هذا النظام البيئي على الإنتاجية العالية بالمقارنة بالسواحل المفتوحة، وهذه الخاصية ناتجة عن ظاهرة نثار أوراق وأجزاء النباتات في الموطن أو الموئل الذي تعيش فيه, بعد ذلك تتحلل هذه الأوراق والأجزاء على فترات زمنية بفعل الأحياء الدقيقة مثل البكتيريا والفطريات إلى مركباتها العضوية الأولية مكونة ما يعرف بالمغذيات حيث تستفيد الكائنات البحرية من تلك العملية في نظامها الغذائي، ونظرا لتوفر المواد العضوية والأملاح الغذائية نلاحظ ازدهار الطحالب القاعية التي تلون الماء باللون الأخضر الذي يتغذى عليها الرخويات كالقواقع والأصداف مما يرفع من تنوع الكائنات الحية في السلسة الغذائية التي تكون أشجار القرم المنتج الأول فيها وبذلك تؤمن الموطن المناسب للتنوع الهائل للكائنات الحية التي تعيش في وسطه ومنه تأخذ حاجتها من الغذاء, كذلك يمثل النبات مأوى للطيور المهاجرة والمستوطنة، وتقوم بيئة جذور نبات القرم بوظيفة محاضن طبيعية للثروة السمكية، إذ تعتبر ملجأ للأسماك الصغيرة، كما تعتبر الحاضن الطبيعي الوحيد للأربيان (الربيان)، كما تستخدم مأوى لتعشيش الطيور. فغابات القرم تعمل على حماية الحياة البحرية بما توفره من حضانات لتربية هذا الكم من أعداد وأنواع الأسماك والقشريات.


القرم وبناء السواحل

يساهم النظام البيئي المرتبط بنبات القرم كذلك في عملية بناء السواحل، حيث ينتشر القرم في اتجاه البحر فيقوم بتسريب التربة وبناء طبقات منها وتقلل من حركة المياه وبذلك يهيئ مواقع جديدة ضحلة لزراعة بادرة جديدة تقوم بنفس العملية وبذلك تنمو تلك الأشجار باتجاه المياه الداخلية للبحر. كما تلعب أشجار القرم دورا كبيرا في حماية السواحل من خطر النحر، فهي تساهم في بناء وتنمية السواحل وذلك بواسطة سيقانها وجذورها الهوائية المنتشرة فهي لا تسمح بانجراف التربة.


أخشاب وأوراق القرم

يستفاد من أخشاب وعيدان أشجار القرم في المباني إذ تستخدم سيقانها في الحصول على أخشاب البناء وصناعة القوارب وكذلك حطب الحريق، إن أخشاب القرم تقاوم الطبيعة وتتغلب على الأرض التي تأكل الأخشاب, كذلك تعتبر أوراق وفروع أشجار القرم الصغيرة أعلافا جيدة للحيوانات البرية كالجمال والماشية وذلك لاحتواء أوراقها على نسبة من البروتين تصل إلى 13 في المئة.


أهمية خليج توبلي كنظام بيئي

مما سبق يمكننا أن نستنتج أن أهمية خليج توبلي ناتجة أساسا من وجود النظام البيئي لنبات القرم وليس لوجود أشجار القرم فقط وأن ضياع ذلك النظام يجعل هذا الخليج وتلك الشجيرات عديمة الفائدة, فوجود النظام البيئي يؤدي إلى تنوع الكائنات الحية في الخليج ويزيد وفرة الأسماك والروبيان كل ذلك يكسب المنطقة أهمية من الناحية الاقتصادية والثقافية والترويحية.


أسباب ضياع بيئة القرم

سنعالج في فصل قادم أسباب ضياع بيئة القرم بالتفصيل والتي يبدو أنها ناتجة من عامل إنساني بحت وفي هذه المقدمة سأعرض بعض المصطلحات التي استخدمت مؤخرا في بعض الأدبيات لوصف السلوك الإنساني من حيث كونه مدمرا للبيئة أو محافظا على البيئة, إنها مصطلحات تصف السلوك الناتج إما عن الثقافة الربحية أو الثقافة المحافظة.


الثقافة الربحية في قبال ثقافة المحافظة

منذ أن وعى الإنسان لما أنعم الله عليه من النباتات وهو يستفيد من تلك النباتات حتى وجد نفسه يستهلك منها أكثر مما ينتجها أو يستزرعها, عند هذه اللحظة تكونت ثقافتان متناقضتان الأولى ثقافة ربحية لم تكترث بالتناقص المتزايد في النباتات فلم تدرك تلك العقلية الربحية أن هذا السلوك ربما ينتج عنه كارثة تتحملها الأجيال القادمة. وفي قبال ذلك كانت هناك ثقافة المحافظة, فحتى في تلك الحقب القديمة وجدت زعامات من أصحاب العقول الراجحة التي ربما تكهنت بأن كارثة بيئية على وشك أن تحدث, من تلك الزعامات بعض ملوك حضارة وادي الرافدين وعلى رأسهم حمورابي الذي شرع قانونا يجبر كل من يقطع شجرة بدفع ضريبة باهظة جدا, إلا أن النصر لا يكون دائما للثقافة الأرجح عقلا حيث تحولت أجزاء من حضارة وادي الرافدين لأرض قاحلة وبدلا من أن تنتج الأخشاب من غاباتها الكثيفة أصبحت تستورد الأخشاب من الخارج.

لم تكن ثقافة المحافظة حصرية على الملوك التي أخذت تسنّ القوانين لكنها أيضا أصبحت من ضمن الشرائع الدينية حيث نلاحظ أن الرسول الأعظم (ص) ذكر عددا من الأحاديث تنص على الاهتمام بالنباتات وعدم قطعها كما مر علينا في الحديث عن النخلة والسدرة. وحتى مع وجود التشريعات الدينية لم يتم كبح تلك الثقافة الربحية التي تسببت بإنهاء عدد من النباتات والأنظمة البيئية ومنها النظام البيئي المرتبط بنبات القرم.


السلوك الإنساني المعجل بالتطور

لم يختفِ النظام البيئي المرتبط بالقرم وكذلك الثقافة المرتبطة به بسبب تحديات مائية أو تغيرات بيئية مناخية مفاجئة وإنما اختفى ذلك النظام بسبب سلوك جماعة من أفراد المجتمع ذلك السلوك الناتج من الفكر الربحي القابع في عقول تلك الجماعة, إنه السلوك الناتج عن الثقافة الربحية. يجب أن لا نقلل من خطورة السلوك الإنساني المدمر الناتج من الثقافة الربحية أو ثقافة إساءة استخدام أدوات التطور, بالومبي (Palumbi 2001) في كتابه « The Evolution Explosion: How Humans Cause Rapid Evolutionary change» يصف السلوك الإنساني كسبب معجل بالتطور, فالسلوك الإنساني لم يساهم فقط في التغير البيئي أو التغير الديموغرافي أو نسبة عدد الذكور إلى الإناث لكنه يؤثر أيضا في جينات الكائنات الحية الأخرى, ويسوق بالومبي العديد من الأمثلة كإساءة استخدام المبيدات الحشرية والمضادات الحيوية التي أدت لظهور الحشرات والبكتيريا المقاومة لتلك المبيدات والحشرات. كذلك (Blute 2006) يعزز قول بالومبي ويسوق أمثلة ضمن نظرية التطور الثقافي الجيني المتزامن ويوضح كيف أن سلوك الإنسان جعل من التطور الذي يوصف بأنه سلحفائي لبطئه بأن يوصف بالأرنبي لتسارعه ونجد أن بالومبي وصف هذا التسارع بالانفجار, وسيستمر التسارع التطوري فثقافة العقليات الربحية لا زالت تبتكر أنماطا مختلفة من السلوك الذي سيؤدي بالتعجيل بانقراض أنواع من الكائنات الحية وتعجيل تطوُّر أنواع أخرى.

وهكذا سنتتبع في الفصول القادمة قصة حياة النظام البيئي المرتبط بأشجار القرم, متى بدأت؟ وكيف كانت؟ وكيف تم التعجيل بانتهاء ذلك النظام البيئي ولم يبقَ منه إلا بقايا شجيرات محتضرة.

العدد 2750 - الأربعاء 17 مارس 2010م الموافق 01 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً