العدد 2799 - الأربعاء 05 مايو 2010م الموافق 20 جمادى الأولى 1431هـ

ثقافة الطين وفن بناء الهوية

في أجزاء سابقة تناولنا ثقافة البحر وثقافة النخلة والثقافة المرتبطة بالنباتات بصورة عامة, ويلاحظ أن تلك العناصر المادية التي ارتبطت بالثقافات السابقة نادراً ما نعثر لها على دليل أركيولوجي يدلل عليها, فالسفن وآلات صيد الأسماك والآلات المصنوعة من أجزاء من النخلة أو نباتات أخرى كلها أدوات قابلة للتحلل مع الزمن وبذلك لا يبقى منها إلا شيء بسيط وفي حالات نادرة جداً, وبذلك لا تمدنا هذه الادوات بأي إشارة عن هوية الشعوب القديمة. على نقيض ذلك الآلات أو الأدوات التي تصنع من الطين أو الحجارة تستمر لفترات طويلة من الزمن ويمكن العثور على العديد منها, وهذه الأدوات تعطي دلالات عن هوية الشعوب القديمة. وقد استحدث علم خاص بدراسة هوية المواد الاثرية وبالخصوص تلك المصنوعة من الطين وهو علم ethnoarchaeology.


الإثنوأركيولوجيا

الاسم مركب من كلمتين الأولى الإثنوغرافيا ethnography وتسمى أيضاً الإثنولوجيا الوصفية وهي علم يختص بالدراسة التحليلية للمجموعات العرقية (الإثنية) المعاصرة، أي دراسة خصائص تلك المجموعات المادية والاجتماعية واللغوية سواء عن طريق ملاحظة وتسجيل المادة الثقافية من الميدان أو وصف أوجه النشاط الثقافي كما تبدو من خلال دراسة الوثائق التاريخية. أما الكلمة الثانية فهيarchaeology وتعني علم الآثار.

استخدمت كلمة «إثنوأركيولوجيا» في العام 1900 من قبل فيوكسFewkes لكنها لم تصبح مصطلحاً شائعاً إلا في الآونة الأخيرة, وهناك تباين في وجهات النظر فيما يتعلق بالمعنى الدقيق للمصطلح، فالبعض أعطى المصطلح تعريفا عاما واسعا، حيث عرفها كل من غوولد Gould,1978 وستيلس Stiles,1977 بأنها تعني مقارنة المعطيات الإثنوغرافية مع المعطيات الآثارية, ووفق هذا التعريف يجوز، بالتالي، وصف كل تفسير آثاري تقريباً بأنه إثنوأركيولوجي. بينما يجعل ستانسلافسكي Stanislawski,1974 من الكلمة علما خاصا ومجال دراسة فيعرف الإثنوأركيولوجيا بعملية تجميع معطيات إثنوغرافية أصيلة بهدف تقديم مساعدة للتفسير الآثاري, وهذا التعريف الثاني يتطابق أكثر من التعريف الأول مع الاستخدام الجاري حالياً.


كيف نفهم الإثنوأركيولوجيا

ربما يستصعب علينا معرفة معنى الإثنوأركيولوجيا من خلال التعريف فقط وعليه سنعطي مثالاً توضيحياً, لنفترض أن أحد المنقبين الآثاريين عثر على قطعة ما فقام هذا المنقب بتحديد هذه القطعة على أنها قطعة فخار وربما يحدد المنقب نوعية أو شكل الإناء الفخاري التي أتت منه هذه القطعة وربما يحدد أيضا المنقب كيف صنع الإناء الفخاري ربما عن طريق جعل الطين أنبوبا رقيقا ويلف ويشكل في إناء معين أو أن قطعة الطين عجنت ووضعت على عجلة تدور وفي أثناء ذلك تم تشكيل الإناء ومن ثم حرق الإناء ليكون أكثر صلابة.

والسؤال المطروح هنا: كيف تمكن هذا المنقب من تحديد أو تخمين نوعية القطعة, أو تحديد طريقة صنعها؟ ما كان المنقب ليعرف كل ذلك لو لا أن تلك التقنيات والطرق مازالت متعارفا عليها في الوقت الحاضر, فقد استخدم المنقب معلومات تم جمعها في الأساس من مجموعات عرقية معاصرة وكل ما احتاج له هو مقارنة المنتج الحالي بالمنتج الذي عثر عليه, بالطبع لقد أطر المنقب للقيام بالعديد من التجارب والتحاليل ليتوصل للنتيجة النهائية. ملخص فكرة الإثنوأركيولوجيا أنه يحاول استنطاق القطع الأثرية التي يعثر عليها ليتعرف على ثقافة الشعوب القديمة باستخدام معلومات جمعها من الشعوب المعاصرة, وتعتبر المواد المصنوعة من الطين كالفخار والسيراميك من أفضل تلك القطع الأثرية التي تعطي دلالات ثقافية.


الطين والهوية

لا نعلم بالتحديد متى اكتشف الإنسان القديم الطين ومنذ متى اكتشف إمكانية تشكيل الطين ومن ثم حرقه ليبقى شكله ثابتاً وبذلك ابتكر الفخار, لن نهتم بهذه التواريخ في الوقت الراهن فما يهمنا هنا أنه مع بداية تشكيل الطين تم تشكيل هويات الحضارات القديمة, فالفخار يحمل معه هويتين, الأولى «هوية الأرض» التي أخذ منها الطين لصناعته, والثانية «مهارة الفرد» الذي شكل الطين وهذه المهارة تعتبر بمثابة بصمة خاصة كالبصمة الجينية تماماً فسكان الحضارات القديمة تفننوا في تشكيل الطين ليتقنوا بذلك تشكيل هويتهم ويضمنوا لها الخلود. فالفخار هو نتاج لسلوك أفراد من جماعة عرقية محددة وتنتمي لأرض معينة ومتى ما وجدنا هذا الفخار وربطناه بأرض وجماعة عرقية أمكننا معرفة حركة هذه الجماعة وهجرتها وتاريخ وجودها ومتى استبدلت هذه الجماعة بجماعة عرقية أخرى.


البحرين وحقبة ما قبل الهويات

نعلم أن أرض البحرين منذ أن تكونت كجزيرة بدأت تستوطن من جماعات بشرية, إلا أن تلك الجماعات لم تحدد لها أي هوية فلا يوجد شيء خاص بها يمكن أن نجعل منه رمزاً لهويتها كل ما نعلمه أنه في الألفيتين الخامسة والرابعة قبل الميلاد تم العثور على أدوات تتميز برؤوس سهام محدبة على شفرات من حجر الصوان مضغوط سطحها، تعرف بالمجموعة (د) وقد عثر على هذه المجموعة في مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية (Cleuziou 1999). وهذا يعني أن المجموعة العرقية التي استوطنت البحرين تنتمي لشبه الجزيرة العربية. وقد تم تحديد مناطق الاستيطان الأولى على جزر البحرين اعتماداً على ما وجد من أدوات صنعت من حجر تنتمي للمجموعة (د), حيث تم التعرف على عدة مواقع وجد بها هذا النوع من رؤوس السهام في الجزء الغربي من الجزيرة وعلى المنحدرات الغربية لجبل الدخان (Cleuziou 1999). كذلك فإن هذه الفترة السابقة تتميز بوجود كسر من الفخار الملون مطابق لذلك النوع الموجود في القرى الزراعية لحضارة العُبيد في جنوب العراق, ففي الوقت الذي تابع السكان في جزيرة البحرين حياتهم على ما كانت عليه من الصيد والتقاط الثمار وشيء من الزراعة, كان في أنحاء أخرى من الخليج وبالتحديد في جنوب حضارة ما بين النهرين تخطى شعب تلك المنطقة حقبة العصر الحجري وظهر شعب كون حضارة متميزة بصناعة فخار مميز عرف هذا الفخار بفخار العُبيد (Cleuziou 1999).


ما هو فخار العبيد؟

سبقت ظهور المدن السومرية في جنوب بلاد الرافدين ثلاث فترات حضارية هي: العُبيد، والوركاء، وجمدة نصر, وتُعَدُّ فترة العُبيد أقدم تلك الحضارات وقد عرفت بهذا الاسم نسبة لتل العُبيد الذي يقع على بعد ثمانية كيلومترات إلى الجنوب الغربي من موقع أور المشهور, وقد تمكن الباحثون من تقسيم فترة العُبيد إلى ثلاث مراحل رئيسية ومرحلة انتقالية، تؤرخ جميعها إلى ما بين نهاية الألف السادس ومنتصف الألف الرابع قبل الميلاد، عندما بدأت حضارة الوركاء بالانتشار (العزي 2006). وقد استند تقسيم فترة العُبيد إلى التسلسل الطبقي في تل العُبيد ومواقع أخرى، بالإضافة إلى نتائج دراسة المادة الأثرية وخاصة الأواني الفخارية المكتشفة في التل المذكور، والتي تظهر مدهونة بلون واحد إما أن يكون أسود أو بنياً نفذت به عناصر زخرفية لها أشكال هندسية ونباتية ورسوم لحيونات بحرية وبرية، وقد يجمع العناصر الزخرفية الثلاثة نموذج زخرفي واحد. وحيث إن هذا النوع من الفخار قد نال اهتمام الباحثين نظراً لتميزه، فقد أصبح المادة الأساسية التي تعرف بها تلك الفترة وتقسيماتها الفرعية داخل بلاد الرافدين وخارجها (العزي 2006). ونلاحظ هنا أن فخار العبيد أصبح رمزاً يدلل على هوية الشعوب التي أسست الحضارة التي سبقت حضارة السومريين.


انتشار فخار العبيد في البحرين

بدأ ظهور فخار العبيد في البحرين بانتهاء الألف الرابع قبل الميلاد، حيث وجدت هذه الكسر بشكل خاص في مستوطنات صيادي السمك في منطقة المرخ، إذ كشفت التنقيبات عن علامات أعمدة مبنية من مواد خفيفة, ومن المناطق الأخرى التي وجد فيها هذا الفخار هي عالي ومنطقة أخرى بالقرب من الدراز وبني جمرة وقرية المرخ، وكانت قد وجدت آثار أقدم من فخار العبيد في سار (Cleuziou 1999 and Larsen 1983 ). تلك النتائج أدت لاستنتاج أن أولى المناطق الساحلية التي سكنت في البحرين هو الخط الساحلي الغربي الممتد من الشمال من حدود الدراز الداخلية مع بني جمرة مروراً بقرية المرخ وبني جمرة وسار وانتهاء بمنطقة المرخ في رأس الجزائر, أي على امتداد 30 كم (Larsen 1983). ويلاحظ أن تلك الأماكن الساحلية التي سكنها شعب تلك الحقبة تمثل المناطق المرتفعة القريبة من السواحل والسبب في ذلك هو ارتفاع منسوب مياه البحر الذي كان يغطي المناطق الساحلية المنخفضة المعروفة حاليا, والثابت أن سكان تلك الفترة كانوا يعيشون على الزراعة وصيد البر والبحر.


أصل فخار العبيد

بعد أن تم العثور على فخار العُبيد في مناطق مختلفة في مملكة البحرين وشرق الجزيرة العربية تم التساؤل: هل كونت شعوب شرق الجزيرة العربية هوية خاصة بها عن طريق محاكاة صناعة فخار العُبيد؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بتحليل دقيق لقطع الفخار لتحديد أصله, وقد تعرض فخار العُبيد إلى دراسات متعددة وجاءت النتائج متضاربة.

يرى عبدالله حسن مصري أن الفخار المكتشف في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية العائد إلى فترة العُبيد كان نتيجة لاستيطان وتطور محلي وقد ظهر هذا الاستنتاج في رسالة الدكتوراه التي قدمها العام 1974م وكذلك الورقة البحثية التي نشرها العام 1976م ولخص فيها أهم نتائجه (العزي 2006). وفي العام 1976م نشرت جون أوتس (J. Oates) مقالاً نقدت فيه استنتاجات عبدالله مصري، وقد قامت أوتس بمقارنة نتائج تحليل مختبر لبعض الكسر الفخارية (أي فخار العبيد) المنتخبة من مجموعات عائدة لمواقع في بلاد الرافدين، والمملكة العربية السعودية، ومملكة البحرين، ودولة قطر، ذاهبة إلى أنه من مخلفات أقوام جاءوا من بلاد الرافدين إلى شرقي الجزيرة العربية وأقاموا إقامة موسمية إما لنقل التجارة أو لأغراض أخرى, وترى أوتس أن تحاليل الفخار هذه بينت بشكل جلي أن منشأ الفخار هو بلاد ما بين النهرين (العزي 2006).


السيناريو المحتمل

المرجح أن المجمعات البشرية التي استوطنت البحرين في الحقب القديمة لم تكون لنفسها هوية بعد وأن الفخار الذي وجد هو جزء من فخار شعوب حضارة العبيد. ويرجح كلوزيو في بحثه (Cleuziou 1999) أن العُبيديين قد كان لهم توجه بحري وكانوا يسافرون في زوارق على طول الساحل العربي ويجلبون معهم الأواني الفخارية المتميزة التي كانوا يصنعونها, وكانوا يستقرون على الجزر وسواحل شرق الجزيرة العربية ويخلفون وراءهم بصمتهم المميزة وهي أوانيهم الفخارية, ويحتمل أن يكونوا قد أقاموا علاقات مع السكان المحليين وأعطوهم أو باعوهم أوانيهم الفخارية المطلية ربما مقابل سلع أخرى, وبذلك يكونون قد أدخلوا لتلك المناطق تقنية جديدة وهي تقنية صنع الفخار.

العدد 2799 - الأربعاء 05 مايو 2010م الموافق 20 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً