العدد 2799 - الأربعاء 05 مايو 2010م الموافق 20 جمادى الأولى 1431هـ

ناقداً مثيراً للأسئلة... مهندساً للمشاريع الشبابية

يظل البنكي في ذاكرة مريديه

ظل ناشطا، إشكاليا، مثيراً للأسئلة دائما في كل محطة عبر بها أو عبرت به ناقداً ثقافياً، ناشطاً في المحافل الأدبية والفكرية، مبدعاً للمشاريع الإبداعية، وأخيراً وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام هكذا رحل الناقد الثقافي صاحب «دريدا عربيا» محمد البنكي وترك في ذاكرة مريديه الكثير، وهذه محطات أخذ أصدقاؤه فيها أنفاسهم بعد لحظة الرحيل يستذكرونه فقد رأت فيه الناقدة الثقافية والأكاديمية بجامعة البحرين ضياء الكعبي مفككاً ثقافياً مثيراً للمشاريع مسوقاً للغذامي وفياً لأستاذيته، فيما رأى فيه الشاعر كريم رضي : ناقداً أكثر منه شاعراً وإن كان قد ولد بيننا شاعراً في البداية إلا أنه عرف طريقه وأخلص له، بينما عرفه عضو مجلس الشورى الأكاديمي ناصر المبارك زميل دراسة دؤوباً على البحث والأسئلة في كل القضايا، وفي شهادته أحب الناقد الثقافي نادر كاظم أن يطلق كلماته للبنكي رسالة فكتب إليك أيها العزيز لقد كنت أكثرنا تسعينيةً وشباباً وحيوية ونشاطاً.


ضياء الكعبي: البنكي مفككاً ثقافياً

وفي مداخلتها تحدثت الكعبي عن البنكي كمفكك ثقافي فأشارت إلى أنه «عندما علمت عن نية «فضاءات الوسط» تخصيص محور عن محمد البنكي بوصفه ناقداً ثقافياً تداعت إلى ذاكرتي سنوات قلائل مضت شهدت فيها البنكي يحتفي احتفاء كبيراً بعبدالله الغذّامي الذي كان صاحب الريادة في تقديم النقد الثقافي والدراسات الثقافية للمتلقي العربي. والذي كان كتابه»النقد الثقافي: الأنساق الثقافية المشكِّلة للشخصية العربية» بمثابة الجذوة القادحة والمولدة لحراك سجالي لا يزال مشتعلاً إلى اليوم بمجرد أن تأتي بسيرة الرجل الثقافية والفكرية. وماأزال أذكر تلك الأيام والأماسي من شهر مايو/ أيار سنة 2001 والمكان قاعة بمتحف البحرين الوطني في حلقة نقاشية تكريمية لمشروع الغذامي الثقافي والحضور نخبة من النقاد والمفكرين يتقدمهم عبدالله الغذّامي ومعجب الزهراني وعبدالله إبراهيم ومنذر عياشي إلى جانب جيل ثقافي شاب كان يتخلق منهم البنكي ونادر كاظم وعلي الديري و زهرة المذبوح وضياء الكعبي وحسين السماهيجي وغيرهم.وقد قدم البنكي في ذلك الملتقى ورقة تميزت بطرافتها وجدتها وأثارت إعجابًا شديدا وتميزت بدعابتها الفكرية التي أثارت ضحك الغذّامي والحضور فقد كانت بعنوان»الغذامي مسوقاً».وشبّه فيها البنكي الغذّامي بفرشاة الأسنان (أكوا فرش) المتعددة الاستعمالات في إشارة إلى ذكاء الغذّامي التسويقي في الترويج النقدي بحسب أذواق متلقيه وسياقاتهم الاجتماعية والسياسية والفكرية.ولقد راهن الغذّامي آنذاك على هذا الجيل الثقافي في البحرين وكأنه سيحمل رايته وسيكون من أفضل مريديه وإن اختلف هؤلاء ورفض بعضهم الانضواء في عباءة الغذّامي. أمّا البنكي وإن كان قد انصرف إلى تأسيس مشاريع أخرى سيكوّن هو ومجموعة من الشباب منهم نادر كاظم وعلي الديري من الدعاة إلى تأسيس جمعية للنقد الثقافي في وقت كان فيه الحماس مشبوباً لهذا النقد.وسيتعثر هذا المشروع ثم سيتبدد ولكن سيظل اهتمام البنكي بالنقد الثقافي متمثلاً في مجلته»أوان» ثم في ملحق»الكنش» بجريدة الوطن ثم في مجلة «ثقافات» الصادرة عن آداب جامعة البحرين وسيشتغل بالتفكيك الثقافي لأطاريح بعض زملائه مثل نادر كاظم في «استعمالات الذاكرة» إلى جانب احتفائه الأخير بالغذّامي في كتابه «القبيلة والقبائلية». ولو أطال الله عمر البنكي لكان أصدر هذه التفكيكات الثقافية في كتاب ولكن الأمل مناط بمحبيه في تجميع إرثه المبعثر في كتاب جامع.

كريم رضي: البنكي ناقداً أكثر منه شاعراً

وفي مداخلته حول البنكي شاعراً، أشار كريم رضي إلى أنه أول ما تعرّف على البنكي شاعراً في الصفحات الثقافية الخاصة بالشعراء الشباب، وبعدها كنا نجتمع في أسرة الأدباء والكتاب ونتداول في الثقافة والأدب وما كانت نصوصه الشعرية تستهويني كونه ولد ناقداً أكثر منه شاعراً وقد اقتنع هو بذلك لا حقاً، وقد سبق أن نشر بعض النصوص وما زلت أحتفظ ببعضها.

البنكي حتى في كتاباته الشعرية كان حريصاً على تجريب عدة أنماط وقوالب ومفردات جديدة كونه ينهل من معين قرائي كبير فهو قارئ للتجربة البحرينية بكل دأب وقوة، ولكنه لم يكن يستطيع أن يكون شاعراً وحدد مكانه وعرف أين يكون، ولعل أهمية البنكي أنه كان ناقداً أكثر منه شاعراً منذ تلك اللحظات.

وتكمن أهميته كذلك في كونه منشطاً بين كل المجاميع التي يستهويها وتستهويه ففي حين جمعتنا معه أسرة الأدباء أو غيرها من الأماكن كان منذ البداية هو المنشط فهو الذي يحدد اللقاء ويختار المكان والكتب التي تطرح لقد كان دائما في موقع المنشط ولعل هذه الصفة ظلت لا تبارحه حتى آخر حياته فهو دؤوب في إثارة من حوله بالأفكار الكبيرة ولعل آخرها تاء الشباب وغيرها وهذه كانت أهميته ولعلي مازلت أحتفظ بقصيدة كان هو محرضها حيث أشار على صديقنا المشترك حسين السماهيجي أن يكتب قصيدة في رحيل الجواهري فما كان من السماهيجي إلا أن كتبها وأهداها البنكي في حينها وظلت هذه القصيدة مرتبطة بالبنكي كونه محرضها إلى أن تفرقت بنا السبل.


المبارك: عرفت البنكي زميل الدراسة مثيراً للأسئلة في كل القضايا

وفي شهادته عن البنكي أشار عضو مجلس الشورى الأكاديمي ناصر المبارك إلى أنه برحيل الأخ محمد البنكي فقدنا أخاً نبيلاً، وصديقاً عزيزاً، وزميلاً فاضلاً، لقد كان أول لقاء لي مع الزميل الراحل في الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي 86/87 حينما التحقت بكلية البحرين الجامعية التي أصبحت فيما بعد جزءاً من جامعة البحرين ولفت نظري فيه نشاطه الواضح على الرغم من هدوئه المميز، فقد كان يشارك في معظم الأنشطة ويتفاعل مع الجميع، وعلى الرغم من أنه كان يسبقني بثلاث سنوات في الجامعة إلا أنني صرت ألتقيه كثيراً؛ إما في الأنشطة الجامعية أوفي الندوات والمحاضرات العامة، أو في (جمعية اللغة العربية) التي التحقت بها فيما بعد، وكان اسمه يتردد كثيراً حينما لا يكون حاضراً أيضاً مما يشير إلى طبيعة شخصيته الإيجابية في هذا المجال، لفت نظري إليه هذا البحث الدؤوب ليس في متطلبات المقررات بل في كل مجالات الثقافة والأدب، وعلاقاته الكثيرة مع الأدباء والمهتمين والمثقفين، وعلاقته بالمؤسسات الثقافية والأدبية في البحرين وخارجها، ومعرفته الواسعة بمراكز البحوث ومصادر الثقافة والعلم. وكان يجمع إلى هذا النشاط الفضول العلمي الضروري لمن يطمح أن يكون عالماً في تخصصه. كان يثير الأسئلة حول كل القضايا ويناقشها ويتبنى الآراء المختلفة التي قد يكون أصحابها غير حاضرين ويبحث عن وجه االفلسفة التي تنطلق منها؛ ولهذا فقد تجده يطرح عليك الرأي المخالف مع أنه يوافقك.

عرفت فيه كل ذلك مع أني لم أدرس معه أي مقرر إلا بعد ذلك في مرحلة الماجستير العام 1991م فوجدت حضوره فيها مميزاً قوياً، متقدماً على المرحلة التي يدرسها في استيعابه لها وإحاطته بما هو أكثر من مستلزماتها، إلا أن ما هو أهم من كل ذلك عندي هو علاقته المتميزة مع أساتذته إذ كان محل اهتمامهم ورعايتهم واحترامهم، وكذلك علاقته مع زملائه التي كانت تتحول دائما إلى صداقة وطيدة وعلاقة متصلة داخل الجامعة وخارجها في أثناء الدراسة وبعدها؛ لأسباب كثيرة أولها وأهمها دماثة أخلاقه وعلو نفسه، ومنها حضوره العلمي والثقافي، والخدمات ـ العلمية على وجه الخصوص ـ التي كان يبذلها لزملائه وأساتذته على السواء، فالجميع يعرفون أن مكتبته العامرة مبذولة لزملائه الذين يستعيرون منها ما لا يجدونه في مكتبة الجامعة أو بعض المكتبات العامة.

إنني ـ ولست الوحيد في ذلك ـ كلما استرجَعَت ذاكرتي مرحلة الدراسة والأشخاص الذين تعاملت معهم وتفاعلت معهم فيها فلا بد أن يكون محمد البنكي دائماً في طليعتهم.


نادر كاظم : أكتب إليك أيها العزيز كنت أكثرنا تسعينيةً وشباباً وحيوية ونشاطاً

وفي شهادته أحب الناقد الثقافي نادر كاظم أن يطلق كلماته للبنكي رسالة فأشار إلى أنه « حاولت طوال هذه الأيام أن أستجمع أفكاري، وأستعيد توازني، وأعيد ترتيب شريط الذكريات؛ لأتمكن من استيعاب ما جرى للإدلاء بهذه الشهادة التي لم أكن قد فكّرت في إعدادها قط... وتابع «قرّرت ألاّ أدلي بأي تصريح أو شهادة عنك، وألاّ أكتب عنك، وألا أقرأ ما يكتب عنك ويقال حتى لا أكون متفرّجاً في هذه المصيبة. وبدل كل هذا سأدلي بشهادتي إليك، وسأكتب، كذلك، إليك مباشرة.

أكتب إليك - أيها العزيز ... هل تذكر- كيف اتصلت حلقات نقاشاتنا ولقاءاتنا وهي تترحّل في كل الجهات، من منزل علي الشرقاوي إلى منزلك في أم الحصم إلى منزل حسين السماهيجي في سماهيج إلى المقاهي والمطاعم إلى مركز الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة، إلى قاعة إدارة الثقافة، إلى قاعات شتّى احتضنت نقاشات كانت هي المختبر الأول لتشكل جيل نقدي وثقافي جديد سيجري الاصطلاح على تسميته، فيما بعد، بالجيل التسعيني مرة، وبجماعة النقد الثقافي مرة أخرى. كنت - يا صديقي - أكبرنا عمراً، وكنت تكبرني بعقد كامل من الزمان، إلا أنك كنت أكثرنا تسعينيةً وشباباً وحيوية ونشاطاً، وكنت، كذلك، أكثرنا اطلاعاً وقدرة على المجادلة وبراعة في الكلام وتدفقه والكتابة واسترسالها. ومع هذا فقد شاءت أقدارنا أن نكون (أنت وعلي الديري وأنا) الثالوث الذي سيكون في طليعة هذا الجيل المتنوع المشارب والاهتمامات والأعمار، والذي أخذت بعض قسماته تتبيّن في بداية الألفية الجديدة بمعية أصدقاء كانوا يتناقصون في كل حلقة من حلقاتنا، كانوا يقدّمون رجلاً ويؤخرون أخرى، ثم إذا هم، في نهاية المطاف، ينسلّون من حولك واحداً واحداً.

أكتب، إليك الآن، وأنا أرى كيف انفرط عقد هذا الجيل، الجيل الذي كنت أنت أكثر أبنائه حرصاً على حفر قسماته حفراً، وعلى استجلاء خصوصيته وتفرده. وكنت - أنت أيها العزيز - أكثر أبناء هذا الجيل إلحاحاً ومثابرة على تأطره تنظيمياً تحت مظلة جماعة نقدية أو باسم جمعية للنقد الثقافي، جمعية كنا، أنت وأنا هذه المرة، أكثر اثنين بقينا مصرّين على تأسيسها من لا شيء، وأحياناً من أجل لا شيء سوى تلك المديونية وعرفان الجميل لأستاذنا عبد الله الغذامي الذي وجدنا فيه، أنت وأنا، القاسم المشترك الذي يوحدنا، والناقد الثقافي الذي تمكّن، منذ تسعينيات القرن الماضي، من قول ما كنا نريد قوله، آنذاك، دون أن نجد الكلمات المناسبة لذلك لحداثة التجربة. لم يكن لك - أيها العزيز - أيّ مما توسّمت، هكذا وكأن كل الذي كان قد ذهب سدى، فلا الجماعة تأسست، ولا الجمعية رأت النور، ولا أنت «صنعت» الجيل وظفرت بـ «أمنية العمر». وكنت، مع كل هذه الخسارات والإخفاقات، أول الراحلين من أبناء هذا الجيل الذي لم يبق جيلاً بعد أن تفرّقت به السُبُل في كل اتجاه. أعترف، أمامك الآن، بأننا جيل طري العود بالفعل، جيل لم يختبر تجربة الفقد من قبل، جيل لم يُقم حداده على أحد من أبنائه قبلك، جيل سيتعلم منك - أنت يا أول الراحلين - تجربة الكتابة عن حرارة الفقد وهي في أوج حَمْوِها. ها أنت تلقي درسك الأخير وترحل.


ياسر عثمان: رَحلَ واقفاً مثلَ النخيل

وفي مداخلته أحب الشاعر ياسر عثمان أن يعود للقاء الأول مع البنكي فأشار إلى أن قسمات وجهه حينها كانت سفيراً صادقاً لما انطوت عليه نفسه الجميلة المحبة للبشر والكون والأشياء... وشت لي كلماته الأولى في لقائنا الأول المسمى بالمقابلة الشخصية أو والـ «interview» التي كانت في فندق النبيلة في المهندسين في القاهرة في حدود الثامنة صباحاً منذ ثماني سنوات - أنه مثقفٌ من العيار الثقيل، الحوار معه أشبه ما يكون بالمنازلة الثقافية الخلاقة التي يحاول أن ينتصر طرفاها للكلمة المبدعة، والمناورة الجميلة بين طرفين، عرفت فيما بعد أنَّه مولعٌ متيمٌ بمشروع دريدا التفكيكي؛ فتذكرت حيثيات تلك المقابلة الشخصية، وكيف كانت أسئلته لي ولغيري ممن تقدم لتلك المسابقة تحمل معنى من معاني التفكيك الذي انشغل به فكان سفيراً صادقاً بيننا وبين الرائع جاك دريدا عبر مؤلفاته «دريدا عربياً» و «دريدا بأثر رجعي» و «الرواية والتاريخ»، «الرواية والمدينة».

لم يكن البنكي - رحمه الله - بالنسبة لي مديراً فحسب عملت معه في مجلة «أوان» وفي العلاقات العامة في جامعة البحرين، وإنما كان صديقاً وموجهاً لي وناصحاً مخلصاً لي ولأصدقائه جميعاً. لن أنسى له مرةً الوقْعَ السحري لكبسولته النقدية الناصحة على مداد قلمي عندما قال لي «لا تكتب كما تعيش، بل حاول أن تعيش كما تكتب» كأنه أراد أن يقول لي إياك أن تصرفكَ الحاجاتُ الملحةُ عن قارئك المؤجل الذي ينتظر كتاباتك النقدية والإبداعية، بل كأنّه أراد أن يقول لي بأسلوبه المهذب المبدع أخاف أن تصرفك الكتابة الصحافية عن شعركَ وحروفك النقدية التي هي رصيدك ورصيد ُ قارئكَ في النهاية.

تعلمت منه كيف تنجح ابتسامةٌ صغيرة تستلهم دفءَ الشمس لحظةَ الشروق، وبهاء القمر في ليلته الرابعةَ عشر أن تدفع فريقَ عمل ٍ ألف ميلٍ إلى الأمام.

العدد 2799 - الأربعاء 05 مايو 2010م الموافق 20 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً