العدد 2813 - الأربعاء 19 مايو 2010م الموافق 05 جمادى الآخرة 1431هـ

يرصد الحجاج في القرآن الكريم وخصائصه الأسلوبية

الباحث التونسي الراحل عبدالله صولة

صدر عن دار الفارابي كتاب «الحجاج في القرآن الكريم من خلال أهم خصائصه الأسلوبية» للأكاديمي التونسي عبد الله صولة في 647 صفحة وناقش صولة الحجاج من خلال ثلاثة أبواب.

تناول صولة في الباب الأول المعجم القرآني خصائص كلماته وحركتها الحجاجية، هذا الباب قسمه إلى ثلاثة فصول في الفصل الأول تناول خصائص الكلمة الحجاجية بثلاثة مباحث، كان المبحث الأول حول الخصائص الاقتضائية، والمبحث الثاني: في خصائص الكلمة التقويمية وأبعادها الحجاجية، والمبحث الثالث: خصائص الكلمة التداولية وأبعادها الحجاجية.

وفي الفصل الثاني تناول صولة حركة الكلمة الحجاجية من خلال مبحثين المبحث الأول، رصد فيه حركة الكلمة الحجاجية بناء على خصائصها في اللغة من حيث الاقتضاء والتقويم وغيرهما، وفي المبحث الثاني، رصد حركة الكلمة الحجاجية في القرآن بناء على خصائصها في التداول والاستعمال.

وفي الباب الثاني تناول صولة التركيب في القرآن: خصائصه ووجوه الحجاج فيه من خلال أربعة فصول في الفصل الأول: رصد العدول الكمي بالزيادة داخل الجملة وأبعاده الحجاجية، وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول، حول البعد المفهومي للعدول الكمي بالزيادة داخل الجملة والمبحث الثاني، البعد الاقتضائي للعدول الكمي بالزيادة داخل الجملة، أما الفصل الثاني فرصد فيه العدول الكمي بالزيادة بين الجمل وأبعاده الحجاجية وفي الفصل الثالث: العدول الكمي بالنقصان وأبعاده الحجاجية، وفي الفصل الرابع: العدول النوعي في القرآن وأبعاده الحجاجية.

ودرس صولة في الباب الثالث الصورة في القرآن: من حيث خصائصها ووجوه الحجاج فيها، عبر فصلين الفصل الأول: في مادة الصورة وأبعادها الحجاجية، وفيه مبحثان المبحث الأول، في مادة الصورة المنتزعة من المجال الحسي، والمبحث الثاني، مادة الصورة المستمدة من المقومات الثقافية والرمزية التي لفكر المتلقين أما الفصل الثاني: فدرس صولة فيه شكل الصورة في القرآن وأبعاده الحجاجية.


المسألة الأولى: ما الحجاج؟ وما نصيب القرآن منه؟

يرى بعضهم أن الحجاج في الدراسات الحجاجية على ضربين، ضرب أنت فيه لا تبرح حدود المنطق فهو ضيق المجال ومرادف للبرهنة والاستدلال إذ هو يعنى بتتبع الجانب الاستدلالي في المحاجة. وضرب هو واسع المجال لانعقاد الأمر فيه على دراسة مجمل التقنيات البيانية الباعثة على إذعان السامع أو القارئ. يكاد كون هذا التقسيم من نافلة القول فأهم منه، فيما نحن منه بسبيل، أن نبحث في الحجاج من جهة علاقته بالجدل من ناحية وبالخطابة من ناحية أخرى، ففيما اطلعنا عليه، وإن كان غير كثير، وجدنا للحجاج ثلاثة مفاهيم على الأقل: مفهوم يجعله مرادفاً للجدل ونجده خاصة عند القدماء وبعض المحدثين العرب، ومفهوم يجعله قاسماً مشتركاً بين الجدل والخطابة خاصة وتجده عند اليونان (أرسطو على سبيل المثال) ومفهوم له في العصر الحديث في الغرب، وهو مفهوم أدق وأوضح وأعمق من المفهومين السابقين، ذلك لأن الحجاج قد أخذ شيئاً فشيئاً في الاستواء مبحثاً فلسفياً ولغوياً قائم الذات في العصور الحديثة مستقلاً عن صناعة الجدل من ناحية وعن صناعة الخطابة من ناحية أخرى.

وهذا المفهوم الذي للحجاج باعتباره مبحثاً لغوياً خاصة هو الذي سنعتمده في عملنا بعد أن ندخل عليه من التغيير ما يمكن أن يجعله أكثر ملاءمة لمنهج العمل وغاياته. وقد وقع اختيارنا على مصطلح الحجاج، مصطلح (Argumentation) في الفرنسية دون مصطلح الاستدلال (وكلمات استخدمناها في هذه المقدمة فصلنا به أساساً نوعه البرهاني ذلك الصادر عن مبادئ كلية يقينية)، لأسباب أهمها أن «الحجاج» شأن مقابله الفرنسي المذكور، وإن وجد في المنطق وفي العلوم الشكلية عموماً حيث يرادف الاستدلال أو البرهان (La demonstration)، فإنه قد يوجد في أي خطاب فيه منازعة للرأي وخصومة سواء كان هذا الحجاج في شكل استدلال أو غيره. ثم إن كلمة الحجاج بحكم صيغتها الصرفية الدالة على معنى المشاركة في تقديم الحجج وعلى مقابلة الحجة بالحجة مؤهلة أكثر من كلمة الاستدلال لتؤدي مفهوماً مهماً جداً تقوم عليه النظرية الحديثة (L , argumentation) وهو مفهوم المناقشة والحوار. فظهر من ذلك أن الحجاج أشمل وأوسع من الاستدلال البرهاني الذي ظل رغم انتقاله بين علوم مختلفة يحافظ على حده المنطقي الأول فهو على العموم مجرد استنتاج قضية من أخرى، استنتاج لزوم وتوقف وضرورة. لهذا عد في نظرية الحجاج الحديثة نقيضاً للحجاج الذي ينطلق من مبدأ الحرية ويقوم على الحوار.


الحجاج بما هو مرادف للجدل في اللغة والاصطلاح

الحجاج، لغة، من حاج. قال ابن منظور (ت 711هـ/ 1311م): «حاججته أحاجه حجاجاً ومحاجة حتى حججته أي غلبته بالحجج التي أدليت بها (...) وحاجه محاجة وحجاجاً نازعه الحجة (...) والحجة الدليل والبرهان». فعلى هذا يكون الحجاج النزاع والخصام بواسطة الأدلة والبراهين والحجج فيكون مرادفاً للجدل إذ حد الجدل حسب ابن منظور أيضاً: «مقابلة الحجة بالحجة». على أن ابن منظور يجعل الحجاج مرادفاً للجدل صراحة بقوله: «هو رجل محجاج أي جدل».

الحجاج قاسم مشترك بين الجدل والخطابة:

إن الحجاج أوسع من الجدل فكل جدل حجاج وليس كل حجاج جدلاً. فهو القاسم المشترك بين الجدل والخطابة، على سبيل المثال، من حيث إن الجدل والخطابة «قوتان لإنتاج الحجج» كما يقول أرسطو وإن كان نوع الحجة في الواحد غير نوعها في الآخر. لقد حدت المحاجة أو الحجاج (Argumentation) عموماً بكونها: «سلسلة من الأدلة تفضي إلى نتيجة واحدة أو هي الطريقة التي تطرح بها الأدلة». ومجال ذلك الخطابة مع ما بين أنواع هذه الحجج من تداخل وتماس. ومعنى هذا أنه يوجد على الأقل حجاجان: جدلي وخطابي. أما الحجاج الجدلي فمن قبيل ما عرض له أرسطو في كتابه «الطوبيقى».


الحجاج من حيث هو «حوار» وباعتباره مبحثاً لغوياً قائماً بذاته

للحجاج سبيل ثالثة غير هذه التي تربطه بالخطابة وهي موضع اتهام بكونها مناورة، وغير تلك التي تربطه بالجدل وهو موضع اتهام بالقصور عن الإلمام بكل ما ينشأ في خطاب اللغات الطبيعية من وجوه المحاجات. وقد أخذت هذه السبيل الثالثة في اللحوب شيئاً فشيئاً منذ 1958 تاريخ صدور كتابين في الحجاج يضعانه في إطار فلسفي عام. ولم يكن أحد من المؤلفين على الأرجح بمطلع على ما كان يصنع الآخر.

ثم إن الحجاج ما فتئ حتى صار بعد ذلك مع أوسكمبر (وزميله ديكرو خاصة) يعالج في إطار لساني محض أو يكاد. وقد حاول «ماير» أن يستثمر الجهود الفلسفية واللسانية المذكورة، في مجال الفلسفة بوضع الحجاج في إطار نظرية أوسع هي نظرية المساءلة (Theorie du questionnement) التي شرع في وضع لبناتها الأولى في الفصل الأخير من كتابه «المنطق والكلام والحجاج» وهو الكتاب الذي نعتمد في عملنا ثم تعمقها في كتاباته اللاحقة.


مفهوم برلمان وتيتيكاه

لئن كان مفهوم الحجاج السابق أبعد ما يكون عن المحادثة والخطابة فإن مفهوم المؤلفين المذكورين ينزل الحجاج في صميم التفاعل بين الخطيب وجمهوره.

لقد عرف برلمان وتيتيكاه الحجاج تعريفات عدة في مواضع مختلفة من كتابهما أهمها قولهما: «موضوع نظرية الحجاج هو دس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم»، وقولهما في موضوع آخر، متحدثين عن الغاية من الحجاج: «غاية كل حجاج أن يجعل العقول تذعن لما يطرح عليها من آراء، أو أن تزيد في درجة ذلك الإذعان. فأنجع الحجاج ما وفق في جعل حدة الإذعان تقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب (إنجازه أو الإمساك عنه)، أو هو ما وفق على الأقل في جعل السامعين مهيئين للقيام بذلك العمل في اللحظة المناسبة».


المفهوم الثالث: مفهوم أوسكمبر، وديكرو خاص

لنا أن نتحدث عن الحجاج عند هذين الباحثين في مؤلفهما المشترك الحجاج في اللغة (وفي تواليف ديكرو عموماً) من حيث بنيته من ناحية ومن حيث وظيفته من ناحية أخرى. فالحجاج عندهما كامن، من حيث بنيته، في اللغة ذاتها كما يدل على ذلك عنوان كتابهما، لا في ما يمكن أن ينطوي عليه الخطاب من بنى شبه منطقية أو شكلية أو رياضية كما هو الشأن عند برلمان وتيتيكاه. فقد قالا: «إن الحجاج يكون بتقديم المتكلم قولاً ق 1 (أو مجموعة أقوال) يفضي إلى التسليم بقول آخر ق 2 (أو مجموعة أقوال أخرى)». إن ق 1 يمثل حجة ينبغي أن تؤدي إلى ظهور ق 2 ويكون ق 2 هذا قولاً صريحاً أو ضمنياً. إذاً فالحجاج عند أو سكمبر وديكرو: «إنجاز لعملين هما عمل التصريح بالحجة من ناحية وعمل الاستنتاج من ناحية أخرى. سواء كانت النتيجة مصرحاً بها أو مفهومة من ق 1» ومن الأمثلة التي يضربها الباحثان على هذا الرأي في الحجاج قولهما: «إن في قولنا لنخرج للنزهة بما أن الطقس جميل أو في قولنا: الطقس جميل فلنخرج للنزهة، يكون ق 1 هو: الطقس جميل، وق 2 هو: فلنخرج للنزهة» ثم يضيفان: «على أنه بالإمكان أن يكون ق 2 وهو النتيجة ضمنياً لكن بشرط أن يكون التوصل إلى هذه النتيجة سهلاً يسيراً.


المفهوم الرابع: مفهوم ماير

مفهوم الحجاج عند ماير استخلص بعضه من مفاهيم المدرسة الفرنسية (بمن فيها من أعلام بلجيك مثل برلمان) فهو مسبوق إليه يلخصه على وجه التبسيط والتعليم. أما بعضه الآخر فيكاد يكون من صنعه وكد ذهنه. من ذلك الذي هو مسبوق إليه تعريفه للحجاج. يقول «الحجاج هو دراسة العلاقة القائمة بين ظاهر الكلام وضمنيه». والوجه في ذلك، حسب رأيه، أن يوجد في معنى الجملة الحرفي شارة حجاجية (Marqueur argumentative) تؤدي إلى ظهور الضمني في ضوء ما يمليه المقام، وتلوح بنتيجة ما تكون مقنعة أو غير مقنعة. وقيام الحجاج على قسمين: صريح وضمني عند ماير وعند غيره من الحجاجيين من المهتمين بقضايا الخطاب، هو الذي يجعله ذا صبغة حوارية أي مسرحاً تتحاور على ركحه الأطراف و«تتفاوض». وآية ذلك أن الكلام بانقسامه، عند التخاطب، إلى صريح وضمني «يكون نصفه للمتكلم (وهو النصف المصرح به) ونصفه للسامع (وهو النصف الضمني)».

العدد 2813 - الأربعاء 19 مايو 2010م الموافق 05 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً