العدد 2827 - الأربعاء 02 يونيو 2010م الموافق 19 جمادى الآخرة 1431هـ

السياسة الألمانية والاتجاه شرقاً: دروس للعالم العربي

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

لعل الألمان هم من أوائل السياسيين الأوروبيين الذين صكوا مصطلح «التطلع نحو الشرق» Drag Nach Osten وأصبح المصطلح جزءاً من برنامج الحركة القومية الألمانية العام 1891. وظل هذا المصطلح له جانبان جيد وغير جيد حتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وتركزت السياسة الألمانية في ثلاثة توجهات:

الأول: التوجه الداخلي بإعادة البناء الاقتصادي والذي كان مهندّسه الأبرز وزير المالية ثم رئيس الوزراء لودفيج إيرهارد الذي أطلق عليه صاحب المعجزة الاقتصادية الألمانية قبل أن تظهر المعجزات اللاحقة في مناطق أخرى من العالم مثل المعجزة اليابانية، والنمور الآسيوية، والمعجزة الصينية وها نحن نقترب من إطلاق مصطلح المعجزة على النهضة الهندية في السنوات الأخيرة.

الثاني: التوجه الغربي سواء في إطار الناتو والانضواء تحت المظلة الأميركية أو في إطار العمل الأوروبي بالمبادرة الألمانية الفرنسية في إنشاء جماعة الحديد والصلب التي تطورت عبر مراحل تراكمية نحو الاتحاد الأوروبي الراهن.

الثالث: الاقتصار في الاهتمام الخارجي على إسرائيل لاعتبارات تاريخية وسيكولوجية في تقديم التعويض لما لحق اليهود من جراء السياسة التي اتبعها هتلر وألحقت سمعة غير طيبة بألمانيا وحضارتها العريقة ومفكريها العظام أمثال هيجل ونيتشه وجوته وغيرهم في شتى المجالات الفكرية والثقافية والموسيقى والشعر والأدب بشتى فروعه.

ولكن الحياة الدولية والتطورات في العالم لم تجعل دولة في مثل ديناميكية ألمانيا ولا شعب في مثل الشعب الألماني وما يتمتع به من دأب في العمل وحرص على الإتقان والجودة وتركيز على إعادة بناء دولته أن يظل منحصراً في قوقعته ومن ثم أعاد النظر في بعض سياساته وأفكاره وممارساته، وكان مفهوم التوجه نحو الشرق من أبرز تلك المصطلحات والسياسات التي أعيد النظر فيها وتم أحياؤه في ثوب جديد ومضمون جديد ومنطلقات جديدة. ولعلنا نتساءل عن هذا المضمون والمنطلقات الجديدة؟

أول هذه المنطلقات هو عدم الاقتصار على التوجه الغربي عامة والتوجه المرتبط بأوروبا الغربية بمفردها وإنما بدء الانفتاح على أوروبا الشرقية وفي مقدمتها على الاتحاد السوفياتي السابق رغم الاختلافات الإيديولوجية لإدراك ألمانيا أن السياسة الدولية تقوم على السعي نحو التوازن بوجه عام وفي أوروبا بوجه خاص ولا يمكن تحقيق ذلك دون الانفتاح على الشطر الثاني من أوروبا والذي كان يقع آنذاك تحت القيادة السوفياتية. وإدراكها أن المفهوم الاشتراكي هو جزء من تراث ألمانيا وحضارتها وأن الفلاسفة أمثال فيورباخ وكارل ماركس وأنجلز وغيرهم كانوا من أوائل بناة الفكر الاشتراكي الحديث في جانبه الفلسفي بل والعملي في الاهتمام بمصالح الجماهير في المجتمع.

ثاني هذه المنطلقات تطور الأوضاع الدولية ببروز قوى عالمية جديدة، أو إعادة الحركة، جاءت رفضةً للفكر الاستعماري القديم الذي قادته بريطانيا وفرنسا والذي دفع التوجه شرقاً بفكر ذلك العصر. ومن ثم فإن إحياء هذا المفهوم بفكر أواخر القرن العشرين وفلسفته في البحث السلمي عن الأسواق والموارد الطبيعية اللازمة للصناعة، ورؤوس الأموال، من منطلق التكامل الاقتصادي والتعاضد الدولي. ووجد الساسة الألمان ضالتهم المتجددة في الشرق الأوسط وهو منطقة إستراتيجية مليئة بالخيرات، هنا ركزت ألمانيا في تعاملها الجديد مع الشرق الأوسط على سياسة أكثر توازناً بين العرب وإسرائيل بل سعت بوساطات أكثر من مرة لتبادل الأسرى بين حزب الله أو حركة حماس وإسرائيل وتقديم المساعدات الإنسانية للاجئين والتخفيف عن معاناتهم، وتكاد ألمانيا الحديثة لا تترك دولة في منطقة الشرق الأوسط دون أن تطور علاقاتها معها بمنهج إيجابي سواء إيران أو الدول العربية مثل العراق ومصر والسعودية ودول الخليج ودول شمال إفريقيا وبلاد الشام، ولقيت هذه السياسة الألمانية الجديدة إشادة كاملة وتقديراً تاماً خاصة من دولة رائدة بعمق حضاري مثل مصر.

وثالث المنطلقات هو الاتجاه شرقاً نحو الصين وجوارها الإستراتيجي ولعل العلاقات الاقتصادية والتجارية بين ألمانيا والصين من أكبر العلاقات لكل من البلدين على المستوى العالمي فكلاهما يعد الشريك التجاري الثالث للآخر على المستوى العالمي بل إن ألمانيا هي الشريك التجاري الأول للصين على المستوى الأوروبي، ناهيك عن العلاقات مع اليابان والهند ودول النمور الآسيوية.

ولكن أهم ما يلفت النظر في السياسة الألمانية في السنوات العشر الأخيرة التوجهات التالية:

الأول: الحرص على وجود مسافة مستقلة عن السياسة الأميركية وبخاصة في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش ورفضها مساندة الغزو الأميركي للعراق. وانفتاحها بدرجة معقولة على حركة حماس وحزب الله خاصة في البعد الإنساني مع حرصها على التأكيد على مبادئ العمل السلمي من أجل تسوية المشكلة الفلسطينية، ولذلك قام وزير الخارجية الألماني بعدة زيارات لإسرائيل وللسلطة الفلسطينية. فضلاً عن زيارته المتكررة لعدة دول عربية منها مصر وسوريا والسعودية.

الثاني: هو إعطاء أولوية أكبر لمنطقة الخليج عامة والخليج العربي بوجه خاص، ومن هنا زار المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر، والمستشارة الألمانية أنجيلا مريكل منطقة الخليج عدة مرات في السنوات الأخيرة، مركزين على السعي لتطوير العلاقات في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والاستثمارات كما زارت عدة وفود تجارية ألمانية البحرين ولعله مما يذكر أن السفير الألماني الحالي البروفسور لانج هو من المستشرقين الألمان الذين يعرفون جيداً الثقافة والعقلية العربية وهو سفير نشط يتمتع بديناميكية كبيرة وعلاقات واسعة مع المجتمع البحريني وهو بذلك يمثل شخصية مختلفة عن كثير من السفراء الموجودين في البحرين وذلك نجح في ترتيب العديد من الزيارات للمسئولين ورجال الأعمال والمثقفين من ألمانيا للبحرين. ويتواكب هذا مع ما أبدته السياسة الألمانية من اهتمام واضح بأمن الخليج وبخاصة الملف النووي الإيراني ونشطت في إطار قضية البرنامج النووي الإيراني تماشياً مع التوجه السلمي لألمانيا، برفض ثلاث أفكار: أولها: فكرة التوسع والهيمنة وإنشاء مناطق نفوذ وما يؤدي إلى ذلك من سياسات تركز على إحياء الماضي بمآسيه بالنسبة للعديد من الدول في العديد من المناطق. وثانيهما: منطق رفض التسلح النووي والإيمان الحقيقي بمنع انتشار التسلح النووي فرغم التقدم العلمي والتكنولوجي الألماني ورغم قوتها الاقتصادية الهائلة وتطلعها إلى أن تكون قوة سياسية تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن إلا أنها لم تسع لبناء قوة نووية عسكرية. وثالثهما: إن عالم القرن الحادي والعشرين هو عالم السلام في المجال السياسي، وعالم التجارة والاستثمار في المجال الاقتصادي، وعالم حقوق الإنسان في المجال الاجتماعي. ولعل زيارة المستشار السابق شرود لدول الخليج ومنها البحرين بعد خروجه من السلطة يعكس هذا الفكر الاقتصادي الألماني الجديد. ويسير في نفس الاتجاه زيارة المستشارة الحالية أنجيلا مريكل التي اصطحبت معها وفداً اقتصادياً كبيراً أسوة بمن سبقها من المستشارين الألمان الذين دأبوا على اصطحاب رجال الإعمال في زياراتهم للدول الأجنبية.

الثالث: بناء ركائز قوية لتعاون اقتصادي وتكنولوجي مع الدول الصاعدة في آسيا مثل الصين والهند فضلاً عن اليابان وهي القوة الآسيوية الهامة والحليفة السابقة لألمانيا والتي واجهت نفس المصير من الهزيمة والتغيير نحو الديمقراطية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولا ننسى أن التعاون الألماني الياباني يستهدف في جانب أساسي منه استعادة مكانتهما الدولية، ودورهما السياسي بالحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي بما يعكس تقدمهما الاقتصادي والتكنولوجي ومساهماتهما الراهنة في نشر فكر السلام والتعاون الدولي.

ومن المفيد أن نستذكر هنا أن الوحدة الألمانية في القرن التاسع عشر قامت على أساس الفلسفة الاقتصادية المسماة «الزولفرن» كما أن الوحدة الألمانية المستعادة قامت على الأساس نفسه وتحملت ألمانيا الغربية (سابقاً) تكلفة كبرى لرفع مستوى المواطنين في ألمانيا الشرقية (سابقاً) استناداً إلى أن الشعب الألماني واحد، ولابد أن يتحمل الجميع عبء التقدم وتحقيق مستوى معيشة متقارب، وفي الوقت نفسه الإيمان بالديمقراطية فالمستشارة ميركل أصبحت أول زعيمة لألمانيا الموحدة تنتمي لألمانيا الشرقية. العمل الوحدوي يعني التضحية، ويعني المساواة في الحقوق والواجبات، ويعني الإيمان بالوطن، ولعل من أكثر الشعوب اعتزازاً بوطنهم وإيماناً به إيماناً عملياً الشعب الألماني.

وفي هذا السياق نتساءل ماذا يعني الإيمان الحقيقي بالوطن بالنسبة للسياسيتين الداخلية والخارجية؟ إنه من حيث التحليل السياسي العملي يعني الحرص على العمل وإجادة الإنتاج واستلهام التراث الصحيح والابتعاد عن النزاعات وتقدير الأصدقاء، وفي الوقت ذاته الاستعداد للتضحية بالنفس مقابل الحفاظ على كرامة الوطن واحترام القانون والنظام ولعل في تقديم الرئيس الألماني هورست كولر استقالته على خلفية تصريحات أدلى بها عن وجهة نظره بشأن تواجد القوات الألمانية في أفغانستان، وهي تصريحات أثارت جدلاً واسعاً في ألمانيا نقول إن هذا خير دليل على الإيمان بالوطن واحترام لقانون والنظام أياً كانت التضحية الشخصية كبيرة. كذلك رفض الإملاءات الخارجية أو ما يعرف في المنطقة العربية بمفهوم والاستقواء بالخارج أو الاعتماد الفكري عليه، والإيمان بالوحدة الألمانية، كركيزة للوحدة الأوروبية، ومن هنا حرصت ألمانيا على مساعدة اليونان في أزمتها المالية الخطيرة، ولكن بأسلوب حذر ومترو استهدف الحيلولة دون انهيار اقتصادي في اليونان لتداعيات ذلك على الاتحاد الأوروبي ككل وعلى اليورو بوجه خاص. فالتجربة الناجحة نحو الوحدة الأوروبية ينبغي الحفاظ عليها لأنها تمثل ركيزة أساسية لنهضة أوروبا في القرن الحادي والعشرين وقوتها الفاعلة في السياسة الدولية، وأن انهيار اليونان سيكون مقدمة لانهيارات في بعض دول اليورو الأخرى، مما قد يؤدي لانهيار التوجه الوحدوي الأوروبي. وهذا هو المنطق نفسه الذي اتبعته ألمانيا عندما قدمت تضحيات لنهضة القطاع الشرقي من الدولة بعد استعادة وحدتها، ولكن جانب الحذر في عدم ترك الأمور بلا ضوابط حتى لا تكرر السياسة اليونانية أخطاءها من عدم الشفافية وعدم ضبط التصرفات المالية والاقتصادية.

نحن اليوم في منطقة الشرق الأوسط أمام سياسة ألمانية جديدة في السعي نحو الشرق بمفهومه الواسع «من آسيا إلى الشرق الأوسط إلى إفريقيا» تختلف في جوهرها عن السعي نحو الشرق بالمفهوم القديم وإعادة صياغة المفاهيم التقليدية دليل على حيوية الشعب ومفكريه وساسته، فالمجتمع الديناميكي يخلق سياسات إبداعية لا تنغلق على الماضي وإنما تستهدف بناء عالم متكامل ومتعاضد يعكس فكر وفلسفة القرن الحادي والعشرين في تجنب الصراعات والسعي نحو حلها سلمياً بعيداً عن المزايدات والشعارات الديماجوجية، في إطار من التعاون وتحقيق المصالح المتبادلة ولعل الزيارات المتكررة للقادة الألمان لمنطقة الخليج خاصة والشرق الأوسط عامة خير دلالة على ذلك. ونتساءل هل يمكن للعرب أن يستفيدوا من المنهج الألماني في السعي الحقيقي نحو السلام، وفي بناء القوة الذاتية، وفي التضحية من أجل الوحدة القومية العربية، بعيداً عن الحزازات والمنافسات والمشاحنات الشخصية، ضيقة الأفق والعكسية التأثير والتي محصلتها ضياع قوتنا ومواردنا الحقيقية وأيضاً ضياع حقوقنا.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2827 - الأربعاء 02 يونيو 2010م الموافق 19 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً