العدد 2848 - الأربعاء 23 يونيو 2010م الموافق 10 رجب 1431هـ

بناء البيوت منذ حقبة باربار

بناء البيوت في الوقت الراهن يحتاج لعدد من المتخصصين لتقوم بعدة أعمال قبل مباشرة العمل وأثناء مباشرة العمل، أما في الماضي فعندما نستثني العمال والمتخصصين الذين قاموا بتحضير الطين والجص والنورة والحجارة فسيبقى هناك أخصائي واحد لمباشرة العمل في بناء البيت وهو ما تعارفت عليه العامة باسم (الأستاذ) وهو رئيس البنائين وصاحب الخطة الخاصة في البناء إشرافاً وتنفيذاً، وهو كبير مهندسي البناء وليس مختصاً في أحد الأقسام المعمارية في الهندسة أو التخطيط بل يعمل في كل مجال يخص العمارة حتى ناحية المناخ فهو يعرف اتجاه الرياح وتقلبات الطقس ويعرف طبيعة الأرض ومخطط الأرض وموزع متطلباتها ويعرف أبعادها وحدودها, كل ذلك الرسم في الهواء بدون ورقة ولا قلم. إن طريقة بناء البيوت الطينية - الحجرية مازالت محفورة في ذاكرة بعض المعمرين وهي موثقة ولكن كيف كان الحال في حقبة باربار؟ سنحاول هنا التدرج في تطور طريقة البناء القديمة.

بيوت مستوطنة سار

سنستعين هنا بالدراسة التفصيلية للمنازل التي درست في مستوطنة سار الدلمونية والتي تعود لحقبة باربار (Killick and Moon 2005) وتشمل الدراسة تفاصيل لكل مبنى على حدة، ولكن يمكننا إجمال الصفات المشتركة لتلك البيوت. تبدو تلك البيوت ومنذ النظرة الأولى شبيهة لحد كبير بالبيوت الطينية التي بقت مستخدمة حتى منتصف القرن السابق فجميعها قد روعي في هندستها وبنائها ظروف المنطقة البيئية والمناخية والأمنية آنذاك. وبيوت مستوطنة سار القديمة جميعها مبنية بالطين والحجارة وهي تمتاز بعدة مزايا مشتركة نصنفها كالتالي:

1 - المواد المستخدمة للبناء

جميع المواد المستخدمة في بنائها مأخوذة من البيئة المحلية كالجص أو الطين والحجارة والجذوع والجريد والحبال المصنوعة من ليف النخيل, وسنأتي على تفصيل بنائها لاحقاً.

2 - هندسة المنزل

يتشابه الكثير منها في التصميم مع بعض الفروقات البسيطة وفي الغالب يتكون المنزل من سور خارجي يبنى داخله المنزل, وعادة ما يبنى المنزل في إحدى الزوايا وبذلك يكون فناء داخلياً على شكل حرف (L) أما المنزل نفسه فيتكون من غرفة أو أكثر.

3 - المغسلة

عادة ما توجد مغسلة خلف المدخل مباشرة مبنية من الحجر ومغطاة بالجص وبجانبها توجد قاعدة جرة وكلاهما يوفر مكاناً للغسيل أو تبريد الماء.

4 - المطبخ

لا يوجد مطبخ مخصص للطبخ وإنما كان الطبخ يتم في الفناء الداخلي للمنزل حيث يوجد موقد بسيط به ثلاث قواعد صغيرة يوضع عليها القدر وأحياناً يوجد به تنور أرضي لتحضير الخبز أو للشواء فيه, أما أدوات المطبخ التي عثر عليها فهي عبارة عن رحى لطحن الحبوب ويد هاون وأدوات للسحن والجرش.

5 - التهوية

لم يعثر في البيوت التي درست نافذة وبما أن الجزء العلوي من البيت متهالك فلربما كانت هناك فتحات للتهوية فقد كانت البيوت الطينية في القرن السابق مزودة بنظام تكييف طبيعي وهو عبارة عن فتحات صغيرة دائرية أو مربعة الشكل توجد في أعلى الجدار داخل الغرف يطلق عليها (رواشن) مفردها روشنة تظهر أهميتها في وقت الصيف، حيث تعمل التيارات الهوائية التي تدخل وتخرج منها على ترطيب وتلطيف جو الغرف, أما في فصل الشتاء فيتم غلقها بخرق القماش للمحافظة على حرارة ودفء المكان. وهذه من الطرق القديمة التي تعارف عليها العرب فقد وردت لفظة روشنة في المعاجم العربية بهذا المعنى وسيأتي التفصيل في الفقرات التالية.

6 - الرفوف الجدارية

عثر في بعض المنازل على رفوف تبنى في الحائط وهي عبارة عن تجاويف أو فراغات في الجدران الداخلية للغرف وهي ما تسميها العامة (الروازن) مفردها روزنة وهي تستخدم كمخازن لحفظ الأمتعة.


الروزنة والروشنة والتعميم والتخصيص

العامة في البحرين ومناطق أخرى في الخليج العربي لا تخصص بصورة واضحة الألفاظ روشنة وروزنة، فأحياناً تستخدم لفظة محل الأخرى وأحياناً تستخدم اللفظتين بمعنى واحد, كذلك العرب في معاجمها لم تفرق بين اللفظتين روزنة وروشنة فهي ألفاظ فارسية استخدمتها العرب بمعنى الرف أو الكوة أي فتحة التهوية ولم تخصص لفظة بمعنى محدد. جاء في تاج العروس عن الروزنة:

«( والرَّوْزَنَةُ: الكُوَّةُ )، مُعَرَّبَةٌ، نَقَلَه الجَوْهرِيُّ عن ابنِ السِّكِّيت. وفي المُحْكَمَ: الرَّوْزَنَةُ: الخرْقُ في أَعْلى السَّقْفِ. وفي التَّهْذيبِ: يقالُ للكُوَّةِ النافِذَةِ الرَّوْزَنُ».

وجاء في تاج العروس عن الروشنة:

«(والرَّشنُ: الكُوَّةُ )، كما في الصِّحاحِ، وهي فارِسِيَّةٌ ...... الرَّوْشَنُ : الرَّفُّ»

7 - تجاور المنازل

جميع المنازل متلاصقة جدرانها الخارجية بعضها ببعض.


خطوات بناء المنزل

مع وجود العناصر المشتركة للبيوت الطينية القديمة وبيوت حقبة باربار نتوقع أن خطوات العمل متشابهة، وسنشرح هنا طريقة البناء الموثقة لبناء بيوت الطين والتي تبدأ بعقد اتفاق البناء مع الأستاذ ومناقشة التفاصيل معه. وبعد أن يتم الاتفاق على شكل معين للبيت تسوى الأرض المراد البناء عليها ويتم حفر أساسات البيت والتي لا تكون عميقة حيث يصل عمقها لقرابة متر تقريباً. وقد يشارك أصحاب البيت في عملية البناء مع العمال الذين يتقاضون أجراً يومياً أو قد يبنى بمشاركة أهالي المنطقة من الأهل والجيران.

أثناء عملية البناء يراعى نوعية الصخور في كل مرحلة من مراحل البناء فأثناء بناء الأساس تستخدم أحجار كبيرة تجلب من البحر، وكميات كبيرة من الجص, ويجب مراعاة أن الجص يجف ويتصلب بسرعة وعليه يجب إعداد الطبخة (أي خلطة الجص مع الماء التي ذكرناها في الفصل السابق) في حينها حيث يخصص عامل لتحضير الطبخة وآخر لصف الحجارة وتوضع الطبخة لتلصق قطع الصخور مع بعضها. وبعد أن يرتفع بناء الأساسات قليلاً إلى سطح الأرض، يشرع الأستاذ أو البناء في استخدام حجارة أصغر من تلك التي استخدمت في الأساسات وتوضع هذه الأخيرة بغير تهذيب وبطريقة متراصة، ويلاحظ هنا أن عملية تثبيت صف الحجارة على الجدار تحتاج إلى مهارة وخبرة لذا كان الأستاذ يقوم بها بنفسه. وبعد صف الحجارة تملأ الفراغات التي تتخللها بأحجار صغيرة يطلق عليها (حشو)، ويتم تغطيتها بطبقة من الجص (أو الطين). ويشكل كل صف من الحجارة المغطى بالجص كتلة واحدة تسمى (الساف)، ويتراوح عادة ارتفاع الساف الواحد من (15 - 20 سم). ويتكون ارتفاع الغرفة عادة من (20 - 25 سافاً) ومن أجل المحافظة على بقاء الساف مستقيماً ودون حدوث أية تعرجات يستخدم حبل مشدود تثبت أطرافه في زاويتي الجدار المراد إنشاؤه، حيث يراعى أن تكون استقامة الساف موازية لاستقامة الحبل.

وبعد أن ترتفع الجدران قليلاً عن سطح الأرض بحيث تصل إلى ارتفاع المتر تقريباً يبدأ في بناء الروازن، حيث يتراوح ارتفاع الروزنة الواحدة من (80 - 120 سم) وعرضها من (65 - 100 سم) ويتراوح عمق تجويفها داخل الجدار من (20 - 35 سم) و يفصل بين كل روزنة وأخرى عمود يتراوح عرضه من (30 - 50 سم)، و في الغالب يجعل في الجدار الواحد طابقين من الروازن، وتفصل بين الروازن التحتية والفوقية عوارض خشبية مصنوعة من جذوع النخيل يطلق عليها (ربوط) جمع ربط وهي تستخدم أيضاً فوق فتحات النوافذ والأبواب لحمل الجداران التي تبنى فوقها. وبعد أن يصل الجدار إلى الارتفاع المطلوب تبنى الرواشن، وبعدها يشرع في بناء السقف.


بناء السقف

بما أن الجزء العلوي لبيوت مستوطنة سار متهالك فإننا لا نملك معلومات عن شكل السقف هل هو مسطح أو جملوني الشكل. فالبيت ذو السقف الجملوني يسقف بجذوع النخيل والجريد والحصير ولا يغطى بالطين وهو ما يسمى «الكَبر» وسبق الحديث عنه في جزء «ثقافة النخلة», أما البيت المسطح السقف فيغطى بالطين والنورة, وقد عثر على أدلة أركيولوجية في مستوطنة سار تدل على أنه كانت هناك سقوف مغطاة بالطين والنورة, وعليه سنشرح هنا نوعين من السقوف التي كانت تغطى بالطين والنورة، وهما النوع القديم الذي يبنى أساساً من مواد مأخوذة كلها من النخلة وأما النوع الأحدث منه فيبنى بمواد مستوردة من الخارج.


السقف القديم

في هذه الأنواع من السقوف يبنى السقف بوضع عارضة أساسية عبارة عن جذع نخلة ويوضع عليه جريد النخل الذي كان يصف طولياً وعرضياً بحيث تكون الفراغات بين الجريد صغيرة وعلى شكل مربعات ويوضع فوق الجريد حصير مصنوع من الخوص أي (سمة) وجمعها سميم. بعد ذلك يوضع الطين فوق السمة ثم يتم تغطيته بالجص أو النورة. وقد بقيت هذه الطريقة فترة طويلة من الزمن ولكن منذ القرن التاسع عشر حدثت تغيرات ملحوظة في بناء السقف حيث ساد استخدام مواد أخرى لتسقيف المنازل.


السقف الأحدث

ظهرت مواد موازية لتسقيف المنازل حيث استخدم الكندل (الچندل) بدلاً من جذوع النخيل, واستبدل الجريد بالباسچيل واستبدلت السمة بالبارية. طبعاً هذا النوع الجديد من السقوف لا نعلم منذ متى بدأ ظهوره لكنه أصبح الأكثر انتشاراً حتى أصبح هو السائد.

1 - الكندل بدل الجذوع

كانت الجذوع تمثل المادة الأساسية حيث يستخدم كعوارض أساسية للسقف وقد يستخدم الجذع بأكمله أو يقطع طولياً لأربعة أجزاء تستخدم كعوارض يوضع عليها الجريد.

2 - الباسچيل (الباسكيل) بدل الجريد

الباسچيل عبارة عن نوع من أنواع «البمبو» الغليظة لكنها تكون فارغة من الداخل (أي مجوفة) يتم شقها طولياً إلى شريحتين أو أكثر تسمى الواحدة منها باسچيلة وقد استخدمت في تسقيف المنازل عوضاً عن الجريد، حيث كانت تصف متقاطعة وعلى مسافات متقاربة فوق أخشاب الكندل وكلما ضاقت المسافات بين شرائح الباسچيل كان التسقيف أفضل, وكان وضع الباسچيل فوق الكندل يحقق هدفين أولهما إبراز بعض مظاهر الزينة في الغرفة والثاني للحيلولة دون نزول الحصير الذي يعلوها بين أخشاب الكندل بعد وضع الطين عليه.

البارية بدل السَّمَّة

تسمى البارية والجمع بواري أو «منگور» (منقور) وجمعها «مناگير» وهي عبارة عن نوع من الحصير المنسوج من شرائح أعواد نوع من القصب كانت استخدمت كبديل للسمة لتسقيف المنازل وذلك بمدها فوق شرائح الباسچيل التي تعلو أخشاب الكندل ليوضع الطين فوقها بعد ذلك. والاسم باري، قديماً جداً استخدمته العرب منذ قديم الزمان وأصل اللفظ من الأكدية بورو وهي في السومرية والآرامية بوريا ومنها انتقلت للعربية والفارسية (الجبوري 2006م: مادة «البارية»).

العدد 2848 - الأربعاء 23 يونيو 2010م الموافق 10 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:19 ص

      لو

      السلام عليكم
      شكرا لجهودكم
      لكن خبذا لو ارفقتم صورا توضيحية لاغنت الموضوع كثيرا
      كل الاحترام لكم

اقرأ ايضاً