العدد 2913 - الجمعة 27 أغسطس 2010م الموافق 17 رمضان 1431هـ

التصفيق والاستبداد في العالم العربي!

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

منبر الحرية

محمود حواس - كاتب سوري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org» 

التصفيق هذه الكلمة ذات الإيحاءات والمدلولات والمعاني والممارسات المتباينة والمختلفة عبر التاريخ وحتى يومنا الراهن، ولكن الأشد إيلاماً في ثنايا هذه الكلمة أو في مكنوناتها المستترة، ومهما كانت أسباب نشوء هذه الظاهرة إلا أنها في أيامنا المعاصرة تحولت إلى ظاهرة قهرية بامتياز فحيثما وجدت دكتاتورية أو استبدادا مستفحلا تجد تصفيقا حادا أو صامتا ومهما يكن شكل التصفيق لكنه موجود بقوة، وهذا التصفيق يأخذ طابعا قهريا خنوعيا استسلاميا حتى في جانبه الانتهازي الوصولي للانتفاع بمكتسبات وقتية من الطاغية أو المستبد الذي يدرك أسباب هذه الانتهازية، لكنه يحبذها ويؤيدها لأنها تخدم استدامته في الحكم والسيطرة والنفوذ.


التصفيق لمحة تاريخية

 

يعد التصفيق سلوكا قديما يعود إلى فترات زمنية موغلة في الماضي، حيث تدل الحفريات والبحوث الآثارية على تلمس آثار ودلائل وجوده في تلك الفترات من خلال النقوش المصرية والتي تشير إلى المصريين وهم يمارسون عملية التصفيق بالترافق مع طقوس احتفالية كالغناء والرقص.

يشير عماد عبداللطيف إلى أن اليونان من أقدم شعوب الأرض التي مارست عادة التصفيق وذلك بقيامهم - كما المصريين - بطقوس احتفالية غنائية ورقصية ومسرحية. وعندهم شاع المصفق الذي يصفق بأجر (المأجور) أي الذي يصفق بمقابل مالي، وكان هذا يحصل أثناء عرض المسرحيات للحضور وتأجير فئات من الناس تمارس التصفيق للمسرحيات أمام لجان التحكيم التي تقوم بتقييم المسابقات المسرحية.

وتذكر المصادر التاريخية ولع نيرون طاغية روما بالتصفيق، كما أن التصفيق قد انتقل من شعب إلى آخر فلقد انتقل إلى العبرانيين من خلال الحضارتين الفرعونية واليونانية. 
وتعود علاقة العرب بالتصفيق إلى عصور ما قبل الإسلام. كما عرف التصفيق كممارسة شعائرية تؤدى أمام الحرم المكي، واستخدم في صدر الإسلام أداة للتشويش على المسلمين في بداية دعوتهم، ويذكر بعض المؤرخين أن مجموعات من القريشيين الذين كانوا يعارضون دعوة الرسول محمد (ص)، كانت تلجأ إلى التصفيق تشويشا وضجيجا للسعي من أجل عدم استطاعة الرسول إبلاغ دعوته الدينية إلى الناس، وذلك من أجل عدم التأثر به وبدعوته للدين الجديد، وقد يكون التصفيق عند بعضهم ممارسة طقوسية للتقرب من الله.


التصفيق كظاهرة قهرية

شاع التصفيق في قصور الخلفاء والملوك والسلاطين والولاة، وكان تعبيرا عن قوتهم ومكانتهم وجبروتهم، فالذي يجلس على عرش الحكم عندما يصفق فهذا يعطي إشارة شديدة الترميز لاستحضار قوى سحرية، قد لا تكون أقل قوة من الساحر الحقيقي، عندما يصفق الملك فتحدث أشياء جديدة أمامه وعلى ساحات الرقص واللهو والمجون، فقد تظهر راقصة تخلب قلوب الحضور أو قد تنكشف موائد كبيرة ومتطاولة تشتمل على كل لذيذ وطيب، وقد يبرز سيف بتار يقطع رقاب بعضهم، إذن فما بعد التصفيق يأتي شيء مفاجئ غير معروف، فإما تأشيرة فرح وسعادة أو ترميزة قرح وحزن.

وعند العرب إذا قام أحدهم بعمل ما يحتاج لجهد جماعي وحين تعرضه لسؤال أحدهم هل أنجزت العمل الفلاني؟ يسارع بالإجابة بمثل (اليد الواحدة لا تصفق). في إشارة واضحة إلى حاجته إلى مؤازرته من قبل الآخرين.
ومن طرائف التصفيق أنه عندما يلعلع صوت الخطيب أو المحاضر أو المغني تجتاح القاعة موجة تصفيق حادة، يشارك بها كل الحضور حتى الذين لم يسمعوه جيدا والدليل على صدق ما نقول تكرار ظاهرة أن يقوم أحدهم أو بعضهم بعد مشاركتهم بالتصفيق بالسؤال لزميله الجالس إلى جانبه ماذا قال الخطيب أو المحاضر أو المغني!

وقد يكون التصفيق عملية غير بريئة، هذا ما يبينه مثل فرنسي يقول: "يظل الطفل بريئاً حتى يتعلم التصفيق!".

كما أن كلمة التصفيق قد تحمل في ثناياها مدلولات وإيحاءات وترميزات إلى ما يشبه الصفقة وهذا ما كان يحدث عند اليونانيين وبخاصة في قاعات المسارح بين الحضور وأصحاب المسرحيات كما ذكرنا آنفا.

بالانطلاق مما سبق نجد أن التصفيق وبصورة خاصة في الزمن المعاصر يلعب دورا قهريا كبيرا وبخاصة في المجتمعات الشرقية، وبصورة أكثر تخصيصا في العالم الإسلامي فلقد مرت شعوب العالم العربي، وبخاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر بمراحل ساد فيها التصفيق الآلي الصاخب والقوي، والذي جاء بفعل العاطفية والشعارية والتجييش ربما لم تشهده أي شعوب أخرى في العصور الحديثة. هذا التصفيق - وبخاصة للزعماء - جاء بعد احتلال فلسطين والحروب التي خاضها العرب 48، 67، 73، 82، يضاف إلى ذلك غزو النظام العراقي للكويت العام 1990، الحرب العراقية الإيرانية 1980 - 1988، حرب الخليج الأخيرة 2003، حرب تموز 2006.

فبروز الزعماء العرب كجمال عبدالناصر كان مترافقا مع جمهور قطيعي شعوري عاطفي مغيب العقل، تحركه الخطب اللهابة والتهديدات النارية، "سنرمي إسرائيل بالبحر"، "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، "لتتقشفوا من أجل فلسطين ومعركة العرب المصيرية الكبرى".

والمفارقة الكبرى أن تتماهى الشعوب العربية حتى الآن إلى هذه الدرجة القصوى مع المستبد الذي أتقن لعبة العزف على وتر القضايا الكبرى كقضية فلسطين التي ترتبط بمسألة عادلة وظلم ممارس من قبل قوة أخرى هي القوة الإسرائيلية، بمعنى أن فلسطين أضحت قضية مقدسة تدغدغ مشاعر العرب من المحيط إلى الخليج، واستطاع الحاكم العربي المستبد ركوب الموجة بالتركيز على فلسطين كقضية العرب الأولى وإهمال قضايا التنمية والحرية والديمقراطية، حتى أن العديد من المعارضين للمستبد العربي كانوا ضحايا المتاجرة بقضية فلسطين، فالذين أعدموا بالعراق في السبعينيات أعدموا بحجة أنهم جواسيس لإسرائيل، وحدثت أمور مماثلة في دول عربية أخرى مواجهة أو غير مواجهة لإسرائيل، إن أحكام الطوارئ والقوانين العرفية مازالت تمارس في معظم الدول العربية، وهي قد أتت بحجة أن الدول العربية تواجه إسرائيل فيمنع الناس من التظاهر أو التعبير عن المعاناة الداخلية، علما أن هذه الأحكام غير موجودة في إسرائيل نفسها، الدول العربية رفعت شعارات عديدة كالوحدة والحرية والاشتراكية، وهي قد فشلت فيها فشلا ذريعا ورغم ذلك صفق لها كثيرا، ومازالت تمارس أقسى صنوف القمع والترهيب بحجج وذرائع شتى.

إن حالة التخلف في الميادين كافة في العالم العربي يتم تغطيتها إعلامياً بتصفيق عجيب، فالأنظمة العربية بحسب التصفيق الممارس أنظمة وطنية وشرعية، والحكام العرب رموز مقدسة، على الإعلام العربي عدم استهدافهم باعتبارهم أولياء الله في الأرض، وهم لذلك محصنون شعبيا تخلفيا، وهم أنفسهم يقولون شعوبنا لا تستحق الديمقراطية لأنها غير واعية بالديمقراطية، وهي لم تبلغ سن الرشد الديمقراطي وبالتالي فهي تستحق التصفيق وبالتالي الاستعباد والاستذلال إلى أن تصل هذه الشعوب إلى الوعي بالديمقراطية!، ولكن السؤال كيف ستصل هذه الشعوب إلى الوعي بالديمقراطية وهي مغيبة عن الديمقراطية وممارس عليها آليات الاستبداد والدكتاتورية في التعليم والثقافة والتنمية والإعلام. وهي مملوكة للحاكم المستبد وتبث كل سموم الاستبداد والقمع والطغيان بصورة ممنهجة ومستمرة.
فتصفيق الجماهير رغم المعاناة والقهر وعدم فهم آلية العمل الاستبدادي الممارس، هو ظاهرة تدل على غباء المصفق وجهله، فهو لا يدري (إلا الانتهازيين منهم) إن هذا التصفيق يساهم في إدامة القمع والتنكيل وكل الإجراءات التعسفية والضغطية والعنفية والتعذيبية ضدهم.

إن الحاكم العربي المستبد ما ان يتحدث ببضع كلمات عاطفية حماسية حتى يأتيه صدى كلماته بتصفيق حاد مجلجل، وإن كان يخطب في قاعة فان التصفيق المقابل لكلماته يحدث ضجة وصخباً وصدى كبيراً، وإذا كان قد قيل إن العرب ظاهرة صوتية (المقصود بها الكلام دون الفعل) فإنهم بالتصفيق ظاهرة قهرية...

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 2913 - الجمعة 27 أغسطس 2010م الموافق 17 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً