العدد 2916 - الإثنين 30 أغسطس 2010م الموافق 20 رمضان 1431هـ

«الغبقة»... تقليد رمضاني عريق احتفظ بروح التراث رغم «عصرنته»

مثلت منذ القدم إحدى صور العلاقات الاجتماعية في الشهر الفضيل...

اعتاد أهل الخليج منذ القدم على الاجتماع في بعض ليالي الشهر الفضيل، وخصوصاً بعد انتهاء صلاة التراويح ومجالس الذكر، في لقاء تراثي رمضاني يطلقون عليه اسم «الغبقة»... وهي مائدة رمضانية عادة ما تسبق وقت السحور في توقيتها، وهي واحدة من التقاليد الرمضانية العريقة التي احتفظت بروح التراث رغم الأنماط العصرية التي شهدتها طيلة السنوات الماضية.

وحسبما يتذكر كبار السن، فإن الغبقة التي كانت تقام في مجالس القرى والأحياء وكذلك المدن، لا تختلف من ناحية معناها وأنواع وجباتها بين أهالي القرى الريفية الزراعية أو أهالي البحر أو في المدن، فهي أولاً تمثل صورة من صور العلاقات الاجتماعية الكريمة في الشهر الفضيل، وفيها من الكرم والحفاوة الشيء الكثير مما يليق بمكانة الضيوف، حيث يحرص صاحب «الغبقة» على دعوة الأهل والجيران والأصدقاء للالتقاء وتبادل الأحاديث وتناول الوجبة، أما اليوم، فقد احتفظت «الغبقة» بمدلولاتها على رغم الحداثة التي شهدتها حيث لم تعد تقام في المنازل أو المزارع وحسب، بل انتقلت إلى الفنادق والمطاعم الكبرى، وتتنوع فعالياتها اليوم بين المسابقات والأنشطة الترفيهية وتوزيع الجوائز.


أصل كلمة «غبقة»

ولكن، ما هو أصل كلمة «غبقة»؟ والإجابة أن هذه المفردة في لهجة أهل الخليج تعني العشاء الرمضاني المتأخر الذي يسبق وجبة السحور، أي أنها وليمة تؤكل عند منتصف الليل أو قبله بقليل، وهي أيضاً كلمة عربية أصيلة من حياة البادية، ويرجع أصلها إلى «الغبوق»، والغبوق هو حليب الناقة الذي يشرب ليلاً، وعكسه الصبوح الذي يشرب من حليب الناقة صباحاً، فيما يقول البعض، إن الغبوق وجبة خفيفة تؤكل في المساء، ولا خلاف على أن «الغبقة» هي وجبة رمضانية لا يمكن أن تقام في سائر أشهر السنة، وكانت في السابق، أيام الأجداد، تختلف نوعاً ما عما هي عليه اليوم في أشياء كثيرة، فطابعها ووجباتها كانت مختلفة، وكذلك بالنسبة إلى عدد الحضور إلا أن التسمية بقيت ومعنى اللقاء كعادة اجتماعية بقي أيضاً.

وبحسب المؤرخ البحريني خليل محمد المريخي فإن الغبقة هي لقاء اجتماعي بين الأهل والمعارف، ولربما يمكن القول إن هناك غبقات للرجال وأخرى للنساء وثالثة للشباب، يجتمعون فيها لتناول الوليمة ولتبادل الأحاديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض والترفيه عن النفس. وفي السابق، لا يشارك أحد من الغرباء في الغبقة، فكانت مخصصة للمعارف فقط، وكانت تقام عند واحد من أهل الحي؛ كلٌ حسب الاتفاق على الموعد، وهي باقية حتى اليوم كلقاء سمر رمضاني يحبه الصغار والكبار.

وعادة ما تتنوع أطباق الغبقة، لكنها تشمل بشكل أساسي الأطباق الخليجية الشعبية الشهيرة كالثريد والهريس، ومن الأطباق التي كانت تشتهر بها الغبقات في السابق «البرنيوش» أو (المحمّر) وهو الرز المطبوخ بالسكر أو الدبس، فيما يفضل البعض تقديم «المجبوس» وبعضهم يفضل «المشخول» وفي الغالب، تخصص تلك الأطباق للغبقة حتى لو قدمت على وجبة الفطور، وتقدم أيضاً أطباق الحلويات مثل الساقو واللقيمات أو النشاء أو العصيدة أو البلاليط بالإضافة إلى التمر والشاي والقهوة.


«المحمَّر» سيد الغبقة

وحتى مرحلة الستينيات، كما ترى المتخصصة في الأكلات الشعبية دلال الشروقي كان «المحمّر» هو الطبق الرئيسي في الغبقات، لكن دخلت بعد ذلك بعض الأطباق من ثقافات متنوعة، ومنها الأطباق الجانبية وبعض الأكلات الشامية، وكانت العوائل الخليجية تقدم طبقاً واحداً للغبقة يأكل منه الرجال أولاً ثم يأتي دور النساء بعد ذلك، لكن ارتباط طبق «المحمّر»

بالغبقة يعود إلى ارتباط هذه الوجبة بالمناطق الساحلية في منطقة الخليج العربي، وهي وجبة الغواصين في البحر، أما في المناطق الصحراوية فيستبدل السمك باللحم.

ويرى عادل الدوسري، وهو أحد المهتمين بالتراث، أن «الغبقة» عادة خليجية صرفة، فهي تنتشر في كل دول الخليج ولربما أصبحت تقليداً لدى الكثيرين، وأكلات «الغبقة» متنوعه ومتعددة، ومع تطور الزمن، اعتاد الناس على تقديم الأطباق العربية والغربية فهي اليوم تتضمن أنواع الفطائر والكبـة والسلطات وأنواع الحلويات والقهـوة، وأطباق شهيرة بالإضافـة إلى المشروبات الرمضانيـة كقمر الدين والشاي والقهوة والزعفران، وبمرور الوقت أصبحت الغبقة تقام في المطاعم والفنادق، وتحفل بالأكلات الشعبية والغربية والحلويات المحلية والشرقية والغربية.

وفي لقاءات «الغبقة» يحلو اللقاء حتى ساعات متأخرة بعد منتصف الليل وربما استمر البعض في لقائهم حتى موعد الإمساك يتسامرون ويتحدثون في أمور الحياة، وتتنوع الأنشطة لدى البعض في ممارسة بعض الألعاب التراثية أو مشاهدة المسلسلات الرمضانية.

ويرى الكثير من الناس أن الغبقة اختلفت فى الوقت الحاضر من ناحية أنواع الأكلات، ففي حين كانت تقتصر المائدة في السابق على طبق أو طبقين على الأكثر، إلا أنها حالياً عامرة بشتى أنواع المأكولات سواء الشعبية أو الأجنبية، ورغم اختلاف «الغبقة» بين الماضي والحاضر لكنها تبقى تجمعاً يحرص الجميع على حضوره، كما تُعَدُّ إحدى الموروثات الشعبية التي ترجع بنا إلى ماضي جلسات الأجداد الذين تركوا لنا تقاليد وعادات تعزز أواصر العلاقات الاجتماعية وخصوصاً في هذا الشهر الفضيل.


أنماط جديدة والمعنى واحد

وإذا كانت الغبقات تقام في مجالس العوائل والشخصيات المقتدرة بالدرجة الأولى في مختلف مناطق البحرين، وكذلك بين أفراد الأسر المتوسطة والفقيرة أيضاً، فإن الكثير من الجمعيات والشركات تفضلون تنظيم لقاءات رمضانية كبيرة تحت اسم الوجبة، فيما يفضل الشباب اليوم تنظيم غبقاتهم في المزارع والاستراحات وكذلك بعض المطاعم، وبحسب المواطن علي حبيب (أعمال حرة)، فإن غبقتهم هذا العام كانت مميزة، وهي عبارة عن حفل شواء تم تنظيمه على الساحل في بلاج الجزائر كنوع من التغيير بحضور الأصدقاء، كما تم الترتيب لمباراة في كرة القدم والمشاركة في بعض الألعاب الشعبية.

ويرى أن أفضل وقت لتنظيم الغبقة هو بين يوم الثامن وحتى الثالث عشر من شهر رمضان المبارك، ذلك أن معظم الناس تنشغل اعتباراً من ليلة النصف، بالقرقاعون ثم ذكرى استشهاد الإمام علي (ع) وبعدها ينشغل الناس بإحياء العشر الأواخر والاستعداد لعيد الفطر المبارك. أما المواطن يونس إبراهيم (موظف) فيفضل الغبقات التي تقام في البيوت؛ لأنها ذات طابع جميل أجمل بكثير من غبقات الفنادق والمطاعم، لكن في كل الحالات، فإن مشاركة الناس في مثل هذه اللقاءات يعد من إحياء عاداتنا وتقاليدنا الرمضانية الجميلة التي يجب أن نوليها كل اهتمام وهي لن تندثر طالما هي جزء لا يتجزأ من ليالي الشهر الفضيل، كما أنها فرصة لزيادة العلاقات والترابط الاجتماعي الذي يحتاج إليه المجتمع البحريني اليوم أكثر من أي وقت مضى.

وتبقى الغبقة الرمضانية، تحمل الجو الاجتماعي الجميل الذي يزدان بنفحات الشهر الفضيل بكل ما فيه من خير وبركة وثواب.

العدد 2916 - الإثنين 30 أغسطس 2010م الموافق 20 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً