العدد 2961 - الخميس 14 أكتوبر 2010م الموافق 06 ذي القعدة 1431هـ

موت الأستاذ... والانتقام من علومه

رحلة أسرة ابن خلدون من الأندلس إلى المغرب (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

وصلنا مع ابن خلدون في كتاب (التعريف) إلى مرحلة وفاة والده ووالدته بمرض الطاعون الجارف الذي درس «محاسن المغرب» وعمرانه.

ترك الحادث أثره النفسي على الشاب الصغير فأخذ يبحث عن «تعويض» أو بديل للأب في شخص يرى فيه المثال الأعلى. ولم يجده سوى في شيخ العقليات أبوعبدالله الابلي فلزم مجلسه وعكف «على القراءة عليه ثلاث سنين» (التعريف، ص 476).

كان عبدالرحمن في العشرين من عمره عندما استدعى السلطان أبوعنان الشيخ الابلي إلى تلمسان واضطر «شيخ العقليات» إلى مغادرة تونس. وعلى رغم أن علامات مستقبله أخذت ترتسم عندما استدعى أبومحمد بن تافراكين الشاب عبدالرحمن للعمل في وظيفة كتابة العلامة عن سلطانه أبوإسحق، إلا أنه لم يشعر أن هذا هو مكانه المناسب. وافق عبدالرحمن على الوظيفة وكتب العلامة «بالقلم الغليظ» وخرج معهم أول سنة ثلاث وخمسين (753 هجرية) وكان قد بلغ سن الواحدة والعشرين.

أحس الشاب بالوحشة واشتاق لشيخه الابلي فانطوى على نفسه وأصيب بنوع من الفراغ بسبب فراق شيوخه الأمر الذي عطل عليه زيادة «طلب العلم». وأخذ يتحين فرص اللحاق بأساتذته فحصل أن رجع بنومرين إلى «مراكزهم بالمغرب» وغادروا تونس ومعهم أكثر «الفضلاء» والشيوخ فقرر «اللحاق بهم». فاصطدم بمعارضة شقيقة الكبير محمد الذي رفض مغادرته تونس عندما دعي لشغل وظيفة هناك. لكنه نجح في إقناعه بالمغادرة وترك داره ونزل في بلاد هوارة، وحصلت هناك معركة «بفحص مرماجنة وانهزم صفنا ونجوت أنا إلى أبة». وأقام في أبة عند الشيخ عبدالرحمن الوشتاني «من كبراء المرابطين» ثم انتقل إلى تبسة ونزل عند صاحبها محمد بن عبدون وساعده على السفر إلى قفصه وأقام بها أياماً إلى أن جاء إليه صاحب الزاب الفقيه محمد بن الرئيس منصور بن مزني وكان في طريقه إلى الزاب فرافقه إلى بسكرة ثم غادر إلى تلمسان عندما نجح ابنه سلطان فاس أبوعنان في الاستيلاء عليها وعلى بجاية واصطحبه معه وأحسن معاملته و»كنت شاباً لم يطرَّ شاربي».

إذن مكث الشاب ابن خلدون في بجاية إلى نهاية سنة 754 هجرية (1353م) إلى أن طلبه سلطان فاس أبوعنان للالتحاق بمجلسه، فغادر إليه سنة 755 هجرية (1354م) وألزمه «شهود الصلوات معه، ثم استعملني في كتابته، والتوقيع بين يديه على كره مني».

وافق الشاب على الوظيفة مرغماً لكنه استفاد من المجلس فعكف على التأمل و»القراءة ولقاء المشيخة من أهل المغرب ومن أهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة» فحصل «منهم على البغية». واستمر يتأرجح في وضعه إلى أن جاء الشيخ أبوعبدالله الابلي الذي ارتحل «إلى تلمسان عند استيلاء السلطان أبي الحسن عليها» (التعريف، ص 477). وحضر مجلس السلطان القاضيان أبوالقاسم الشريف السبتي وأبوالبركات محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي (من أهل المرية) سنة 757 هجرية (1356م) و»كان يوماً مشهوداً» (التعريف، ص 478).

يشير ابن خلدون إلى حضور المجلس «فارس المعقول والمنقول وصاحب الفروع والأصول» الإمام محمد بن أحمد الشريف الحسني الذي يعرف بالعلوي (نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان). والأهم من ذلك أن الشيخ المذكور هو من تلامذة أستاذه أبوعبدالله الابلي. فالابلي أشرف على تدريسه، كابن خلدون، وقرأ عليه «فصل التصوف من كتاب الإشارات لابن سينا» ومن «تلاخيص كتب أرسطو لابن رشد» إلى دراسة الحساب والفرائض والفقه والعربية و»سائر علوم الشريعة» (التعريف، ص 479). وحضر اليوم المشهود أيضاً الكاتب القاضي أبوالقاسم محمد بن يحيى البرجي (من برجة في الأندلس) والشيخ «المعمر الرحالة» أبوعبدالله محمد بن عبدالرزاق (قاضي فاس). وواظب الشاب على حضور مجلس الشيوخ والقضاة والعلماء والفقهاء و»كلهم لقيت وذاكرت وأفدت منه وأجازني بالإجازة العامة» (التعريف، ص 481).

يبدو من كلام ابن خلدون أنه حقق مراده بالوصول إلى مجالس العلماء والفقهاء والشيوخ ورجال الدولة والفكر وبات يتمتع بموقع يساعده على القيام بالاتصالات وأجراء الترتيبات اللازمة مع رجال القصر وأبناء القبائل. وأهم ما تمناه كان الالتحاق بأستاذه وصديق والده «شيخ العلوم العقلية» الابلي، وهذا ما وصل إليه أيضاً.

إلى الآن يظهر ابن خلدون أنه من كبار المعجبين بأستاذه فهو مكث معه في تونس ثلاث سنوات بعد رحيل والده (749 – 752 هجرية) وضحى بوظيفته في الدولة بتونس لأنه أحس بالوحشة بعيداً عن أستاذه وشيوخه وعانى ما عاناه من شقيقه الكبير ليسمح له بالمغادرة (753 هجرية). ثم لاقى الصعوبات في طريقه إلى أستاذه إذ مكث سنة أخرى ليصل إلى بلاط صاحب تلمسان ومجالسه (نهاية 754 هجرية) ثم انتقل إلى فاس عهد سلطانها أبوعنان في نهاية 755 هجرية.

هناك فتحت أمامه الأبواب العلمية والثقافية وسدت بوجهه إمكانات التقدم في وظيفة تناسب ابن الجاه الضائع ومن أهل النسب وكامل العلوم وطامح إلى منصب الحجابة. وتأخر الوظيفة جاء بسبب وجود الشاب الطامح بين فطاحل عصره في العلوم العقلية والنقلية ماعطل عليه الكثير من الفرص وجعله في موقع الانتظار والترقب. وحصل ما كان لا يتوقعه إذ توفي أستاذه ومثله الأعلى وصديق مجلسه منذ طفولته شيخ العلوم العقلية في سنة 757 هجرية (1356م) أي بعد سنتين من استقرار وضعه.

ترك رحيل الأستاذ انعكاسات سلبية في حياة ابن خلدون مختلفة عن تلك الحالات النفسية التي انتابته بعد وفاة والده. فابن خلدون أصبح الآن في الـ 25 من عمره وبات من الوجوه المعروفة على المستويين الفكري والسياسي ويتمتع بوقع محترم عند السلطان بفضل الدعم الذي كان يوفره له شيخه الابلي إلى الغطاء المعنوي الذي كان يقدمه له عند حصول الشطحات والمغامرات. وبرحيله سقط الدعم وانهارت الحماية. فما كاد يرحل أستاذه حتى مرض السلطان أبوعنان في السنة نفسها وأخذت المؤامرات تتضاعف وتشتد ضد ابن خلدون متهمة إياه بالتآمر على خلع صاحب الدولة وقلب نظامها. ويمكن القول إن محن ابن خلدون السياسية بدأت بعد رحيل أستاذه وهي تشبه الوحشة النفسية التي إصابته بعد وفاة والده.

يبقى السؤال المحير إذا كان الشاب الطموح يحترم أستاذه وعلومه ويقر بجهوده الخاصة في تعليمه والإشراف على تربية جيل من الطلبة برزوا في الحقل المذكور لماذا انقلب على علوم أستاذه وأطاح بها؟

لا يمكن الجزم بأي تحليل بسبب نقص المعلومات واختلاف ابن خلدون العجوز الذي كتب (التعريف) في آخر حياته عن ابن خلدون الشاب الذي صاغ أهم مؤلف في عصره (المقدمة). ونستطيع من خلال قراءة ما بين السطور والمقارنة بين احترامه الشديد وتبجيله لأستاذ الفلسفة في (التعريف) وموقفه السلبي من الفلسفة وعلومها في (المقدمة) أن نلحظ سخرية ما من الشاب بأستاذه حرص على عدم إظهارها في آخر أيامه، ما يؤكد القول إنه مر بثلاث مراحل في علاقته بالأستاذ: الأولى الإعجاب والدهشة انتهت بوفاة الأستاذ في 757 هجرية. الثانية نقد الفلسفة كما برزت في «المقدمة». الثالثة احترام ذكرى الموتى في كتاب «التعريف».

استمر ابن خلدون في إظهار المحبة والاحترام والتقدير لشيخ الفلسفة (العلوم العقلية) في كتاب (التعريف). حتى عندما جاء على شرح برنامج تدريسه في القاهرة وقراره تدريس كتاب الموطأ للإمام مالك بن انس لأن الكتاب كما يقول «من أصول السنن وأمهات الحديث» (التعريف، ص 585)، حرص على عرض تاريخ المالكية ومذهبها وانتقالها إلى الأندلس والمغرب وتشعب مدارسها وصولاً إلى الابلي الذي قرأ عليه بعض كتاب الموطأ. فالعجوز الذي أنهكه الزمن لم يعد في وارد تصفية حساباته أو قول رأيه الصريح بعلوم أستاذه فهو مصر على تسميته بشيخ «أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية» (التعريف، ص 588). بينما كان ابن خلدون الشاب الطامح والمتحمس معجباً ومستفيداً منه إلى أن حلت النكبات به في السنة التي رحل بها أستاذه. ومنذ تلك السنة إلى لحظة تأليف المقدمة (أي بعد 20 سنة من وفاة الأستاذ) تحول الشاب إلى رجل ناضج عركته السياسة والتجارب وازداد علماً ومعرفة فانقلب على أستاذه فلسفياً من دون أن ينال منه شخصياً. تجاوز التلميذ أستاذه وأخذ مسافة بعيدة عنه وصلت إلى حد الوقوف في المقلب الثاني من طرف التناقض. فأخذ ابن خلدون الشاب موقفاً نقدياً عقلانياً من الفلسفة في (المقدمة) لكنه حافظ على احترام الأستاذ في (التعريف).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2961 - الخميس 14 أكتوبر 2010م الموافق 06 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً