العدد 2969 - الجمعة 22 أكتوبر 2010م الموافق 14 ذي القعدة 1431هـ

الموت بالزرنيخ في بنغلاديش

حفرت مئات آلاف الآبار بموجب برامج مولتها وكالات الغوث الدولية، فتبين لاحقاً أن غالبيتها ملوثة بالزرنيخ الذي يسمِّم عشرات ملايين البنغاليين.

اتجهت بلدان كثيرة للبحث عن مدى تلوث مياهها بالزرنيخ، بعدما صعق المجتمع الدولي بظهور أعراض وبائية في ولاية البنغال الغربية الهندية العام 1983 ثم في بنغلادش العام 1987. ويقدر الآن أن مياه بعض المناطق تحوي نسباً عالية من الزرنيخ في سبعين دولة، خصوصاً الولايات المتحدة والأرجنتين والصين وفيتنام وكمبوديا وباكستان ونيبال. لكن بنغلاديش بالدرجة الأولى والهند بالدرجة الثانية تبقيان أكثر الدول تضرراً بانتشار الزرنيخ في مياههما الجوفية. وقد اعتبرت الأمم المتحدة مشكلة التلوث بالزرنيخ في بنغلاديش «أسوأ تسمم شعب في التاريخ»، ووصفها العالم أندرو ميهارغ من جامعة أبردين البريطانية بأنها «ملحمة مثيرة ومرعبة، مليئة بالعلم والسياسة وبكثير من المآسي الإنسانية».

الزرنيخ هو العنصر الثاني عشر الأكثر انتشاراً في القشرة الأرضية، ويوجد في الطبيعة بشكل خامات كبريتية أو منتجات بركانية. ومن المفارقات أن الزرنيخ العنصري ليس ساماً، لكن مركّباته سامة، خصوصاً المركبات اللاعضوية الثلاثية التكافؤ، لأنها تنحلّ بشكل جيد في دهون الجسم، كما ترتبط ببروتينات البلازما ومن ثم تتركز في السبيل المعدي ـ المعوي والكبد والكليتين والطحال والرئتين.

يسبب التسمم الحاد بالزرنيخ متلازمة الشلل الحاد، والانهيار القلبي الوعائي، والانحطاط العصبي المركزي، والموت خلال ساعات من تناول السم. كما يمكن أن يسبب متلازمة معدية ـ معوية حادة، مثل التقيؤ الشديد والإسهال الشديد وتقيؤ أو تغوُّط الدم. أما التسمم المزمن فيظهر بشكل تغيرات لونية أو ندب على الجلد، واعتلال عصبي محيطي، وغنغرينا، إضافة إلى سرطان الرئة والمثانة والكلى وغيرها.

استخدمت سلفيدات الزرنيخ وعُرف أنها سامة منذ القرن الخامس قبل الميلاد. وعرفت استعمالات للزرنيخ ومركباته، مثل التعدين والأصبغة ومكونات القذائف الحارقة ووصفات علاج الأمراض، منذ زمن طويل. وترافق استخدامه كسمّ مع الحياة الاجتماعية والسياسية لكثير من المجتمعات. ومنذ عقود قليلة بدأ تحديد استخدام الزرنيخ بشكل يراعي سلامة المستهلكين. وهو ينحصر حالياً في عدد محدود من الصناعات، تشمل مبيدات الحشرات الزراعية، وحفظ الخشب، وإنتاج الزجاج، وصناعة أشباه الموصلات وبعض السبائك.


كيف حصلت المأساة؟

تعتبر بنغلاديش من أكثر البلاد فقراً وكثافة سكانية وكوارث طبيعية وصحية في العالم. وحتى أربعين سنة خلت، كان معظم البنغاليين يشربون مياهاً سطحية ملوثة جداً بمياه الصرف، تسبب أمراضاً مثل الكوليرا والتيفوئيد والتهاب الكبد، مع وفاة سُبع المواليد الجدد ورُبع الأطفال تحت سن الخامسة. لذا قامت وكالات الغوث الدولية في سبعينيات القرن العشرين بتمويل برنامج مكثف لحفر الآبار، بهدف الاستغناء عن المياه السطحية الملوثة وتزويد السكان بمياه شرب نظيفة وصحية، ما خفض نسبة الأمراض السابقة إلى النصف تقريباً. لكن تبين في العقود التالية أن مياه كثير من الآبار تحوي مستويات عالية جداً من الزرنيخ، وأن كثيراً من البنغاليين ولا سيما الرضع ماتوا بسبب تسمم مزمن به يهدد مئات الآلاف غيرهم بالموت.

اعترفت حكومة بنغلاديش العام 1993، ومعها الغرب، بوجود مشكلة تلوث بالزرنيخ في الآبار. لكن مشاريع حفر الآبار الأنبوبية (tubewells) استمرت، وأعلنت الدائرة الهندسية للصحة العامة العام 1998 مثلاً أنها حفرت 286 بئراً خلال ستة أشهر في منطقة منشيغانج وحدها، مع أن 80 في المئة من مياهها غير آمنة.

بذلت مجموعة من المنظمات في السنوات الماضية جهوداً كبيرة في ظروف صعبة لتحديد الآبار والأحواض المائية التي تنخفض فيها نسبة الزرنيخ، وتقديمها كبديل مناسب لمصادر المياه الملوثة. لكن النتائج كانت مؤلمة، فقد تبين أن أكثر من 35 منطقة موبوءة بآبار تحوي مياهها أكثر من 50 ميكروغرام في الليتر، وهو الحد الأعلى لقبول مياه الشرب في بنغلاديش، بينما تقر الأمم المتحدة حداً أعلى لا يتجاوز 10 ميكروغرام في الليتر منذ أوائل هذا القرن.

هناك أكثر من فرضية حول كيفية وصول الزرنيخ إلى آبار مياه بنغلاديش. أكثرها شيوعاً أن تلوث المياه هو من صنع الإنسان ولم يكن موجوداً قبل العام 1975، إذ لم يظهر تسمم بالزرنيخ قبل ثمانينيات القرن الماضي على رغم استخدام مياه الآبار بكثافة منذ الأربعينيات. وتنسب هذه الفرضية التلوث إلى أسمدة ومبيدات قدمتها المنظمات الدولية والدول الغربية الى بنغلاديش والهند، في إطار «الثورة الخضراء» أو مبادرة «البذور، السماد، الماء» التي تضمنت استخدام مخصبات تربة ملوثة بالزرنيخ واليورانيوم المشع خلال عقود من دون مبالاة أو مراقبة. ويعتبر آخرون أن بناء سدود في الهند على الأنهار الداخلة إلى بنغلاديش منذ العام 1975 هو سبب المأساة. وتستند الفرضية الرئيسية الثانية إلى دراسات جيولوجية استنتجت أن المياه الجوفية تشكلت منذ ملايين السنين، وأن تلوثها بالزرنيخ طبيعي وقديم. ولكن يتفق الجميع على أنه لو فحص الزرنيخ في الآبار التي حفرت، مثلما يحصل في الدول المتقدمة، لأمكن تجنب المأساة الحالية.


تسمم غذائي

ما يعقد المشكلة أن الزرنيخ الموجود في التربة والمياه الجوفية ينتقل إلى الغذاء، خصوصاً الرز والخضار الورقية والبندورة (الطماطم) في المناطق الملوثة، بنسب قد تفوق كثيراً الحدود العليا المقبولة، وأن الطبخ بالمياه الملوثة يقود إلى تأثير مشابه. وجاء في دراسة طبية طويلة الأمد لتأثيرات الزرنيخ الصحية، نشـرت في حزيران (يونيو) 2010 في مجلة (The Lancet) البريطانية، أن ما بين 35 و77


مليون بنغالي تعرضوا لمستويات سامة.

وقد شكك وزير صحة بنغلاديش في هذه المعطيات، قائلاً إن نسب خطر التلوث ضُخمت، وإن الحكومة تقيس مقدار التلوث في كل بئر وتضع إشارات واضحة على الملوَّث منها، كما توزع الآن مرشحات ماء (peat filters) من الخث الجاف تزيل الزرنيخ في أسوأ المناطق تلوثاً، وتوسع عمليات تنظيف المياه السطحية وشبكات توزيع الماء.

لكن منظمات دولية ومحلية تعتبر أن حكومات بنغلاديش تكثر الكلام عن الجهود التي تبذلها أو ستبذلها لتأمين الماء الآمن، فيما أفعالها المفيدة قليلة. وذلك بدليل استمرار المأساة في معظم المناطق، وتفاقمها أحياناً، بسبب البيروقراطية والفساد وضعف القدرات والمؤهلات، على رغم مضي ست سنوات على إطلاق «برنامج تخفيف أثر الزرنيخ» بتمويل من البنك الدولي ومنظمات أخرى.

وتتهم منظمات إغاثة أهلية الحكومة بأنها تمنع الخدمات عن الفقراء غير القادرين على الدفع، وأن كثيراً من المستفيدين لا يشاركون جيرانهم الفقراء في الآبار وأحواض المياه الآمنة لاعتبارات طبقية أو غيرها. كما يتهمونها بصرف معظم المساعدات على حفر آبار عميقة مكلفة، أو على تقنيات تنقية باهظة التكاليف، وبأن جهودها للتخلص من مخلفات معالجة المياه الملوثة قاصرة، وبأن نسب الزرنيخ المعلنة غير صحيحة أحياناً. وتقدم هذه المنظمات العون إلى مناطق منكوبة في شكل أحواض مياه تتم معالجة مياهها بطرق غير مكلفة، ومرشحات فخارية فعالة، وآبار سطحية قليلة الكلفة في مناطق يعرف بالخبرة أن مياهها خالية من الزرنيخ. وهي تطالب الحكومة ومنظمات الإغاثة الدولية بالاقتداء بها لتوفير المال وزيادة عدد المستفيدين، خصوصاً القرويين الأشد فقراً.

العدد 2969 - الجمعة 22 أكتوبر 2010م الموافق 14 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً