العدد 2975 - الخميس 28 أكتوبر 2010م الموافق 20 ذي القعدة 1431هـ

بدايات وعي قوانين التاريخ

رحلة ابن خلدون إلى الأندلس (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قضى ابن خلدون في بلاد المغرب 11 سنة اكتشف فيها تعقيدات الوضع السياسي وصعوبة العيش في منطقة مضطربة إلى درجة ظن أن الأمور لا تستقيم فيها من دون استبداد. فعبدالرحمن سمع وهو في تونس بخبر انقلاب الابن (السلطان أبوعنان) على الأب (السلطان أبوالحسن)، ويصف الحادث تكراراً في أخباره ثم يأتي على الموضوع في مذكراته في سياق الحديث عن شيوخه وأساتذته إلى درجة اضطراب الخبر من كثرة تعداده كلما جاء ذكر السلطان أبوالحسن وانقلاب ابنه أبوعنان عليه ومحاولة الأب استرداد الملك وغرق أسطوله في طريقه إلى المغرب. ويبدو أن صراع الأب مع الابن ومقتل الأب واستيلاء الابن على المُلك بالقوة ترك أثره النفسي في حياة الشاب ابن خلدون السياسية.

إلى ذلك جاء صراع الأخ ضد شقيقه ونجاح السلطان أبوعنان في إبعاد شقيقه السلطان أبوسالم إلى الأندلس ليزيد من اضطراب الخبر. ثم انقلاب السلطان أبوعنان على ابن خلدون بتهمة التآمر عليه وإطلاق سراحه بعد وفاة السلطان في عهد وزير الدولة والوصي على الولد الصغير (ابن السلطان الراحل). ثم عودة الشقيق أبوسالم من الأندلس ونجاحه في استرداد الحكم من الوزير الوصي على ابن الأخ بمساعدة ابن خلدون. ثم صراع أهل الحكم مع السلطان أبوسالم وهلاك الأخير، وأخيراً خلاف ابن خلدون مع بطانة الحكم الجديد وطلبه الرحيل من المغرب.

حتى تنتظم التجربة لابد من إعادة قراءة أخبارها في كتاب السيرة (التعريف). فسؤال كيف سجل العجوز ابن خلدون تلك الفترة وماذا كتب عنها في مذكراته، تقدم مادة غنية لانتظام فكرة التاريخ في ذهنه واكتشافه مفهوم العصبية كمحرك للصراع على الدولة الذي يُطلق عليه علم العمران وطبائعه.

نلاحظ أن أخبار ثورة الابن على الأب تتداخل مع حديث ابن خلدون عن أساتذته وشيوخه مع حادث غرق أسطول السلطان ونجاح الابن في انتزاع الملك واستدعاء السلطان الجديد لأستاذه الأبلي ثم التحاق عبدالرحمن بأستاذه ثم عمل ابن خلدون في مجلس السلطان، فالأمور عنده متداخلة لكنها عملياً تنقسم إلى درجات من الاختلاف الزمني ولكل درجة مذاقها المختلف عن التالية.

هناك البداية وهي درجة السماع (الأُذن) عندما كان يشارك في مجالس السلطان أبوالحسن في تونس ويستمع إلى السجالات والنقاشات والحوارات ويتعلم فنون الأدب والشعر والكلام والفقه والفلسفة والمنطق. فهو سمع بثورة الابن على الأب عندما وصل خبر إقدام أبوعنان على انتزاع فاس والاستيلاء عليها بالقوة من والده أبوالحسن في سنة 749 هجرية (1348م) وهي السنة التي توفي فيها والد ابن خلدون ووالدته بمرض الطاعون. وهناك سمع أيضاً بتجهيز السلطان أبوالحسن حملة عسكرية - بحرية (سنة 750 هجرية) لاسترداد الملك من ابنه بعد أن أخذ أبوعنان يستعد لتوسيع دائرة نفوذه باتجاه الثغور الأخرى. فالتواريخ هنا متداخلة لأن الشاب الصغير عبدالرحمن سمعها من المجالس والتقطها من هنا وهناك. فهي مضطربة في الذهن وفي الآن منسقة كأخبار وحوادث.

مثلاً يتحدث عن انتفاضة أبوعنان ضد والده السلطان أبوالحسن وكيف ركب الأخير الأسطول بهدف استعادة مُلكه من ابنه. يقول في كتاب (التعريف) في صفحة 471 الآتي: «فلما خلع السلطان أبوعنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن، ونهض إلى فاس، استنفره في جملته». ويقصد أن السلطان الثائر على والده استنفر معه ابن القاضي أبو عبدالله محمد بن عبدالنور لأن القاضي الأب رحل مع السلطان أبوالحسن إلى تونس فاستخدم القاضي الابن «وولاه قضاء مكناسة، فلم يزل بها، حتى إذا تغلب عمر بن عبدالله على الدولة (...) نزع إلى قضاء فرضه (فريضة الحج)، فسرحه». ثم يقول في الصفحة 473 عند حديثه عن الإمام الخطيب أبوعبدالله بن أحمد بن مرزوق إنه عندما انطلق عائداً إلى المغرب مع جماعة من الأعيان و»وفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أمه حظية أبي الحسن وأثيرته. كانت راحلة إليه، فأدركها الخبر بقسنطينة. وحضرت الهيعة. واتصل بها الخبر بتوثب ابنها أبي عنان على مُلك أبيه، واستيلائه على فاس، فرجعت إليه، وابن مرزوق في خدمتها، ثم طلب اللحاق بتلمسان فسرحوه إليها». ونفهم من الخبر أن زوجة السلطان أبوالحسن كانت في طريقها إلى تونس للالتحاق بزوجها برفقة ابن مرزوق وعندما وصل الخبر إلى الأم انضمت الوالدة إلى الابن ورفضت الالتحاق بزوجها.

لا ينتهي خبر الأسطول وغرقه بل يتواصل مع أخبار أساتذة ابن خلدون وشيوخه فكل مرة يكرر خبر الأسطول وغرقه عند حديثه عن رجال عصره فيختلط خبر الأسطول بأخبار السلطان الأب وأخبار السلطان الابن بأخبار الأساتذة والشيوخ. بدأ ابن خلدون رواية السياق بأخبار مسار السلطان أبوالحسن إلى إفريقيا (تونس) سنة 748 هجرية (1347م) ومجلسه ثم يكرر «وانتفض المغرب على السلطان، واستقل به ابنه أبوعنان. ثم ركب السلطان أبوالحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين (750 هجرية)، ومر ببجايه، فأدركه الغرق في سواحلها، فغرقت أساطيله، وغرق أهله، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم» (التعريف، ص 464). بعدها يعود للتحدث عن كل أستاذ وقاض وشيخ وخطيب ويقدم ترجمة كاملة لحياته لينتهي إلى خبر الأسطول ومن غرق من «هؤلاء الفضلاء» ومن نجا منهم. فيتحدث عن السطي واسمه محمد بن علي بن سليمان ونجاته من الغرق. ويتحدث عن أستاذه «شيخ العلوم العقلية» محمد بن إبراهيم الأبلي ونجاته مصادفة لأن السلطان أبوالحسن عرض عليه ركوب الأسطول في طريقه لاسترداد الحكم من ابنه وكان «الشيخ في نزلنا وكفالتنا، فأشرنا عليه بالمقام، وثبطناه عن السفر، فقبل وأقام. وطالبنا به السلطان أبوالحسن، فأحسنا له العذر. وتجافى عنه، وكان من حديث غرقه في البحر ما قدمناه» (التعريف، ص 467). وأقام الشيخ الأبلي في تونس إلى أن فرغ السلطان الابن أبوعنان من أعماله الحربية والاستيلاء على تلمسان من بني عبدالواد فكتب «يطلبه من صاحب تونس» فرحل إلى السلطان أبوعنان في تلمسان و»أحله محل التكرمة ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء» (التعريف، ص 467).


دخول المغرب

من هذه الدرجة يدخل الشاب ابن خلدون تاريخ المغرب فهو بسبب تعلقه بأستاذه الأبلي أخذ يفكر بترك تونس والالتحاق به في تلمسان ثم فاس إلى أن هلك الأستاذ الشيخ في فاس في سنة 757 هجرية (1356م). فانتظام الخبر عند ابن خلدون بدأ بالسمع والاستماع ويتسلسل كالآتي: السلطان أبوالحسن يأتي إلى تونس مع شيوخه وعلماء عصره في العام 748 هجرية. الشاب الصغير عبدالرحمن يلتحق بمجلس السلطان برفقة والده. الابن أبوعنان يقوم بثورة في المغرب (فاس) ضد الأب في العام 749 هجرية. وفي هذه السنة (749 هجرية) ضرب مرض الطاعون تونس فهلك الكثير من الشيوخ والأساتذة ووالد الشاب عبدالرحمن. وفي السنة التالية (750 هجرية) عزم السلطان الأب على استرجاع ملكه في المغرب من السلطان الابن فغرق الأسطول وهلك معظم شيوخ وأساتذة عبدالرحمن ونجا بعضهم مصادفة.

برحيل أستاذه الأبلي للالتحاق بالسلطان الابن في سنة 752 هجرية (1351م) يدخل الشاب الطموح التاريخ من خلال تلك العلاقة مع شيخه. كان عبدالرحمن يشغل آنذاك وظيفة كاتب العلامة في ولاية تونس إلى أن دُعي إلى شغل وظيفة في المغرب في سنة 753 هجرية (1352م) فوافق وارتحل إلى هناك «لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب» (التعريف، ص 476). وقرر السلطان أبوعنان مغادرة تلمسان إلى فاس فاستدعى ابن خلدون للالتحاق به مع شيوخه وأساتذته في نهاية 755 هجرية (1354م) وهناك توفي الأبلي في سنة 757 هجرية وانقلب السلطان أبوعنان على ابن خلدون وأدخله السجن بتهمة التحضير لمؤامرة ضده.

من لحظة انتقال الشاب الطموح من تونس إلى بلاد المغرب يبدأ الخبر ينتظم من خلال المعايشة والمشاهدة. فابن خلدون انتقل من درجة الأذن (السماع) إلى درجة العين (المشاهدة) حين بدأت اتصالاته المباشرة بالسلطان أبوعنان في نهاية سنة 755 هجرية عندما قدم عليه من بسكرة إلى تلمسان والاحتكاك بالشيوخ ورجال الدولة و»الإفادة منهم على البغية» (التعريف، ص 475). ثم يذكر أنه جدد اتصاله بالسلطان أبوعنان في سنة 756 هجرية وانتقل إلى بلاطه في فاس. فابن خلدون في هذه الدرجة من تقدمه السياسي لم يعد بحاجة إلى وساطة أو توسط أساتذته وشيوخه لنيل وظيفة أو احتلال موقع يناسب علومه ونسبه وجاهه المفقود. فالتجربة تراكمت وحصل من خلالها على العلوم والاتصالات وبات هو في موقع يسمح له بتنظيم مصالح غيره وضبطها على إيقاع طموحاته الشخصية التي يعترف بها مراراً في مذكراته.

بعد تجربة السماع انتقل الشاب عبدالرحمن إلى تجربة المشاهد الحسية (المعرفة الحسية) وأخذ يربط ما سمعه عن صراع الأب والابن على السلطة بتجربة ملموسة عندما شهد صراع الأخ والشقيق وخلافهما على السلطة وإقدام السلطان أبوعنان على استبعاد شقيقه أبوسالم إلى الأندلس تمهيداً لتسليم ابنه الصغير الحكم بعد وفاته. وعندما عاجل القدر أبوعنان استبد بأمر الولاية وزيره الأول الوصي على العرش والولد القاصر.

أعطى الأمر المذكور فرصة لابن خلدون للتدخل فأقدم على مساعدة شقيق السلطان الراحل على العودة فأخذ بتأليف قبائل (بنو مرين) وتجميع شيوخها بالتعاون مع ابن مرزوق لدعم تلك العودة. ودب الصراع بين المبعد أبوسالم والوزير الوصي ونجح في الاستيلاء على الحكم بالقوة وأخذه عنوة من الوزير الوصي. وهكذا انتصر العم على ابن الأخ.

يصف ابن خلدون الأمر تكراراً في مذكراته ويأتي على الخبر في أكثر من مكان خصوصاً في مسألتي عمله في رعاية السلطان أبوعنان (تولي مسئولية الكتابة عند صاحب الدولة) وانقلاب السلطان عليه واعتقاله، ثم الإفراج عنه (سنتان في السجن) واشتراكه في الانقلاب على الوزير الوصي (الحسن بن عمر) لمصلحة الشقيق المبعد السلطان أبوسالم (تولى في دولته مسئولية الكتابة)، ثم انقلابه على السلطان أبوسالم وهلاك الأخير، ونجاح الوزير عمر بن عبدالله بالاستيلاء على الحكم بدعم من ابن خلدون وابن مرزوق، وأخيراً انقلاب الوزير الحاكم بالتعاون مع ابن مرزوق ضد ابن خلدون بعد تنكره لصداقة قديمة مع الأمير أبوعبدالله في عهد السلطان أبوعنان. وانتهى الأمر باستبعاده عن موقع القرار فقرر مغادرة المغرب إلى بلد آخر.

ترك ابن خلدون بلاد المغرب بعد تجربة سياسية مريرة. وأثمرت تلك التجربة في تأسيس بدايات الوعي التاريخي في ذهن الشاب الذكي والطموح. ويمكن ملاحظة انعكاس تلك الخبرة الأولية في مذكراته التي سجلها عندما بلغ مرحلة الشيخوخة.

آنذاك لم يكن الشاب قد اكتشف قانونه التاريخي (علم العمران) والتقط العوامل التي تغير الأجيال والأحوال فاكتفى بتصوير الحوادث بشكل مضطرب وهو أمر يكشف عن قلق المعرفة الأولية وبداية تلمس طريق ربط عناصر الأخبار والتقاط مكوناتها الداخلية.

يمكن إطلاق تسمية الدهشة الأولى على تلك الفترة التي أسست بدايات التفكير التاريخي عند ابن خلدون. وبسبب تلك الدهشة سيطرت على تفكيره علامات مميزة ضخمت عناصر الحدث وجعلته يقع أسير تحولاته أحياناً أو يشارك بتطوراته في أحيان أخرى. فالوعي الأولي لعناصر التاريخ وتحولاته أوقعه في اضطراب ذهني حين أورد أخباره كذلك دفعه نحو تضخيم عناوين حوادث عصره. فهناك الطاعون الجارف، وهناك أسطول السلطان الغارق، وهناك صراع الأب مع ابنه وغرق الأب، وهناك صراع الشقيق مع شقيقه، وهناك صراع العم مع ابن الأخ. وأخيراً هناك ابن خلدون الذي يتمزق بين حاجات المثقف وطموحات السياسي أو بين سلطة المعرفة وسلطة الجاه.

كانت تجربة ابن خلدون مثمرة في بلاد المغرب منذ انتقاله إليها من تونس. بل إن معرفته بتلك البلاد بدأت في تونس عندما عاش في مجلس سلطانها وانكب على العلم والمعرفة بإشراف شيوخ المغرب ثم اطلاعه على أخبار تلك الديار من طريق التواتر والسماع قبل أن ينتقل إليها لاحقاً ويعايش أخبارها من طريق التجربة والمشاهدة، ليعود إليها بعد فترة مرغماً تتقاذفه المصادفات وتصنع قدره الذي لا خيار فيه.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2975 - الخميس 28 أكتوبر 2010م الموافق 20 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً