العدد 3020 - الأحد 12 ديسمبر 2010م الموافق 06 محرم 1432هـ

العراق... والارتداد إلى عصر ما قبل الدولة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ارتداد العراق إلى عصر «ما قبل الدولة» أصبح مسألة وقت. والنكوص السياسي إلى مرحلة نظام الملل والنحل الذي اعتمدته الدولة المملوكية (البحرية والبرجية) وأخذته عنها السلطنة العثمانية مظلة للجماعات الأهلية (الفرق الأقوامية والدينية) قبل نشوء فكرة الدولة الوطنية المعاصرة أصبح سمة يطبع المتغيرات التي تشكلت في بلاد الرافدين بعد الغزو الأميركي وتقويض السلطة.

انجراف العراق إلى عصر اللادولة تحت عناوين «حق تقرير المصير» أو«الديمقراطية» أو«فدرالية الطوائف والمذاهب» يشكل علامة من علامات التاريخ التقهقري الذي يتراجع إلى الوراء في طور عالمي يشهد نمو تكتلات اقتصادية تبحث عن أسواق قارية تتجاوز الفواصل الحدودية والحواجز الجمركية وتتخطى أطر «الدولة القومية». فالمسار العراقي الراهن الذي أشرف الاحتلال الأميركي على إنتاجه ويحاول إخراجه رسمياً إلى المسرح قبل تموضعه في نهاية العام 2011 يعطي فكرة موجزة عن أصل المشروع التقويضي الذي جاءت به إدارة جورج بوش الابن في عهد أيديولوجية «تيار المحافظين الجدد». فالمشروع في أساسه اعتمد مبدأ التفكيك لا التوحيد وفرز العناصر الأهلية إلى أصولها البدائية الأولى وليس تنمية قواها الذاتية وتشكيل آليات تدفع حطام الدولة السابقة (الحزبية المستبدة) إلى الأمام لا إلى الوراء كما هو حاصل الآن في خطابات الجماعات الأهلية.

رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ليس الوحيد الذي تحدث بوضوح عن حق تقرير المصير لينسجم الهدف «مع المرحلة المقبلة» وما تقتضيه «موازين القوى والمعادلات السياسية». فهذا الكلام المكرر في المؤتمر الثالث عشر لحزبه «الديمقراطي الكردستاني» ليس بعيداً عن دعوات شيعية سابقة طالبت بتشكيل فدرالية مستقلة في الجنوب (محافظة البصرة وجوارها) ومطالبات سنية لاحقة أخذت تعلن عن رغبتها في تشكيل إقليم طائفي في وسط العراق وغربه (محافظة الأنبار وجوارها). فالدعوة الكردية ليست جديدة وإنما جاءت منسجمة مع مسار التقويض واحتمال تشرذم العراق إلى دويلات (أقاليم) تشبه تلك الحالة الفسيفسائية التي عصفت بالأندلس في عصر أمراء الطوائف ومهدت تاريخياً لخروج المسلمين من إسبانيا.

العودة إلى الأصل الطبيعي للإنسان يشكل قاعدة ارتدادية مشتركة للجماعات الأهلية في العراق. والبحث عن الأصل الطبيعي بالعودة التاريخية للوراء يعني عملياً الدخول في محنة فرز العناصر إلى مرحلة ما قبل التعدين (الصَّهر والطَّرْق) من خلال التكيف مع المكونات البدائية الأولى للإنسان التي سبقت نشوء الدولة والحاجة إليها للدمج والتآلف بين الروافد المختلفة للبشر.

الارتداد إلى ما قبل الدولة والبحث عن الخصوصية في الجزء الصغير هل يمثل ردة فعل طبيعية ضد سلطة مستبدة (عشائرية عائلية) حزبية وقهرية أم هو مصطنع وخارج سياق التطور؟ الجواب الذي قدمه بارزاني في خطابه يؤكد أن الخطوة تنسجم مع «المرحلة المقبلة» و«موازين القوى» و«المعادلات السياسية». وبكلام آخر إن إقليم الشمال الذي تشكل في ضوء تفاعلات مرحلة سابقة بدأ يستعد أو يعد العدة للانتقال خطوة إلى الوراء تنسجم مع متغيرات يرجح أن تنشأ وتطبع المرحلة المقبلة.

الخطوة مدروسة وليست عفوية في اعتبار أن ذريعة السلطة المستبدة سقطت وتلاشت بعد الغزو الأميركي في 2003 ولم تعد تكفي لتبرير التمرد أو الانقسام أو الانفصال. الذريعة البديلة هي «حق تقرير المصير» وإعلان الاستقلال الوطني بغض النظر عن طبيعة السلطة وتكوينها السياسي ودستورها (الذي يكفل الانكفاء) وما إذا كانت الدولة الموعودة مستبدة أو عادلة، ديكتاتورية أو ديمقراطية.

التبرير إذن هو العودة إلى الأصل الطبيعي والانفكاك عن العناصر البشرية المختلفة في تكوينها وثقافتها ولغتها التي تجمعت في فترة زمنية في إطار دولة جامعة حاولت تشكيل هوية جامعة وفشلت. فالفشل السياسي التاريخي في تجميع العناصر وتوحيدها (صهرها) وإعادة تشكيلها (طرقها) في هيئة واحدة يمثل ذريعة جديدة للإطاحة بوحدة بلاد الرافدين. وهذا ما أشار إليه بارزاني في خطابه الحزبي أمام قادة «الدولة المحطمة» ورجالات أحزابها.

الارتداد إلى مصدر المواد الأولية للمعادن المعطوف على مرحلة التموضع (الانسحاب الأميركي وإعادة الانتشار) يشكل خطوة في إطار الانكفاء إلى عصر ما قبل الدولة والتقوقع في شبكة نظام الملل والنحل والفرق الذي اعتمد في بعض محطات التاريخ الإسلامي واسطة للتعدد والتنوع والاعتراف بالآخر وحق الأقليات في ممارسة شعائرها وفق قنوات دستورية تضمن ذلك الهامش القانوني للأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث وغيرها من حقوق مدنية).

هذا النظام الإسلامي القديم شكل تقليدياً ذلك الوعاء الدستوري (الفقهي) الذي اعتمد على مراحل متخالفة ليكون قاعدة للتعاقد بين الدولة الجامعة (الكلية) والرعايا في محيطها أو إطارها الجغرافي. ونجح النظام المللي والنحلي في ضبط نوع من علاقات المصالحة بين المركز والأطراف وبين الأكثرية والأقليات. وفي فضاء هذه الدولة الممتدة شهد التاريخ الإسلامي سلسلة متغيرات في القوة القائدة للسلطة من القبيلة والعصبية العربية إلى العائلات (بني بويه) والأقوام (السلاجقة) وصولاً إلى الدولة الزنكية (نور الدين محمود) والدولة الأيوبية (صلاح الدين الكردي التكريتي) وبعدها دولة المماليك والسلطة العثمانية إلى أن تحطم الشكل الدستوري وتناثر تحت ضربات استعمار العصر الحديث والحاجة إلى نشوء الدولة الوطنية المعاصرة في عشرينات القرن الماضي.

فشل الدولة الحديثة التي تأسست على أنقاض القديمة لا يعطي ذريعة للعودة إلى الأصول الطبيعية للبشر والارتداد إلى طور ما قبل التعدين السياسي (الدولة) لأن التاريخ يتقدم ولا يتقهقر حتى لو توافرت المبررات لاتخاذ مثل هذه الخطوة. فالخطوة ضد منطق التطور الموضوعي لعلاقات البشر باعتبار أن سياسة الانكفاء (الانفصال) تأتي في سياق عوامل خارجية (غزو واحتلال) وتفتقد إلى آليات تتشكل من داخلها إرادة واعية في التعامل مع المصالح العليا والمشتركة التي تضمن حقوق كل الجماعات الأهلية في بلاد الرافدين.

المشكلة أخطر من الارتداد إلى ما قبل الدولة لأنها في منطقها الذاتي تدفع العلاقات إلى دمار أهلي قد يضع العراق على حافة شفير حرب تعود بالجماعات حتى إلى ما قبل نظام الملل والنحل. فالنظام الإسلامي التقليدي أعطى الفرص لنمو الفرق الأهلية وصان حقها في البقاء الذاتي وصولاً إلى تبوء موقع القوة القائدة للسلطة في إطار مرجعية مركزية تمثلت في الخلافة كما كان عهد دولة صلاح الدين وغيره.

الأصل كان عدم التمييز وإنما تشكيل قاعدة دستورية (فقهية) مشتركة توحد الجماعات في إطار مظلة المركز والحفاظ في الآن على التنوع والتعدد وإعطاء حق النمو وصولاً إلى أخذ زمام المبادرة وقيادة الدولة ميدانياً. المشكلة الظاهرة عيانياً في العراق تبدو وكأنها تدفع بالجماعات إلى قعر تاريخي أقدم زمنياً من ظهور الدعوة الإسلامية وتشكل هيكلية الدولة... أي إلى مرحلة إعادة فرز الملل والنحل والفرق إلى تشكيلات سياسية متفرقة ومتباعدة ومنسجمة مع الأصول الطبيعية للبشر (المواد الأولوية).

وفي حال حصل هذا الأمر يكون العراق دخل سياسياً مرحلة الخواء التاريخي الذي يرفض المصالحة مع التقدم والتطور ويصر على التقهقر إلى ما قبل عصر نشوء الدولة وما طرأ عليها من تعديل وتعدين وتصنيع.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3020 - الأحد 12 ديسمبر 2010م الموافق 06 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • مواطن مستضعف | 2:01 ص

      المعادلة التركية

      استقلال اقليم كردستان العراق معناه:
      "حرب تركية" مفتوحة!!

اقرأ ايضاً