العدد 3029 - الثلثاء 21 ديسمبر 2010م الموافق 15 محرم 1432هـ

المنتدى العالمي الرابع للدراسات الصينية: الفكر والممارسة (2-2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

لن نتناول تفاصيل مؤتمر علمي، عقد اجتماعات مكثفة على مدى ثلاثة أيام في جلسات عدة متوازية طوال هذه الأيام لكثرة البحوث والدراسات التي قدمت ونوقشت فيه، ولكن يهمنا أن نشير إلى عدد من الملاحظات ذات الأهمية والدلالة:

الأولى: حرص الصين على التعرف على رؤية الباحثين من مختلف دول العالم على ثقافتها ونموذجها التنموي والاجتماعي، ومن ثم مساعدتها على تطوير فكرهم وتصوراتهم عن الصين والحد من انحيازهم ضدها، وهذا الاهتمام بالمتخصصين في الشئون الصينية له عدة فوائد للصين من ناحية، وللدارسين الأجانب من ناحية أخرى. ذلك لأن عملية التفاعل الفكري يثري أطرافها بعضهم بعضاً، وكذلك مهما بلغ باحث في تخصصه فهو لا يستطيع أن يستوعب فكر وثقافة ومفاهيم أهل تلك الثقافة المتخصصين في دقائقها، ومن ثم فإن مثل هذا اللقاء يساعد في توضيح بعض المفاهيم الغامضة ذات المعاني الدقيقة.

الثانية: الحرص على تكريم العلماء والباحثين الذين أفنوا سنوات من عمرهم في البحث والتنقيب ودراسة الحضارة الصينية، وهذا التكريم يعزز من قيمة أبحاث هؤلاء، ويجعلهم يشعرون بأن ما قاموا به يستحق الاهتمام، وأن جهادهم العلمي موضع تقدير. ومن مناقشاتي مع عدد من هؤلاء المتخصصين في الشئون الصينية لمست أن بعضهم له انتقادات عدة ضد تلك الثقافة أو ضد النظام السياسي الراهن في الصين، ورغم كل ذلك لم ينظر إليهم منظمو المؤتمر نظرة سلبية، بل حرصوا على دعوتهم ورعايتهم والدخول في حوارات معهم.

الثالثة: ان المناقشات في المؤتمر كانت حرة بلا أية قيود، ووجه البعض انتقادات للتجربة الصينية ولم يغضب الباحثون الصينيون أو المنظمون للمؤتمر، بل تحاوروا مع الجميع بفكر وعقل منفتح عندما تحدث البعض عما أسموه التهديد الصيني أو الأنانية الصينية في بحثها واستيلائها على الموارد الطبيعية في دول إفريقية ونحو ذلك.

ولعلني أتذكر الآن واقعة ذات دلالة وهي النقد الشديد الذي وجهه رجب طيب أردوغان للصين في تعاملها مع أحداث شينجيانغ منذ عامين، ولكن خلال هذين العامين تطورت علاقات الصين بتركيا ودخلوا في علاقات استراتيجية، ولم تقطع تركيا علاقاتها بالصين ولا قطعت الصين علاقاتها مع تركيا رغم تبادلهما النقد الشديد، ولكن سرعان ما تغلب العقل على العاطفة والمصلحة على المشاعر. ولعلني أشير إلى واقعة مشابهة في علاقات تركيا مع إسرائيل عندما غضب رئيس الوزراء التركي بسبب الأعمال الوحشية الإسرائيلية في غزة ومع أسطول الحرية وبخاصة السفينة التركية، ولكن عندما وقعت الحرائق في إسرائيل خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2010م، كانت تركيا من أوائل الدول التي أرسلت طائرات عمودية لإسرائيل، ولم تقطع علاقاتها بها خاصة في المجالات العسكرية والاستراتيجية رغم كل الانتقادات المتبادلة، ما هو المغزى من وراء ذلك؟ إنه يوضح أن السياسة مصالح وليست انفعالات، وان الانفعالات منطقية ولها رسالة تحملها وهي التعبير عن المشاعر، ولكن الذي يحكم علاقات الدول على المدى البعيد هو المصالح، والفكر الاستراتيجي هو الذي يبلور تلك المصالح ويحدد الأولويات ويطور آليات التعامل مع الدول.

وما أحرانا في العالم العربي أن نتعلم قليلاً من الصين أو من تركيا أو غيرها من الدول ذات الرشد في الفكر والسلوك السياسي.

الرابعة: ان إلقاء نظرة على سلسلة المؤتمرات التي عقدت في إطار أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية وبالتعاون مع بلدية شنغهاي ومع وزارة الإعلام الصينية يلمس أن موضوعاتها حتى الآن كانت تدور حول: التعايش، الوفاق، التناغم والنمو المشترك، والتكامل بين الصين والعالم، وعلى حد قول وزير الإعلام الصيني «إن الصين هي الدولة الوحيدة في العالم التي اعتنقت الإسلام منذ عهد كونفوشيوس».

والفكر الصيني الحديث له هدف محوري وهو نقل رسالة للعالم وتأكيدها مراراً وتكراراً أن العالم لابد أن يعيش معاً في وئام ووفاق؛ لأن الخطر يتهدد الجميع، والتعاون هو المخرج من الأزمات، والحوار هو أداة التعامل بين الأمم والشعوب. السؤال الآن، هل هذا الفكر الصيني يعبر عن سذاجة علمية وسياسية؟ نقول لا، إذ إن الصين تدرك أولوياتها وتعرف ما يفكر فيه العالم نحوها، وما يردده حول تهديداتها القائمة أو المحتملة، والصين تحرص على تهدئة مثل هذه الأفكار وردود الأفعال المرتبطة بسياساتها الاقتصادية وتطورها التنموي، ولذلك تركز على ما يسمى بالصعود السلمي للصين، وعلى ضرورة حل المشاكل بالحوار وليس بالاقتتال. والصين تدرك ركائز قوتها، وأن أهدافها سوف تتحقق من خلال السلام، وأنها في حاجة لذلك لتركيز مواردها للتنمية، وان قوتها عندما تتحقق ستكون كفيلة بتحقيق احترام الآخرين لها واستجابتهم لمطالبها. وان البعض يعمل ضد الصين ويسعى لتوريطها في مغامرات لاستنزاف مواردها، وهي ترفض ذلك بقوة. والدرس والعبرة هنا هو أهمية إيمان القيادات والكوادر بالمبادئ والأهداف والأولويات والوسائل والعمل في ضوئها.

الصين تأخذ موقفاً قوياً ضد اليابان عندما يختلفان حول قضايا تراها جوهرية، ولكنها لا تهدد بالحرب أو العنف، وإنما تتحاور، ونفس الشيء مع تايوان، ونفس الشيء مع الولايات المتحدة ومع فرنسا وغيرها من الدول، اختلافات في الرؤى والمصالح، ولكن الحوار هو الطريق الكفيل بالتعامل مع الخلافات، والحوار لابد أن يعتمد على عناصر القوة، وهذه لن تتحقق إلا بالرؤية الاستراتيجية وبالقيادة وبالكوادر وبالعمل والإنجاز، وليس بالشعارات العنترية عن الحرب والنضال والمقاومة وهي شعارات لا مردود فعلي لها على أرض الواقع.

لقد أشار الرئيس الفرنسي ساركوزي في لقائه مع الرئيس الصيني خو جنتاو والذي كان يزور فرنسا في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2010م، إلى «أن العالم ينتظر الصين لكي تضطلع بالمزيد من المسئوليات على المسرح الدولي». إن هذا دليل على القوة الصينية المتصاعدة واعتراف العالم بذلك، ومع هذا لاتزال الصين تقول إنها دولة نامية، وإن أمامها العديد من المشاكل لكي تحلها حتى يمكن أن تتقدم.

الخامسة: ان مؤتمر الدارسين والخبراء في الشئون الصينية يستحق العديد من المقالات، ولكن الأهم هو مغزى تعامل الصين مع العلم والعلماء ومع ثقافتها. وهناك تجربة أخرى رائدة وهي المؤتمرات التي تعقدها الصين بخصوص لغتها وتطويرها والحفاظ عليها.

ولقد كتبت مقالاً عن ذلك منذ أكثر من 15 عاماً وأبديت الأسف الشديد على حال اللغة العربية لدى أبناء الضاد وتطويرنا للهجات المحلية في الراديو والفضائيات، مما يخشى منه تراجع فهمنا للغة العربية التي هي الرابط الرئيسي بيننا، في حين الصين تعقد المؤتمرات الدولية المستمرة للحفاظ على لغتها (الماندرين) وتعزيزها في الفضائيات والدراسة بمراحلها المختلفة، وهم أكثر من 1.3 مليار نسمة، ونحن ندعو لتطوير لهجات محلية لمجموعات صغيرة في بلادنا حتى نعزز تفككها.

هذا لا يعني أن نمحو أو نقضي على اللهجات المحلية بل أن نعمق فهمنا وإدراكنا للغة المشتركة مع الحفاظ على اللهجات والثقافات المحلية في إطارها الصحيح دون زيادة. والصين تفعل ذلك، فهي تحافظ على تراث بضعة آلاف من السكان وتقول إن لديها 56 قومية، وبعض هذه القوميات لا تزيد عن بضعة آلاف ومع ذلك تحافظ لها على تقاليدها وتراثها وعاداتها، وتستفيد من ذلك في إبراز التنوع في وطنها وحضارتها وثقافتها.

وقد ابرز أحد العلماء المشاركين في المؤتمر أن الصين هي الدولة الأولى في العالم التي تحولت من حضارة إلى دولة حضارية، بخلاف الحضارة الغربية أو الإسلامية التي تحولت من حضارة إلى عدة دول، وهذا كله يرجع الفضل فيه للثقافة واللغة والتاريخ ووعي الأفراد، فاللغة كما ذكر أحد الباحثين الصينيين في المؤتمر هي «قلب وعقل الشعب» ولهذا ركز العالم والفيلسوف الصيني كونفوشيوس على التعليم باعتباره أساس التقدم والحضارة، وهو هنا يختلف عن الحضارة الغربية إذا إنه جعل الإنسان أولاً وليس السوق أولاً.

إن القوة المجتمعية الجماعية Collective Force تدفع للتقدم لأنها تستند على أربع ركائز: الشعب والأرض والتاريخ والثقافة، والصين دولة موحدة منذ قيام الأسر الصينية العام 221 قبل الميلاد، وابرز الباحثون الصينيون أن تواصل النخب السياسية والفكرية مع المجتمع يحقق التقدم، في حين أن انفصال هذه النخب يثير الإشكاليات. وشبه بعضهم المجتمع الصيني بأنه يعتمد على ثلاث طبقات Layers هي السماء وتعبر عنها الدولة، والبشر ويعبر عنهم المجتمع، والأرض ويعبر عنها الأفراد، وان التفاعل بين الطبقات الثلاث هو أساس تماسك المجتمع وتقدمه، وهذا يجعل فهم الصين ليس أمراً سهلاً. وأبرز آخرون أن الصين تعيش تاريخها الفعلي وهو تاريخ حاضر وليس تاريخاً انتهى وباد China is a living long history and not a dead history وهذا يعني أن الممارسة العملية وليس النظرية فحسب هي أحسن سياسة على حد قولهم Practice is the best theory in life and Politics.

أفكار كثيرة في السياسة والمجتمع والثقافة والاقتصاد وفي العولمة والسياسة الداخلية، والنظام السياسي، والسياسة الدولية ومفاهيم السيطرة والهيمنة والوئام وإصلاح النظام الدولي وحقوق الإنسان وغير ذلك مفاهيم عديدة وأفكار متنوعة طرحها المفكرون والباحثون والخبراء بحرية وانطلاق وبلا تردد أو خوف واستمع لها الخبراء والباحثون الصينيون بأدب وتحاوروا مع أقرانهم باحترام واختلفوا معهم بلا حساسيات واتفقوا معهم بلا إحساس بالدونية ذلك كله حدث في المؤتمر الرابع للدراسات الصينية في شنغهاي. وذلك كله هو أحد الأسرار الكبرى لنهضة الصين وصعودها ومعجزتها التي تحدث عنها العالم بإعجاب حيناً وبخوف حيناً آخر، والصينيون صاعدون بتواضع وبلا خيلاء.

السؤال الذي نطرحه للتعلم من التجربة الصينية، كما دعانا لذلك النبي الكريم في القول المأثور «اطلبوا العلم ولو في الصين»، حول أهمية احترام التعدد الثقافي والديني والعرقي. وهذا التعدد تطرحه الصين لحضارتها، ونحن في العالم العربي، نرفض التعدد السياسي، كما نرفض التعدد والتنوع الديني أو الطائفي، رغم أن ذلك هو أحد سنن الله في الكون ونحن نعمل ضد ذلك، خذ النموذج الراهن بخروج المسيحيين العرب من العراق أو فلسطين أو لبنان أو غيرها، والانقسامات في الدولة الواحدة على أساس العرق أو اللغة أو الطائفة أو الدين، بدلاً من التلاحم وإتاحة الفرصة للتنوع واحترامه، لأنه يؤدي لقوة الدولة وتماسكها. إن ما ينبغي أن ندركه كعرب وكمسلمين أن الله خلقنا متنوعين ومختلفين للتعارف والتعاون والبناء والعمران، ولم يخلقنا لعقيدة واحدة أو دين واحد أو طائفة واحدة أو عرق واحد. ولعل أبلغ دليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)». (سورة هود).

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3029 - الثلثاء 21 ديسمبر 2010م الموافق 15 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً