العدد 3045 - الخميس 06 يناير 2011م الموافق 01 صفر 1432هـ

استشهاد الصديق وقرار العزلة

ابن خلدون بين السياسي والثقافي (6)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ترك الحادث الأليم صدمة في حياة ابن خلدون قرر على إثرها الانقطاع عن العالم. فالصداقة المقموعة انفجرت عزلة احتجاجاً على قتل (استشهاد) الوزير المثقف. فابن خلدون وابن الخطيب ينتميان إلى صنف الأذكياء. وصفة الذكي أنه يُخضِع خلافاته الشخصية ويضعها في إطار موضوعي يحافظ على مسافة تحترم الآخر ولا يكسر العلاقة بشكل نهائي. إلى صفة الذكاء ينتمي ابن خلدون، كما هو حال ابن الخطيب، إلى عائلة سياسية ذات جاه. وإذا شغل ابن الخطيب منصب الوزير في حضرة سلطان غرناطة فإن ابن خلدون طمح إلى شغل مثل ذاك المنصب ونجح في الأمر في ولاية بجاية. وكما خسر ابن خلدون منصبه بانقلاب خارجي حصل الأمر نفسه لابن الخطيب من طريق انقلاب السلطان عليه.

ما يجمع ابن خلدون بابن الخطيب أكثر بكثير مما يفرق بينهما لذلك احتفظا بالصداقة على رغم خلافهما واختلافهما واستمرا يتراسلان ويشكوان بعضهما بعضاً ويتحدثان عن مشاغلهما وشئون عصرهما في وقت كان كل منهما يفكر في كتابة تاريخه. المؤرخان يجمعان صفات رجل الدولة ورجل السياسة ورجل العلم، وكانا على سوية عالية من الثقافة والاطلاع والمعرفة. وإذا ساقتهما الأقدار إلى الافتراق إلا أنهما استمرا يتصلان وتكشف رسائلهما عن عمق معرفتهما بصعوبات المرحلة ممزوجة بوعي تاريخي لتعقيدات الفترة التي عاينها كل طرف من جانبه.

تراوحت العلاقة بين الرجلين في سياق من التوتر المحكوم بالاحترام المتبادل. فالصداقة لم تنقطع بل أدرجت في إطار وعي كل منهما لتجربته الخاصة وإخضاع تلك التجربة المرة لوقائع التاريخ وأحكامه. وتشبه عودة ابن خلدون لماضي المغرب عودة ابن الخطيب لماضي الأندلس. فالعودة إلى الماضي ليست هرباً من فشل الحاضر وانسداد آفاق التقدم أمامهما بل هي عودة حاضرة تحاول استكشاف معالم الأجوبة واستقراء منطقها التاريخي واستعادته لمعرفة قوانين الحاضر. فالعودة لم تكن مجرد يأس من حاضر لا أمل منه ولا شفاء من أمراضه بل كانت أيضاً عودة واعية لقراءة تلك التجارب التاريخية المتراكمة واستخلاص عبرها ودروسها لفهم الماضي ووعي حركته. الماضي عندهما هو حاضر يعيد إنتاج نفسه لتركيب رؤية جديدة لعالم متغير وغير مستقر اضطربت فيه العلاقات وعصفت به الحوادث دافعة الأدنى إلى أعلى وطارحة الأعلى على هامش الزمن تلاحقه العثرات والمؤامرات.

بعد استشهاد الصديق المثقف والوزير المؤرخ حسم ابن خلدون قراره وانتقل من حياة القلق والاضطراب إلى طلب الهدوء والسكينة والانقطاع عن العالم والانزواء في قلعة ابن سلامة في العام نفسه (776 هـ /1374م).

التبس قرار ابن خلدون الانقطاع عن العالم بعد استشهاد صديقه المؤرخ عند بعض الباحثين المعاصرين. فهناك من يعتبر أن صاحبنا دخل مثل صاحبه ابن الخطيب في فترة عزلة تشبه اعتزال المتصوفة. حتى أن بعض الباحثين يرى أن ابن خلدون ألف كتابه «شفاء السائل» المنسوب إليه قبل أن يعتكف ويبدأ بتأليف المقدمة.

يوافق الباحث علي أومليل في كتابه «الخطاب التاريخي، دراسة لمنهجية ابن خلدون» على ما ذهب إليه ابن تاويت الطنجي في مقدمته لكتاب «شفاء السائل» حين يؤكد أن صاحب «الشفاء» هو ابن خلدون وليس منحولاً باسمه وأنه كتبه في الفترة الفاصلة بين 774 و776 هجرية. ويميز أومليل صوفية صاحب المقدمة عن غيره من أهل التصوف فهو «معتدل وسني» ويعتمد على مصادر متوازنة وعاقلة في تصوفها مثل المحاسبي والقشيري والإمام الغزالي صاحب «إحياء علوم الدين» إلى كتاب صديقه ابن الخطيب «روضة التعريف». وعلى رغم أن أومليل يرى أن ابن الخطيب «كانت حياته ومزاجه أبعد عن التصوف - شأن ابن خلدون نفسه - ومع ذلك فكلاهما وضع كتاباً من أجود ما كتب في التصوف» (ص 187 - 188).

يستبعد أن يكون كلام أومليل دقيقاً خصوصاً من ناحية تحديد الفترة الزمنية التي يقول إن ابن خلدون وصديقه ابن الخطيب دخلا فيها في حالات صوفية. صحيح أنهما أكثرا الكلام عن الزهد والتعبد والتقشف إلا أنه جاء في سياق الاعتراض على وضع سياسي زادته قنوطاً ضغوط «أهل السعايات والوشايات». فهو كلام احتجاج على السياسة وانقلاب الأوضاع وتبدل الأحوال والأجيال وتسجيل موقف ضد الانتهازيين والوصوليين ومحاولة الابتعاد عن جو الفساد والتفرغ للعلم والفكر. فالاحتجاج وصولاً إلى اعتزال السياسة ليس دليلاً على نزعة صوفية. كذلك تأليف ابن الخطيب كتابات من نوع «في محبة الله»، الذي يستشهد به ابن خلدون في مقدمته في فصله عن علم التصوف، ليس دليلاً إضافياً لإثبات الفترة الزمنية التي يقال إن ابن خلدون تحول فيها إلى التصوف الاجتماعي. فالكتابة في موضوع معين لا تعني أن الكاتب انحاز إلى موضوع كتابه. فهناك دائماً هامش من الاستقلال بين الكاتب وموضوع كتابته، خصوصاً في حقل شائك من نوع التصوف. فحجة الإسلام أبوحامد الغزالي (توفي 505 هجرية) يقول في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهو أشبه بمذكرات شخصية ومن آخر ما كتبه، عن التصوف أنه يتم «بعلم وعمل» والعلم أسهل من العمل لأن من خواص التصوف «ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات» وأهل التصوف هم «أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال» (ص 77 - 79).

ربما كتب ابن خلدون «شفاء السائل» وربما لا، إلا أن ظروف كتابته كانت بحثية (نظرية) وليست حياتية (عملية). ففي تلك الفترة تركز تفكيره على التاريخ ومحاولة اكتشاف قوانينه وآلياته. فالمقدمة التي كتبها في فترة اعتزاله في قلعة ابن سلامة لا تكشف عن ميول صوفية. ولا يمكن أن ينتابه عارض الصوفية (الممارسة) في سنتين ثم يتبخر في أقل من سنتين إلى درجة لا نجد له أثراً في مقدمته. لذلك يرجح أن تكون حالات من التصوف (الزهد) طرأت في حياة ابن خلدون وليس تفكيره في فترة متأخرة عندما انعزل مراراً وانقطع تكراراً في مصر بعد انتقاله إليها وتعرضه إلى مصاب كبير إثر غرق أهله في البحر وهم في طريقهم إليه.

نفي حالات التصوف عن ابن خلدون في الفترة التي سبقت تأليفه «المقدمة» لا يعني أنه لا يعرف علوم التصوف. فمعرفة العلم شيء وممارسته مسألة أخرى خصوصاً أنه اعتبر التصوف في مقدمته «من العلوم الشرعية الحادثة في الملة» (راجع فصل علم التصوف). وهو يرى أنه جاء رداً على «الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة» (المقدمة، ص 514). ثم يضع التصوف في سياق القضايا الخلافية عندما صنَّف خلافات أهل العقائد إلى أربعة تيارات، فهناك «علماء الحديث والفقه ان الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل. ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: أما بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى أنه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً» (المقدمة، ص 517 - 518).

يتوافق رأي ابن خلدون في «المقدمة» مع رأي الغزالي في «المنقذ»، خصوصاً في مسألة نقده للمتأخرين «من الصوفية المتكلمين في الكشف وفي ما وراء الحس (...) فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة» (المقدمة، ص 521) فرأي ابن خلدون يتطابق مع نقد الغزالي لطوائف الحلول والاتحاد والوصول التي انتشرت في مدارس الصوفية.

لم يأتِ قرار ابن خلدون بالانقطاع عن العالم السياسي لدوافع صوفية أو فجأة وكرد فعل على مقتل صديقه المؤرخ. فصاحبنا أعرب مراراً عن رغبته بالاعتزال والتفرغ للعلم والفكر وكتابة مشروعه التاريخي إلا أن حادث مصرع ابن الخطيب في السجن كان الدافع الحاسم في القرار الذي تردد كثيراً في اتخاذه. وجاءت المناسبة لتعزز الرغبة وتحولها إلى قناعة ثابتة... ما أعطى فرصة لتدوين كتاب تأسيسي لا مثيل له في المكتبة الإسلامية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3045 - الخميس 06 يناير 2011م الموافق 01 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً