العدد 3052 - الخميس 13 يناير 2011م الموافق 08 صفر 1432هـ

ابن خلدون يكتب مقدمة على نحو غريب

الانقطاع عن العالم والخروج من العزلة (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شكل حادث مقتل المؤرخ الوزير ابن الخطيب نقطة تحول في حياة ابن خلدون وشجعت الصدمة النفسية صاحبنا إلى حسم خياره والانقطاع عن العالم والتفرغ للعلم، فتهرب من اتصالات السلطان أبو حمو وهرب من مهمة تأليف قبائل الدواودة التي كلفه بها صاحب تلمسان ولجأ إلى إحياء أولاد عريف، وهناك «انزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة من بلاد بني توجين التي صارت لهم بإقطاع السلطان» (التعريف، ص 550).

سكن ابن خلدون، وكان في 44 من عمره، في قصر أبو بكر بن عريف و«كان من أحفل المساكن وأونقها» وشيده ابن عريف في ذاك المكان... وانكب على العلم وأهمل كتابة الشعر ونحله وأقام في القلعة أربعة أعوام «متخلياً عن الشواغل كلها، وشرعتُ في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب» (التعريف، ص 551).

نفهم من كلامه أنه سكن في قصر (مع أهله وولده) وانكب على القراءة والتأليف في قلعة (ابن سلامة) قرب القصر. كذلك نفهم أنه قضى أربع سنوات «في تأليف هذا الكتاب». لم يذكر اسمه. كذلك أكمل كتابة المقدمة على «نحو غريب».

ويكرر ابن خلدون الكلام نفسه بعد فقرة حين يقول «ثم طال مقامي على تأليف هذا الكتاب، وقد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزنانة» (التعريف، ص 551).

فجأة قرر مغادرة القلعة وترك قصر بن عريف، ويعطي صاحب المقدمة تفسيرات مختلفة لموقفه الجديد يمكن اختصارها إلى نقاط ثلاث، وهي:

أولاً، نقص في أنواع معينة من الكتب، إذ «تشوقت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار».

ثانياً، النقص في مصادر المعلومات التاريخية لبحثه الطويل «بعد أن أمليت الكثير من حفظي وأردت التنقيح والتصحيح».

ثالثاً، مرضه الشديد «ثم طرقني مرض أوفى بيّ على التيه لولا ما تدارك من لطف الله».

بسبب المرض الذي شفي منه، وخوفه من الموت وحيداً، إلى نقص المراجع وضعف المصادر، قرر ابن خلدون الاتصال بسلطان تونس أبو العباس والعودة إلى بلاده «حيث قرار آبائي ومساكنهم وآثارهم وقبورهم» (التعريف، ص 551).

لكن فكرة المغادرة طرأت بعد الشفاء من المرض والانتهاء من تأليف المقدمة وأخبار العرب والبربر وزنانة وأراد أن ينقح معلوماته ويصححها ويقارنها بمؤلفات غيره ليضبط تواريخها وتتابعها الزمني، لأنه اعتمد كثيراً على ذاكرته. فالدافع إلى المغادرة ليس المرض، بل الوحشة ومتابعة مشروعه.

بادر ابن خلدون بالاتصال ووجه خطاباً إلى سلطان تونس يطلب منه «الفيئة إلى طاعته والمراجعة» وانتظر الجواب فترة غير طويلة و«إذا بخطابه وعهوده بالأمان والاستحثاث للقدوم» (التعريف، ص 551). واستعد للعودة بمساعدة أولاد عريف مع عرب الأخضر من بادية رياح. وارتحل من قلعة ابن سلامة في سنة 780 هـ/ 1378م (عمره 48 سنة) وسلك «القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب»، ثم صعد مع حاشية يعقوب بن علي التقاها في ضيعة الفرفار ورحل معها إلى أن نزل في ضاحية قسنطينة التي كانت بأمرة إبراهيم ابن سلطان تونس و«أذن لي في الدخول إلى قسنطينة وإقامة أهلي في كفالة إحسانه، بينما أصل إلى حضرة أبيه» (التعريف، ص 551).

كان سلطان تونس آنذاك في مهمة، إذ خرج معه عساكره «إلى بلاد الجريد» بعد أن قام شيوخها بثورة (فتنة) وانتظر ابن خلدون في بلدة سوسة فالتقاه ووافق على عودته إلى تونس ووفر له المنزل و«الكفاية في الجراية» و«جزيل الإحسان» وكان ذلك في السنة نفسها التي غادر بها قلعة ابن سلامة.

أوى «صاحب المقدمة وأخبار العرب والبربر والزنانة» إلى «ظل ظليل من عناية السلطان وحرمته» وأرسل يستقدم الأهل والولد (زيد) و«جمعت شملهم في مرعى تلك النعمة» (التعريف، ص 552).

في تلك الفترة نجح سلطان تونس في قمع فتنة بلاد الجريد واخضع أمصارها وقسم أرزاقها بين أولاده «فأنزل ابنه محمد المنتصر بتوزر، وجعل نفطه ونفزاوة من أعماله، وانزل ابنه أبا بكر بقفصة» وعاد إلى تونس «فأقبل عليّ واستدعاني لمجالسته والنجي في خلوته» (التعريف، ص 552).

حتى هنا تبدو الصورة واضحة في ذهن ابن خلدون، فروايته لتتابع الحوادث وذكرياته متماسكة ولا نجد فيها ثغرة. فهو كتب مذكراته بعد أن تجاوز السبعين من عمره ومر على تأليف مقدمته وتاريخه نحو 28 سنة. ربما الفارق الزمني بين الكتابين (المقدمة والتعريف) يعطيه بعض العذر في التشويش الذي حصل في معلوماته والإرباك الذي وقع فيه لتفسير خلافاته مع بطانة سلطان تونس.

سنلاحق ابن خلدون فقرة فقرة لنكشف سر الإرباك ومعرفة المدة الزمنية التي استغرقتها كتابة المقدمة وتاريخه، كذلك الفترة الزمنية التي انجز فيها عمله الضخم، حتى نستطيع أن نحكم على صحة معلوماته المشوشة ونحدد قدر الإمكان أسباب ذاك الإرباك.

استقر ابن خلدون إذاً مع أهله وولده في تونس برعاية سلطانها الذي عطف عليه وأحبه وأخذ يقربه في مجالسه، الأمر الذي أثار عليه البطانة وأهل السعايات.

نترك مسألة خلاف ابن خلدون مع «إمام الجامع وشيخ الفتيا محمد بن عرفة» قليلاً لنلاحق قصة تأليفه المقدمة وكتابة تاريخه، ونعود بعدها إلى تفسير خلافه مع المفتي ابن عرفة.

يقول ابن خلدون إن السلطان رفض الاستجابة لكلام الوشاية ضده، بل أنه «كلفني بالاكباب (الانكباب) على تأليف هذا الكتاب لتشوقه إلى المعارف والأخبار واقتناء الفضائل، فأكملت منه أخبار البربر وزنانة، وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إليّ منها، وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته» (التعريف، ص 552).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3052 - الخميس 13 يناير 2011م الموافق 08 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً