العدد 3066 - الخميس 27 يناير 2011م الموافق 22 صفر 1432هـ

تأثر ابن خلدون بفقه الغزالي

الانقطاع عن العالم والخروج من العزلة (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لا يشير ابن خلدون إلى نقطة مهمة في كتاب (التعريف) وهي التطور الفكري الذي حصل عنده وانتقاله من مدرسة «شيخ العلوم العقلية» أستاذه الأول الأبلي إلى مدرسة صاحب كتاب (احياء علوم الدين) الإمام أبوحامد الغزالي.

حتى نفهم الخلاف بين صاحب المقدمة و«شيخ الفتيا» في تونس (ابن عرفة) علينا أن نتجاوز قليلاً تكرار ابن خلدون كلامه عن مؤامرات «بطانة السلطان» و«أهل السعايات» ضده. فالمشكلة بينهما ليست من هو أقرب إلى السلطان بل هي أساساً مسألة فكرية واختلاف تصوراتهما وتناقض وجهات نظرهما. فصاحبنا تطور فكره وانتقل خلال فترة اشتغاله بالسياسة والعلوم من جانب شيخ «العلوم العقلية» إلى جانب شيخ الفقه وعلوم الدين الإمام الغزالي. فابن خلدون بعد خروجه من قلعة ابن سلامة كان قد تحول إلى مفكر أصولي تجاوز كثيراً حدود علومه الأولى ومعارف أستاذه الأول (الأبلي) وأصبح في الضفة الأخرى من الجدل الدائر بشأن إمكانات التوفيق بين الشريعة والحكمة.

لا يطلعنا ابن خلدون على تطوره الفكري لا في المقدمة ولا التعريف ولا يشير إلى انتقاله من منهج إلى آخر. وبسبب النقص المذكور سيبقى تحليلنا افتراضياً يعتمد على دلائل نصية يمكن أن نستقي منها المعلومات.

يبدو أن صاحبنا تأثر كثيراً خلال انقطاعه بالسجالات والمناقشات التي قام بها الفقهاء وعلماء الأصول للفلسفة اليونانية. واكتشف في تلك السجالات والمناقشات فلسفة مستقلة عن العقل اليوناني وما ترجم عن أفلاطون وأرسطو وغيرهما. وأصابته الدهشة عندما لاحظ مستوى المحاججة التي أقدم عليها إعلام تيار الفكر الإسلامي لتمييز نفسه عن مختلف المدارس التي خلطت بين الفلسفة كآلة تفكير وبين المحمول الثقافي المضطرب بين العقل والنقل.

بسبب ذاك التأثير انتقل ابن خلدون من مرحلة الدهشة بأستاذه إلى تجاوزه والانقلاب عليه وتحول من معجب بأفكار المنطق اليوناني إلى معجب بالمنطق الإسلامي وسلاحه العقيدة. لكن انتقال ابن خلدون لم يكن من النوع العادي إذ لم يحاول تقليد من سبقه فاتجه نحو تأسيس علم مختلف وجد عناصره الأساسية في التراث الإسلامي.

كان العلماء والفقهاء قد انطلقوا بالرد على الفلاسفة اليونانيين وأنصارهم من نظرية الشك واستخدموا أدوات التحليل وآلات التفكير نفسها لنقض نظرية الشك بالإيمان ومن ثم تأسيس أدوات تحليل وآلات تفكير جديدة. وتراكمت السجالات والنقاشات إلى أن اجتمعت كلها عند الغزالي (توفي 505 هجرية/ 1111م) فقام بغربلتها وتنسيقها والرد عليها مستخدماً نظرية الشك نفسها... لكن الشك بالعقل. فالعقل برأيه قاصر لا يستطيع أن يفسر كل شيء ويستوعب كل شيء. فأضاف للعقل ما هو فوق العقل أو «وراء العقل».

توصل الغزالي إلى ذلك الاستنتاج بعد أن عالج مسائل العلوم وقسمها إلى فرعين: العلوم الضرورية الأولية، والعلوم المكتسبة بالتجارب والفكر، معتبراً أن أشرف أنواع العلم «هو العلم بالله وصفاته وأفعاله» (احياء علوم الدين، الجزء الثالث، صفحة 10).

لا يتوقف الغزالي عند الحد المذكور بل يواصل مشروعه النقدي وفي الآن التوفيقي بين العلمين فرأى أن «كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث» (ص16).

تقوم نظرية الغزالي على قاعدة مركبة إذ إن «كل علم له أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب. فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم» (ص16).

على هذا الفرز بين المعرفة (العلم المكتسب) والجهل يؤسس صاحب احياء علوم الدين الإيمان على ثلاث مراتب:

الأولى «إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض».

الثانية «إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام».

الثالثة «إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين» (ص 17).

آنذاك كان الغزالي متورطاً بالصوفية، التي نجح لاحقاً في تجاوزها، لكنه أكد في أجواء تلك الفترة أن العلوم تنقسم إلى عقلية وشرعية. وبدورها العقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة. وتنقسم المكتسبة إلى دنيوية وأخروية. ويتجه إلى الجمع بينهما وإعادة تركيبهما لأن الداعي «إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فاياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعاً بين الأصلين» (ص19).

ينتهي الغزالي إلى أخطر نتيجة كان لها أثرها في إطلاق أكبر حركة إحيائية للدين في القرن السادس الهجري حين يلغي التناقض بين الأصلين معتبراً أن العلوم العقلية في النهاية هي العلوم الشرعية وأن العقل يتطور نحو الشرع ولا يتناقض معه. و«ظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما. فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين، وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقضاً في الدين وهيهات» (ص19).

أثارت أفكار الغزالي ردود فعل متناقضة فهناك من عارضها من العلماء والفقهاء وهناك من وافقها وعمد إلى تطويرها أو تطبيقها فاتجه نحو تركيب العلوم الشرعية وإخضاع العقل للنقد وتطويعه لخدمة الشرع. وساهم الفضاء المذكور في تأسيس مناهج أخذت تتجه نحو التوفيق بين المذاهب السنية فهناك من قام بتركيب الفقه الشافعي مع الفقه المالكي وهناك من وفق بين الفقه الحنفي (أبوحنيفة) والفقه المالكي.

عايش ابن خلدون العصر المذكور وعاش في فضاء المدارس الفقهية المركبة من علمين وتأثر أكثر ما يكون بتلك الاتجاهات التوفيقية التي أخذت تشق طريقها في المغرب والأندلس على المستويين: العلوم العقلية والعلوم الشرعية.

استفاد ابن خلدون كثيراً من فكرة «نقد العقل» أو الشك به لينطلق إلى تأسيس علم البرهان على الموجودات والمحسوسات. فكل ما لا نستطيع أن نبرهن عليه فهو فوق الموجودات الحسية. لذلك لم يتجه ابن خلدون كما فعل الغزالي إلى مناقشة نظرية العقل والبرهنة على ما فوق العقل بل انطلق من نظرية الشك بالعقل (نقده) إلى ما تحت العقل وهو البشر أو العمران البشري. فأصولية الغزالي أصولية عقلانية تبحث في الخلق والخالق وأدلته بينما أصولية ابن خلدون أصولية اجتماعية تبحث في العمران وطبائعه.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3066 - الخميس 27 يناير 2011م الموافق 22 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً