العدد 3069 - الأحد 30 يناير 2011م الموافق 25 صفر 1432هـ

تأمـلات في أحـوال مصـر

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

مصر دولة ذات حضارة عريقة، ولكن هذه الحضارة رغم عراقتها افتقدت لبعض المؤسسات ذات الطابع المدني - شأنها في ذلك شأن كثير من الحضارات القديمة - بل إنها سارت وفقاً للقاعدة القانونية الواقعية، التي تحدث عنها مفكرون كثيرون وسياسيون واقعيون، وهي قاعدة «أن السلطة تنبع من فوهة البندقية»، ولهذا نجد في بعض النظم السياسية بما فيها بعض الدول المسماة ديمقراطية، بعض قادتها كانوا ذوي خلفية عسكرية مثل إيزنهاور في الولايات المتحدة أو معظم قادة إسرائيل أو كان العسكريون هم القوة الفاعلة خلف الواجهة المدنية.

ومصر، عبر تاريخها المتوسط والحديث، كشعب كانت عازفة عن السلطة، أو العمل السياسي، ولهذا فمن المفارقات في السياسة المصرية، أنه بعد الثورة الشعبية ضد نابليون بونابرت والحملة الفرنسية، استطاعت القوى السياسية المدنية الممثلة في شخصيات دينية ومفكرين، بقيادة عمر مكرم نقيب الأشراف آنذاك، أن تفرض إرادتها على السلطة العثمانية في اختيار حاكمها، ورفض الحكام المعينين من السلطان العثماني (الباب العالي)، أصرت على تولية محمد علي قائد الفرقة الألبانية في مصر، وهي فرقة تابعة للجيش العثماني، وفي نفس الوقت رفضت القيادة السياسية والدينية المصرية قادة عسكريين آخرين عينهم السلطان العثماني، كما أن من أبرز الأسر الحاكمة في مصر العصور الوسطى، دولة الممالك البحرية أو البرجية، والتي جاء أعضاؤها كمرتزقة لاستخدامهم في الدفاع عن مصر ثم تحولوا إلى حكام.

تاريخ مصر الحديث منذ ثورة العام 1952 سار على نفس النمط منذ الرئيس الأول محمد نجيب، أو جمال عبدالناصر، أو أنور السادات، أو حسني مبارك.

وكان العسكريون، ليس قادة النظام السياسي فقط، بل هم أعمدته في مناصب وزارية وبرلمانية ومحافظين ورؤساء شركات وغيرها.

وأصبحت القوى المدنية تسير في نفس المسار التقليدي، إنها قوة مهمشة، تابعة للسلطة العسكرية، أو مجرد خبراء وأكاديميين. وساعد في ذلك ثلاثة عوامل:

أولها ضعف السلطة المدنية تقليدياً حتى أن ثورة 1919 بقيادتها الشعبية المدنية الممثلة في حزب الوفد لم تحكم مصر عملياً سوى أقل من عشر سنوات في الفترة من 1923 - 1952 أي أقل من ثلث تاريخ مصر منذ استقلالها حتى ثورة 1952.

ثانيها: طبيعة الانضباط العسكري التقليدي وإتقانهم فن الإدارة.

ثالثها: تشتت الأكاديميين والمثقفين والصراع بينهم على فتات المناصب الوظيفية، وتحلقهم حول السلطان وتحويله إلى شبه إله عن طريق النفاق. ولعلنا نذكر الرواية المشهورة «أرض نفاقستان» للأديب المصري المشهور يوسف السباعي.

الثورات الشعبية في تاريخ مصر قليلة لأن الشعب المصري يتسم بثلاث سمات سيسولوجية سياسية:

أولها: إنه ليس شعباً مسيساً وليس شعباً ثورياً، إنه شعب عامل وعقلاني وواقعي، يحرص على التشييد والبناء، ولا يهتم بالمشاركة السياسية هذا منذ عهد الفراعنة.

ثانيها: إنه شعب صبور في مواجهة الطغيان إيماناً بالحكمة التقليدية لديه «اصبر على جار السوء إما يرحل وإما تأتي له مصيبة تأخذه».

ثالثها: إنه شعب متدين والعقائد الدينية في معظمها عقائد محافظة، وليست ثورية مع استثناءات قليلة. مهما تعرضت الشعوب للاضطهاد، فإن رجال الدين في معظمهم يرددون المقولة التقليدية في الحضارة الإسلامية - وإن لم تقتصر عليها - «سلطان غشوم ولا فتنة تدوم»، هذه الحكمة ارتبطت بعنصرين:

الأول: الحضارة الزراعية، التي قامت حول الأنهار، وضرورة الحفاظ على نظام الري، وتنظيم الزراعة.

الثاني: النظام الطبقي، بوضع القوة الأولى في المجتمعات هم رجال الدين، والقوة الثانية هم العسكريون، وأدنى مستويات القوة هم الطبقة العاملة، بعبارة أخرى المدنيون، وجدنا هذا التقسيم في الحضارة الهندوسية بصورة صارمة في نظام الطبقات المسمى Caste System، ووجدناه في نشوء الحضارة في أي مجتمع، فالقادة العسكريون هم القوة المحركة، ولهذا رفعت الشعوب مفهوم الشجاعة عالياً، واعتبرته من أهم الفضائل والشجاعة ارتبطت بالعمل العسكري.

ولو نظرنا بتأمل للآية القرآنية العظيمة التي تسرد حوار بني إسرائيل مع أحد أنبيائهم عندما طلبوا منه أن يدعو الله أن يرسل إليه حاكماً ملكاً، فأبلغهم أن الله اختار لهم «طالوت ملكاً»، فأبدوا دهشتهم لأن طالوت لم يكن من ذوي المال الكثير، ولا من ذوي الحسب والنسب، فأبلغهم نبيهم المستند العلمي الصحيح لهذا الاختيار «قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» الآية (247) من سورة البقرة، أي القوتين المعرفية والعلمية والقوة البدنية، ولهذا نجد كثيراً من النظم الملكية ترسل أبناءها للأكاديميات العسكرية ليتم تهيئتهم للسلطة.

أقول هذا في إطار التحليل العلمي الموضوعي لأحداث مصر الراهنة، ومناسبة اختيار شخصيات بارزة من المؤسسة العسكرية المصرية أحدهما اللواء عمر سليمان كنائب لرئيس الجمهورية بما يهيئ أن يصبح رئيساً في المستقبل، وثانيهما الفريق أحمد شفيق كرئيس للوزراء، والأول ذو معرفة سياسية عميقة ومتابع لأحوال مصر وسياساتها وعلاقاتها الدولية على مدى أكثر من ثلاثة عقود، والثاني خبرة إدارية تنفيذية، يتسم بالحزم والعزم، ولقد طور مطار القاهرة الدولي، وأطلق لشركات مصر في مجال الطيران العنان، وطور مطارات داخلية عديدة.

مصر في هذه المرحلة في حاجة لشخصيات ذات كفاءة عالية بعد أن حكم المدنيون ورجال الأعمال من خلال الحزب الوطني البلاد، وأفسدوا فيها بصورة كبيرة فاقت التوقعات - ورغم أنني أنتمي للقطاع المدني تأهيلاً وخبرة - ولكن التحليل العلمي هو الذي يحدوني لتوضيح الحقائق بأسلوب موضوعي.

لقد حكم المدنيون مصر قبل ثورة العام 1952 سواء بأحزاب الأقلية أو بالحزب الشعبي الكبير، كما حكم المدنيون الإدارة منذ العام 1952 خلال عهودها الأربعة الماضية، ولكن إنجازاتهم يشوبها الكثير من النواقص للاعتبارات السابقة، إن التكنوقراط هم ذخيرة الوطن وعدته، ولكن التكنوقراطي المنافق الانتهازي، هم كارثة الأوطان، وكان ذلك هو أخطر مآخذ على سياسة مصر الحديثة، ولذلك تراجع الأداء الإداري والاقتصادي والسياسي والفكري، وتراجعت مكانة مصر ودورها رغم وجود كفاءات أكاديمية عالية في أعلى مستويات السلطة.

إن مصر ما بعد 25 يناير/ كانون الثاني العام 2011 ليست مصر قبلها، أو على الأقل هذا ما أرجوه، لقد شعر الشعب بقوته وقدرته على التغيير، ومن ثم فإن أي حاكم سوف يأخذ هذا الحراك الشعبي في حسبانه.

إن ثورة مصر في 25 يناير 2011 صنعتها قوتان، قوة الشباب، وقوة التكنولوجيا الاتصالية، وللأسف القوى المدنية من أحزاب وعمال ومثقفين يكاد يتوارى دورهم خجلاً، بل ان زعيم حزب يساري نشأ شيوعياً تم تدجينه مما يعكس مدى الضعف الايديولوجي والفكري وضعف الشخصية، وحدث ذلك مع معظم النقابات العمالية والمهنية.

إن القيادة الجديدة لمصر هي ضامنة لثلاثة توجهات:

الأول: التوجه الوطني بحماية أمن مصر الوطني لدورها التاريخي في هذا الصدد.

الثاني: التوجه غير السياسي الانتهازي الحزبي.

الثالث: التوجه الديني السليم وليس الانتهازية الدينية ذات النزعات الأصولية المتطرفة أو المراوغة التي عرفها تاريخ مصر باستخدام الدين ستارة للسياسة.

إن المطلوب من القيادة المصرية الجديدة أن تنظر نحو مستقبل مصر على المديين المتوسط والبعيد بأن تحولها إلى دولة تعتمد العلم والمعرفة، وتبني الأمة على أساس التعليم، وثانيها أن تتجنب العودة لسيطرة رأس المال على الحكم. رأس المال له دوره الاقتصادي، ولكن تحوله للسياسة كفيل بإفسادها ونشر الفساد، وتجنب التزاوج بين السلطة الدينية والسلطة السياسية فهو أيضاً أداة للفكر الماضوي غير البناء وغير الواقعي. ولهذا يجب العمل على:

1 - إتاحة الفرصة للعمل السياسي الرشيد والنزيه عن طريق بناء تجربة ديمقراطية سليمة تحدثت عنها ثورة 1952، ولكنها فعلت عكسها عن طريق تزوير الانتخابات، التي أصبحت أضحوكة، وصلت إلى ذروتها في بلطجة الانتخابات، التي قام بها الحزب الوطني الذي ادعى أن له قاعدة شعبية، ولكن ثبت العكس تماماً بعد 25 يناير، إذ تبخر فجأة أمام تيار الشباب المعبر عن القرن الحادي والعشرين.

2 - إتاحة الفرصة للمثقفين الشرفاء ذوي النزاهة دون أن يكون لهم طموحات للسلطة، المثقف هو ناصح للسلطة وليس ممارس لها.

3 - بناء قوة اقتصادية حقيقية تسمح باستيعاب البطالة وإدماج الشباب ثروة البلاد وأساس تقدمها، وتؤدي لزيادة الإنتاج لتعود مصر تعتمد على إنتاجها بدرجة كبيرة وليس على الاستيراد.

4 - بناء جيش قوي حقيقي وصناعة عسكرية حقيقية في عصر أصبحت الحروب تعتمد على التكنولوجيا والمعرفة، وليس على الاستعراضات العسكرية.

5 - بناء ثقافة المواطنة التي تحترم كافة قطاعات المجتمع وتعمق ثقافة حقوق الإنسان والفكر الديمقراطي.

تلك تأملات سريعة وخاطفة في أحوال مصر المعاصرة التي نحبها بأكثر من حب الآباء للأبناء، فهي الوطن، وهي الحصن، وهي الملاذ، وهي أم الدنيا، كما عبر عنها بحق في هذا التعبير الجميل والخالد العلامة عبدالرحمن بن خلدون بعد أن زارها، وعاش فيها بقية حياته، وبعد أن حنكته الأيام والسنون وخبرات العديد من الدول وتجاربها.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3069 - الأحد 30 يناير 2011م الموافق 25 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 8:49 ص

      شعر/ أحمد فؤاد نجم

      واصحى يا جندى
      يا تار الشهدا
      عمى وخالك
      اختى واخوك
      لجل ما تهدا وتارك يهدا
      فرغ نارك ف اللى خانوك
      يابن الشعب يا حامي الشعب
      انت املنا فى يوم الصعب
      اصحى يا جندى ودق الكعب
      حرر مصر وطهر مصر
      اصحى وكوني وعيشي يا مصر
      تحياتي...
      عبدعلي فريدون

    • زائر 4 | 2:41 ص

      لأنها مصر

      مصر تستحق الكثر من التضحيات وليس من الممكن احداث تغيير من دون تضحيات والنظام القائم لم يخدم مصر ابدا وانما خدم الكيان الصهيوني وقدم من اجل بقائه اجمل ما يملكه المصريون من عزة وكرامة واستعادة دور مصر يجب ان يكون على ايدي المصريين والله معكم

    • زائر 3 | 2:38 ص

      غباء

      ثورتكم أرعبت أولادنا وما تنادون به لن يكون ..استقرار في ظل حكم عسكري زي ماسعادتكم تقولون أفضل من ضياع في ظل ديمقراطية فاشلة .. مفيش حد في عارف المستقبل ولا وضع خطة له .. المهم سقوط النظام عندكم والبلد تخرب ياشوية لصوص وحرامية وأفاقين .. النظام ده لو كان عين واحد فيكم في أي مركز أو مصب كنتم خدامين لمداسه.. أحنا مش عاوزينكم

    • زائر 2 | 12:36 ص

      مقالة في الصميم

      شكرا دكتور مقالة في الصميم و أنت واحد من شرفاء المصريين في هذا الزمان و نتمنى لمصر ان تكون نبض العروبة و الإسلام قبل حكم العسكر

اقرأ ايضاً