العدد 3078 - الثلثاء 08 فبراير 2011م الموافق 05 ربيع الاول 1432هـ

تشريح أولي لثورة 25 يناير المصرية (1)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

تعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، هي أول ثورة مصرية منذ ثورة 1919، ومن ثم فإنها جاءت بعد ما يقرب من مئة عام على الثورة الوحيدة لمصر في القرن العشرين. ولكن ثمة اختلافاً جوهرياً بين الثورتين، ثورة 1919 كانت ضد الحكم الأجنبي والاحتلال البريطاني لمصر، أما ثورة 25 يناير 2011، فهي ثورة ضد الحكم الاستبدادي الوطني، ومن ثم فإن ثورة 1919 هي أقرب للثورة الأميركية في حين ثورة 2011 هي أقرب للثورة الفرنسية.

مفهوم «تشريح الثورة» هو مفهوم حديث في الفكر السياسي، ولعل أشهر الكتب التي صدرت في هذا الصدد هو كتاب كرين برنتون Crane Brinton المعنون «تشريح الثورة»، والذي صدر لأول مرة العام 1938، وأعيد طبعه العام 1956، وجرى تحديثه وإضافة له العام 1964، الكتاب اشتهر لدى المتابعين والدارسين للعلوم السياسية في مصر وبعض الدول العربية الأخرى، خاصة أنه جرت عدة ترجمات له في القاهرة وبغداد وبيروت. وقد اتبع كرين منهجاً تاريخياً في تشريحه للثورة، وهي المرحلة التمهيدية السابقة على الثورة، ثم المرحلة الثانية حيث تصاعد ما أسماه بالحمى، أي تزايد سخط الطبقة الوسطى، ثم المرحلة الثالثة حيث تولى المتطرفون زمام الأمور، وأخيراً المرحلة الرابعة حيث تعود الحياة إلى الهدوء السابق على الثورة، وتتجه السلطة الجديدة نحو الحالة التي سادت قبل قيام الثورة.

بالطبع تحليل كرين برنتون عليه عدة مآخذ منها نظرته المتشائمة، ومنها عدم تعمقه في بحث القوى السياسية الفاعلة، حيث تأثر في منهجه التاريخي بعملية اختطاف الثورة التي حدثت في الثورة الفرنسية عندما سيطر المتطرفون، ثم عندما تحدث عما أسماه مرحلة الخلاص استشهد بحالة الثورة الأميركية بعد نجاحها في تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني، وسيطرة جورج واشنطن، أو بحالة ستالين في الثورة الشيوعية في روسيا. ولكننا نرى اختلافاً جوهرياً بين الحالتين، إذ أن واشنطن أقام نظاماً دستورياً أتيح له الاستقرار وتناوب السلطة، في حين أن الثورة الشيوعية كانت ضد المستبد الداخلي، وجاء ستالين للسلطة بعد وفاة لينين، وحولها إلى ديكتاتورية قمعية سادها الإرهاب الداخلي بأسوأ ما كان في عهد القياصرة، وأصبحت أجهزة الأمن والاستخبارات هي القوة الحاكمة وساد منهج «لافرينتي بيريا» (1899 - 1953) في القمع، ودخل حوليات التاريخ السوفياتي بل ربما التاريخ العالمي.

إننا لن نستعرض تفصيلاً كتاب تشريح الثورة ولا منهجه أو المآخذ عليه، ولكننا نستهدف هنا فقط إرجاع الفضل لأهله في الإشارة لتاريخ مفهوم تشريح الثورة، والذي هو أساساً استعارة من العلوم الطبية، ولكننا في هذا البحث نقوم بعملية تطبيق المفهوم على ثورة 25 يناير 2011م في مصر.

وقبل أن نتناول هذه الثورة بالتشريح السياسي فإننا نشير إلى أربع ملاحظات منهجية:

أولهما: إن هذه الثورة لم تنتهِ بعد، ومن ثم فإن التشريح لن يكون كافياً أو وافياً أو شاملاً.

وثانيهما: إن القوى السياسية المشاركة في الثورة تطورت خلال فترة وجيزة، ومن الصعب تحديد دور كل قوة من الناحية العملية.

وثالثهما: لماذا نقول حركة 25 يناير 2011م، هي ثورة؟ إننا ننطلق في هذا الصدد من التعريف الكلاسيكي لمفهوم الثورة، وهي أنها حركة شعبية جماهيرية مدنية تنطلق عفوية، وتجتذب جماهير عريضة، وتعبر عن مطالب للتغيير السلمي، وأحياناً تستخدم أساليب غير سلمية نتيجة بعض الانحراف في مسارها، كما حدث مع الثورة الفرنسية. رابعهما: ربما يتساءل القارئ، وماذا عن ثورة 1952م، في مصر؟ وللإجابة عن ذلك، نقول إنها لم تكن ثورة شعبية، بل انقلاباً عسكرياً ثم تحولت إلى شبه ثورة لتأييد الشعب لها، وظل طابعها عسكرياً في المقام الأول رغم تبنيها في مرحلة جمال عبدالناصر للمطالب الشعبية الجماهيرية، نظراً للشخصية الكارزماتية لجمال عبدالناصر من ناحية، ونظراً للظروف النضالية ضد الاستعمار الأجنبي من ناحية ثانية، ولإثارة مفهوم القومية العربية، وهو مفهوم عميق الجذور في الشخصية العربية، سبق أن طرح منذ القرن التاسع عشر، وإن تبلور بصورة أكثر تنظيمية وإيديولوجية في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي منذ أوائل الأربعينيات في القرن العشرين.

ولكن رغم شعبية عبدالناصر، ورغم تنظيمات حزب البعث، فإن كلاهما أخفق في التعاون، بل تصارع الطرفان ولم يسفر «الانقلاب الثوري» - إذ جاز هذا التعبير - إلا عن قيام وحدة عربية قصيرة الأمد، ثم صراعات أكثر حدة بين الفكر الناصري القومي، والفكر البعثي القومي، بل بين أجنحة البعث الذي اعتمد على العمل الانقلابي العسكري المتعدد في أهم دولتين حكم فيهما، وهما سورية والعراق، ثم تحول للعمل القمعي والحكم الاستبدادي، ومن ثم فإن التحليل العلمي يجعل النظر للفكر الناصري والفكر البعثي ربما يقترب من تحليل كرين برنتون في بروز التطرف الثوري والاستبداد، الذي استمر لأكثر من ستة عقود، ولم يتم بناء هيكل ديمقراطي على غرار ما حدث في الثورة الفرنسية، أو الثورة الأميركية، ولم تتحقق نهضة اقتصادية تراكمية كما حدث في الثورة الصينية في مرحلتها الثانية أي في مرحلة بروز دنج سياو بنج ونحو ذلك. افتقار الحالتين الناصرية والبعثية للهيكل التنظيمي السليم، والفكر الإيديولوجي الواضح والملتزم، هو الذي قاد لسيطرة العسكريين في مصر وسورية والعراق، وسيطرة الحكم الفردي المستبد، وتراجع دور الشعب والقوى السياسية، والدخول في صراعات بين الدول الثلاث، بل بين سورية والعراق، رغم وجود نفس الحزب في الحكم الذي انقسم إلى قيادات قومية وقطرية، وفي جميع الحالات سيطر العسكريون على السلطة، وأصبح الحزب أداة تابعة للجيش، وليس العكس كما حدث في الثورتين الفرنسية والأميركية أو حتى في الثورة التي ارتبطت بالإصلاح في بريطانيا منذ القرن السابع عشر. ورغم هذه التحفظات فإن الباحث أو الكاتب السياسي لابد أن يسعى لتقديم نوع من التأصيل بقدر الإمكان، لأنه لا يمكنه الانتظار لحين الكشف عن الوثائق الصحيحة بعد عدة سنوات أو صدور تسريبات جديدة من ويكيليكس.

ولو نظرنا للمجتمع المصري قبل 25 يناير 2011م، نجده في الفترة منذ التسعينيات أصبح يعيش حالة من الغليان الثوري، ربما بلغت هذه الحالة مداها في أواخر العام 2010م، وتتمثل أبرز معالم تلك الحالة في الظواهر التالية:

1. انتشار الفساد بصورة ما منذ بداية عهد الرئيس السادات والاتجاه نحو الانفتاح الاقتصادي، ولكنه بلغ قمته في التسعينيات مع عملية الإصلاح الاقتصادي والخصخصة التي أدت لنشأة الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الطفيلية الجديدة (ونستعير مصطلح الطبقة الجديدة من المفكر اليوغوسلافي ميلوفان جيلاس) أما الطفيلية فهي من المفاهيم المرتبطة بمراحل الانتقال السياسي، حيث تظهر طبقة تعيش على كد وعمل الآخرين، دون أن تساهم بطريقة عملية في الإنتاج وتنهب ثروات الدولة، وهذا ما حدث مع ظاهرة الخصخصة في مصر، حيث استولت الطبقة الجديدة المرتبطة بالسلطة على المصانع وشركات القطاع العام بأبخس الأسعار وتحولت إلى مليونيرات أو مليارديرات، وكان ذلك نتيجة تحالف ثلاثي غير مقدسي بين أساتذة جامعات تحولوا للمناصب الوزارية، والرأسماليين الجدد، والسلطة السياسية. وجرى تبادل المنافع بين القوى الثلاث.

2. اغتيال إرادة الشعب من خلال الانتخابات المزورة المعتمدة على ثلاث قوى جهاز الدولة الإداري، الجهاز الأمني، الجهاز الحزبي المزيف، لأنه ولد بعملية قيصرية من قمة السلطة، ومن ثم ضم عناصر انتهازية من المثقفين وعناصر فاسدة من رجال الأعمال، وأصبح التحالف غير الشرعي بين هاتين القوتين وبين السلطة السياسية، وهو الابن غير الشرعي للنظام المهيمن على مقدرات الدولة والمجتمع، هذا لا يعني أن جميع أفراد الحزب أو أجهزة الدولة أو المثقفين ينطبق عليهم هذا التوصيف، وإنما هناك شرفاء كثيرون ولكن دورهم مغمور أو يتم تجاهله من القلة الحاكمة، أو مالوا إلى السلبية نتيجة طغيان التحالف الثلاثي المشبوه والمستبد.

3. اغتصاب أموال الشعب في إطار ثلاث عمليات: الخصخصة، ومكافأة المحاسيب بالأراضي المملوكة للدولة، وأعمال السمسرة والعمولات في مختلف المجالات والأنشطة الاقتصادية، ومن ثم أصبح الاقتصاد بدوره اقتصاداً غير منتج، مع استخدام أسلوب الرشاوى القانونية، بمنح المكافآت والمناصب والأراضي، وكله يمثل فتات مقارنة بمكاسب الرأسمالية الجديدة، وكان من شأنه إفساد الذمم وشراء طاعة تلك الأجهزة الرقابية، وهذا معروف من سلوك بعض من أسندت إليهم المناصب القيادية في تلك الأجهزة، ومن خلال هذه الرُّشا القانونية مثل سن التقاعد، وزيادة المرتبات لهذه الفئات، والاستجابة لطلباتها أمكن تحييدها إلا قلة بالطبع في تلك الأجهزة الرقابية، وفي حالة الشرفاء جداً في تلك الأجهزة، يتم تناول تقاريرها ونقدها وتشويهها من خلال أجهزة أخرى لبث الإحباط لدى هؤلاء الشرفاء.

4. إحباط الشباب الذين يتخرجون من الجامعات من خلال عدم وجود وظائف، وعندما يتم التحدث عن بعض تلك الوظائف تعطى للأنصار والمحاسيب، ومن ثم أصبح معظم الشباب يعاني من الإحباط أو الضياع، فاتجه معظمه إما نحو التدين الحقيقي أو الشكلي أو نحو تعاطي المخدرات، ووجد المروّجون لهذين الأمرين في الشباب بوجه عام لقمة سائغة، واتجه بعض الشباب للهجرة، وواجهوا كوارث السفن التي تغرق في البحر المتوسط، أو واجهوا النصّابين، وأصبح المجتمع كما وصفه أحد المفكرين البارزين والحقوقيين النشيطين منقسماً إلى ثلاث فئات، الأولى: السارقون والمرتشون والنهّابون. الثانية: الفقراء المتسوّلون. الثالثة: ما بين الاثنين، ربما هذه الفئة لا تجد ما تسرقه، وربما لديها عزة نفس عن التسول. بالطبع هذا وصف ساخر لحالة المجتمع المصري، ولكن به جانب من الصحة، وليست كلها بدليل استمرار المجتمع، والطبقة العاملة، والطبقة المتوسطة، والشباب كما سنرى لاحقاً في ثورة 25 يناير.

5. الاتجاه لإذلال الجماهير عبر أجهزة الأمن، الأمر الذي كتبت عنه الكثير من المنظمات والتقارير الدولية من وجود تعذيب مستمر وبأساليب مبتكرة، وأشرت إليه شخصياً في عدة مقالات بصحيفة «الأهرام» خلال السنوات الخمس الماضية، وأشارت إليه تقارير المجلس القومي لحقوق الإنسان.

ترتب على الظواهر السابقة عدة نتائج:

- انفصال شديد بين النخبة الحاكمة وبين الجماهير، حيث عاشت الأولى ظاهرتين تدبيج التقارير والأرقام والإحصاءات غير الصحيحة، وبعد مرحلة تصدق نفسها، كما أخذت تبرر لنفسها ما تحصل عليه من امتيازات واستيلاء على الأموال العامة، لأن سادتهم يأخذون الكثير، أما الجماهير فقد عاشت في العشوائيات أو أولاد الشوارع التي أصبحت تحيط بالمدن الكبرى وتمثل قنابل موقوتة تهدد هذه المدن بل المجتمع بأسره.

- تراجع حجم الطبقة المتوسطة وبروز الطبقة العليا التي يتوارى إقطاع ما قبل العام 1952م خجلاً من فجرها وغطرستها وحجم ثرواتها، وارتبطت بالسلطة الفاسدة، وتناقص حجم الطبقة الوسطى حاملة القيم والمبادئ والمثل، وتراجعت لديها القيم الصحيحة، وزاد عدد الطبقة الدنيا، وتم تهميشها، حتى انتشرت كوارث الانهيارات في المباني والجبال مثل حوادث المقطم وغيرها

- بروز القوى الدينية المتطرفة من ناحية، والتدين الشكلي من ناحية أخرى، فتحول السلوك الديني إلى ارتداء الحجاب والنقاب، بينما سادت الرشوة والفساد وإهمال العمل وإجادة الإنتاج، وهذا أهم القيم الإنسانية والدينية. وعلى الجانب الآخر من الشعب المصري، برز تطرف ديني مماثل وترتب على ذلك تراجع مفهوم الولاء والانتماء والوحدة الوطنية، ومن ثم برز الصراع الديني في حوادث مثل اعتناق سيدة مسيحية الإسلام أو اعتناق رجل مسلم المسيحية، وكأن هذا يمثل كارثة فكرية وسلوكية ودينية، ونسي الطرفان مبدأ الحرية الدينية، كما نسي الطرفان مبدأ الولاء للوطن، ومبدأ الاعتدال والتسامح ونحو ذلك من القيم والمبادئ التي تحدثت عنها الأديان

- مع زيادة اغتصاب إرادة الشعب، وزيادة النفاق والانتهازية، والتفاني في خدمة السلطان، جرى تعديل الدستور وتعديل القوانين لمصلحة ذلك، ولعب بعض المثقفين وأساتذة القانون دوراً بالغ السوء في هذا الصدد، وأصبح دعاة القيم والدستور السليم والحكم الرشيد الصالح، كمن ينادي في البرية لا يسمعه أحد وإذا سمعه لا يهتم، وإذا أظهر اهتماماً شكلياً فلا يتجاوب معه عملياً، وهكذا كان حوار الحزب الوطني مع المجتمع وقواه السياسية، والفكرية والحزبية في السنوات التي سبقت ثورة 25 يناير هو حوار الطرشان.

- لم تحظَ القوى الحامية للوطن بالرعاية والتحديث الكافي بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، في حين جرى الاهتمام بالقوى الأمنية المدافعة عن النظام، وعندما جاءت اللحظة الحاسمة لم يكن أمام النظام سوى الالتجاء للقوى الحامية للوطن، والتي حرصت على الحياد والتعامل مع المواطنين الثائرين باحترام، في حين اختفت القوى الأمنية وروّج بعضهم أسباباً غير معقولة عن اختفائها من الشوارع، فسادت الفوضى وشريعة الغاب، ولجأ المواطنون لحماية أنفسهم بأنفسهم. ولا نلوم أي من هذه القوى، ولكن نلوم النظام وفلسفته وسلوكه ومؤسساته من حزبية وتشريعية وتنفيذية، لانعدام الرؤية الوطنية، والنظرة الإستراتيجية لديها، ولهذا انهار التعليم، كما انهارت الرعاية الصحية، وانهار الإنتاج الزراعي والصناعي، وظهرت الدروس الخصوصية كغول يأكل الدخل، والأدوية المسرطنة، والمبيدات الحشرية المسرطنة، وظهر برلمانيو الفساد في الاتجار بأنبل شيء وهو الحج والعمرة والعلاج، بخلاف اتجار بعضهم في المخدرات والأراضي والحصول على قروض والهروب بها.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3078 - الثلثاء 08 فبراير 2011م الموافق 05 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً