العدد 3109 - الجمعة 11 مارس 2011م الموافق 06 ربيع الثاني 1432هـ

الثورات العربية بين الرؤية الاستراتيجية والمراهقة الفكرية- نظرة مقارنة (1-3)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

الثورة عادة هي أداة من أدوات إحداث التغيير في المجتمع، وتتسم الثورات بأنها مفاجئة، وإن كان لها إرهاصات وشواهد تسبق الانفجار الثوري، وهي جماهيرية وإن قادتها نخبة من النشطين السياسيين أو الايديولوجيين، وهي تدعو للتغيير الجذري، وإن بدأت حركة مطلبية، فإنها سرعان ما تتحول لحركة للتغيير الشامل، ولكن كما يقال ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فإن بعض الثورات تواجه نكسات أو ثورات مضادة، وكثير من الثورات لا تحقق أهدافها في المدى القريب، رغم أنها في المدى البعيد تحدث تغييراً جذرياً في حركة المجتمع.

وتعاني كثير من الثورات من ثلاث نواقص: نقص البعد الاستراتيجي المستقبلي بمعنى أن الثورة باعتبارها حركة جماهيرية تدعو للتغيير الشامل تقع في مأزق الزهو والغرور، خاصة إذا واجهت نظماً ضعيفة، وانهارت تلك النظم بسرعة، ومن ثم تتصور الحركة الثورية أن عملها أمر سهل، وأن تغيير المجتمع مسألة بسيطة. وهنا يظهر المأزق الأول أو النقص الأول وهو النظرة المستقبلية لتطور المجتمع، فكما هو معروف أن تغير المجتمع ثقافياً واجتماعياً ليس مسألة سهلة مثل التغير الشكلي أو التغير القانوني أو التغير التكنولوجي، فاستيعاب المجتمع باعتباره أفراداً لعملية التغيير أقل سرعة من استيعابه للتكنولوجيا، ولعل أبسط نموذج على ذلك من قبيل التشبيه هو شراء سيارة وقيادتها مقابل تفكيك السيارة وإعادة تركيبها. فهنا ندخل في صناعة السيارة أو صناعة المجتمع، وهذا البعد الاستراتيجي المستقبلي يحتاج لتطور التركيبة الذهنية والسلوكية للمجتمع بمعنى أنه يحتاج لوقت.

ومن هنا برز في الفكر السياسي الثوري ما عرف بنوعين من المراهقة اليسارية من ناحية، واليمينية من ناحية أخرى، وكذلك حركات التطهير الثورية، وجدنا ذلك بوضوح كبير في الثورة الصينية وفي الثورة الروسية وأيضاً في الثورة الفرنسية.

النقص الثاني في الحركة الثورية هو نقص الايديولوجية أو العقيدة السياسية. فكثير من الثورات بما في ذلك الانقلابات العسكرية التي تتحول إلى ثورات مثل انقلاب 1952 في مصر انقلاب 1958 في العراق وهما من أشهر الانقلابات العسكرية التي تحولت إلى ثورات في المنطقة العربية، فضلاً عن انقلاب 1962م في اليمن، وانقلاب 1969م في ليبيا، وهما تحولا إلى ثورات ولكن جوانبهما السلبية أكثر من إيجابيتهما، وبرز فيهما مثل الانقلابين في مصر والعراق بصورة واضحة نقص البعد الايديولوجي المتكامل.

البعد الثالث الذي يمثل نقصاً في العمل الثوري هو البعد القيادي، فالثورة الفرنسية على سبيل المثال، وهي من أشهر الثورات العالمية التي لم تتوافر لها قيادة محددة، واستمر الصراع بين قياداتها عدة سنوات، حتى وصلت القيادة لنابليون بونابرت الذي انطلق بها إلى حركة توسعية في أوروبا، وتوسعية في الخارج، اتصالاً بالتنافس الأوروبي، ولذلك قام بحملته لغزو مصر العام 1798، وانتهى به الأمر لصراعه مع القوى الأوروبية، دون تخطيط، ودون رؤية واضحة دون دراسة لتوازن القوى الأوروبية بينه وبين خصومه إلى إخفاق الثورة الفرنسية، ونفي نابليون إلى سانت هيلانة وموته هناك.

بعبارة أخرى، إن انعدام وجود قيادة واضحة وايديولوجية متكاملة ونظرة استراتيجية ترتبط بالأولويات وتحددها بوضوح يمثل أكبر مثالب أية حركة ثورية.

ومن هنا نجد كثيراً من الحركات الثورية تنجح على المدى البعيد مثل الثورة الكوبية أو الثورة الصينية أو الثورة الروسية، ومع هذا فإنها تخفق أيضاً على المدى الاستراتيجي. ولعل مرجع ذلك هو عدم قدرة الثورة والثوار على رسم خريطة متكاملة للعمل الثوري تعتمد منهج الإطار الزمني والتغير الجذري للمجتمع بما يحقق طموحاته.

ولعلنا نتذكر أن الثورة في إحدى تعريفاتها هي تغيير جذري في المجتمع، هذا التغيير يعتمد على خطوتين رئيسيتين هما: تدمير القديم وإنشاء الجديد.

الخطوة الأولى سهلة مثل نزول السلم أو الوقوع من سفح جبل، بينما الخطوة الثانية صعبة مثل صعود السلم أو تسلق الجبل. أن تطرد كل موظف أو مسئول من موقعه سهل للغاية، أما أن يصل إلى منصبه ويمارس عملاً يحقق نتيجة إيجابية فإن ذلك بالغ الصعوبة ويحتاج لوقت وجهد وفكر وعلم، وهذا ما يؤدي إلى إخفاق كثير من الثورات، وحدوث ما يطلق عليه الثورة المضادة، وبما أن التعريف الأكثر دقة للثورة هو ليس تغيير المجتمع وإنما تغييره نحو الأفضل بما يرفع من مستوى معيشة أفراده ويعزز أبنيته ويحقق له التقدم. إذن هناك ثلاثة مقومات للحكم على العمل الثوري من المنظور الاستراتيجي. حدوث التغيير، وأن يكون هذا التغير نحو الأفضل، وأن يحقق مصلحة المجتمع ورفاهية أفراده. وهنا تقع كثير من الثورات وخاصة الحركات المطلبية في الخطأ الجسيم، إذ تقوم بإعادة توزيع الثروة كخطوة أولى ثم تتوقف في حين أن المطلوب هو تعميق وتعزيز مفهوم إنتاج الثروة، الأولى هي إفقار الأغنياء، والثانية هي إغناء المجتمع ككل. الأولى تؤدي إلى تراجع الإنتاج وتراجع قيمة العمل، في حين أن الثانية تعزز الإنتاج وتزيده. ولعلنا نأخذ تجربة الثورة الصينية العام 1949 ونقارنها بالحركة الإصلاحية التصحيحية، والتي يمكن أن نطلق عليها ثورة دنج سياوبنج العام 1978 أو المرحلة الثانية الحقيقية للثورة الصينية. المرحلة الأولى في عهد ماوتسي تونج أدت إلى إعادة توزيع الثروة، ومن ثم فرح الجميع بها، ولكن سرعان ما اكتشفت القيادة أنها لم تحقق ما كانت ترجوه، فاندفعت في قرارات جلبت الكوارث على الصين، مثال الثورة الثقافية البرولتيارية العظمى التي استمرت زهاء عشر سنوات، وقبلها حركة الإصلاح العام 1958 التي جلبت كوارث اقتصادية، وهكذا تفاعلت الكوارث الاقتصادية، وشبح المجاعة، ونقص الغذاء لنقص الإنتاج، مع الحقد الطبقي، والصراع السياسي، فأحدثت في الصين كارثة، وأكلت الثورة كثيراً من قياداتها لصالح عبادة الفرد وسيطرته. بخلاف المرحلة الثانية التي قادها دنج سياوبنج فزاد الإنتاج، وتحسنت التكنولوجيا، وتحولت الصين خلال ثلاثة عقود لتصبح القوة الاقتصادية الثالثة في العالم، وبعدها بعامين أصبحت القوة الاقتصادية الثانية. في حين أن الاندفاعة الثورية في كوبا على سبيل المثال أدت بها إلى العزلة والفقر، وإن كان أحد إيجابياتها هو انتشار التعليم، وهذا أيضاً ما حدث في الصين في المرحلة الثورية الأولى في عهد ماوتسي تونج، ولعل المقولة المهمة لفيلاديمير لينين، ان الثورة هي إنتاج الكهرباء، بمعنى أن النور الفكري والمادي والتطور الصناعي والإنتاج، هو أهم من الشعارات والتحركات والهتافات، أي العمل هو الركيزة الأولى، نقول إن هذه المقولة تدل على عمق رؤية لينين، وهو ما أخذ به ستالين جزئياً، وأن ننسى الجزء الآخر من مفهوم الثورة، وهي نقل المجتمع إلى الأفضل، فأشاع الرعب والخوف والقمع في المجتمع، رغم ما حققه من زيادة إنتاج للدولة ككل، ولكن انخفاض مستوى المعيشة أدى إلى الإحباط بل بعد 70 عاماً تراجعت الشيوعية، وانهارت في روسيا، وفي شرق أوروبا لمصلحة الرأسمالية.

وهنا ننظر للبعد الاستراتيجي للثورة، وهو ضرورة بناء مؤسسات على أسس راسخة، وعدم تغييرها لمصلحة الفرد أو طبقة، والضرورة الثانية المتصلة بفهم تطور المجتمع، هي أن المجتمع سيظل تسوده الطبقات المتحركة، وليس الجمود الطبقي، أي مفهوم الحركية الاجتماعية، ويصبح الانتقال من طبقة لأخرى نتيجة المعرفة والمهارة والتعليم، وليس نتيجة النفاق والمداهنة أو الانتماء الأسري أو إلى شلة أو جماعة أو طائفة، والضرورة الثالثة لنجاح أية ثورة، هي تحولها إلى قوة مجتمعية، بمعنى رفعها شعارات، وتنفيذ ذلك بما يحقق مصلحة كل فئة من فئات المجتمع، أما إذا تحولت الثورة إلى مفهوم الطبقة فقط أو الدين فقط أو الطائفة فقط، فإنها تؤدي إلى الصراع الطبقي أو الطائفي أو الديني، وتفقد كونها حركة مجتمعية، وهذا يعيدنا لمفهوم الايديولوجية الثورية، وإلى القيادة، وإلى البعد المستقبلي

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3109 - الجمعة 11 مارس 2011م الموافق 06 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً