العدد 3121 - الأربعاء 23 مارس 2011م الموافق 18 ربيع الثاني 1432هـ

العراق: البناء على رمال متحركة!

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

من أهم مفاهيم البناء هي أن تكون أرضية الأساس صلدة بما فيه الكفاية لتحمل الثقل الكبير للبناء، ومع زيادة البناء ارتفاعا تزداد الحاجة إلى صلادة وعمق كبيرين. البناء ليس تشييدا فقط بل متابعة واهتمام نحو الحفاظ عليه وديمومته وتطويره.

في طفولتي كان فلاح حديقتنا إنسانا بسيطا كنا ندعوه العم أبورمضان ورغم بساطته كان إنسانا طموحا، وطلب من والدي وقت ذاك أن يساعده في الحصول على عمل كساع في إحدى المدارس. وتمر الأعوام وبعد أن انقطعت أخباره عنا، إذ به يزورنا (العم أبورمضان) ذات يوم ولكن بسيارة مرسيدس بعد أن تغير كل شيء فيه من ملابسه وطريقة كلامه.

لقد دفعه طموحه نحو علاقات حزبية وفرت له مكانة اجتماعية سريعة ومن ثم ازدياد مصادر الدخل من خلال تواجده في الأسواق التجارية. لقد تغير العم أبورمضان كليا. استطاع وبذكائه الفطري أن يستغل الظرف السياسي لإعادة بناء حياته وحياة أسرته. وكان دخله الجديد اكبر من مستوى تفكيره. وكان من نتائج هذه النعم أن يغير كل شيء في حياته حتى زوجته التي لا تختلف في هذه المجتمعات عن أي سلعة. ولكن لم تستمر الحال كما شاء فمن نتائج النعمة المفاجئة أن ترك أولاده مدارسهم لان النعمة كما حسبوا دائمة، أما بناته فقد تزوجن في عز أبيهن من منتفعين لا يقلون طموحا عن أبيهن، ولما كان الوضع غير مستقر فقد ذهب كل ما بناه أبورمضان وسقط أبناؤه في مستنقع الجريمة وطلقت بناته و…

لم يكن أبورمضان ليدرك أنه قد بنى على أرض متحركة، وليس أبورمضان الفرد البسيط في هذه المجتمعات الوحيد الذي بنى على أرض متحركة.

المجتمعات العربية والإسلامية عموما وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت البناء على أرض متحركة. وكما كان أبورمضان قائد البناء في أسرته ومخطط التحول الكبير فإن هذه المجتمعات عموما بنت وتبني ليس كمجتمعات بل بقيادات فردية أو مؤدلجة. وكما كان العم أبورمضان فخورا ببنائه لأنه العقل المفكر والقائد الملهم في أسرته فان قادة البناء في هذه المجتمعات يتعاملون مع ما يتم بناؤه بنفس الفخر والاعتزاز. وكما انهار بناء أبورمضان انهار العراق ودول أخرى في طريقها إلى ذلك.

لقد بدأ البناء العراقي بعيدا عن المجتمع بعد الحرب العالمية الأولى. بدأ العراق عهد الديمقراطية ومجتمعه لا يعرف سوى الفكر الديني الذي سيطر على المجتمع لقرون عدة وتركته في حالة فظيعة من البؤس والفاقة والمرض. مثل هذا المجتمع لا يمكنه أن يدرك ما هو القرن العشرين وما هي ضرورات المعيشة فيه، وكيف عليه أن يتفاعل مع القوى الفاعلة. لقد كانت الأمية بكافة أنواعها هي السائد الأعظم، ولما كانت السلطة المستعمِرة العثمانية ذات غطاء ديني فان الصراع الطائفي كان كبيرا رغم أنه كان يبدو كامنا. لقد كان المجتمع المُضطَهد متقبلا للاستعمار الإسلامي التركي ولم يتقبل الاستعمار الغربي الذي قاد البلد إلى البناء.

لقد كان العراق يعيش وقت تأسيس الدولة العراقية مشاكل اجتماعية هائلة ومن الأقرب للصواب القول إنه كانت هناك كوارث اجتماعية هائلة. إلا أن بناة الدولة تركوا الفرد والمجتمع (أساس البناء) ليهتموا بالبناء المادي ورغم أهميته الكبيرة إلا أن البناء المادي لابد له من أرض اجتماعية صلبة وليست هشة.

لقد تُركَ التعليم ليهتم أساسا بإعداد كفاءات قادرة على إدارة الدولة الوليدة أساسا مع بعض التوجهات الايديولوجية للسلطة الحاكمة واستمرَ هذا الأسلوب حتى يومنا هذا.

لقد كان ولايزال المعلم الأساس في الدولة العراقية هي الأسرة والشارع ودور العبادة وليس الدولة. لذا تخرجت كفاءات علمية وعلى عهود مختلفة تلهج بالدعاء لولي النعم (السلطة) وليس الوطن الذي لا تعرف شيئا عن مكوناته الاجتماعية وكيف يتم تقبل الآخر. ورغم الغلاف البراق للشهادة العلمية فان تأثير الأسرة والشارع ودور العبادة التي نشأت فيها تلك الكفاءة يبدو واضحا وجليا في محدودية الثقافة الاجتماعية.

وهكذا انتقلت أمراض القرون الماضية متوارثة جيلاً عن جيل ورغم ظهور بعض التحسن ومحو الأمية الأبجدية والتي تصدت المدارس لها إلا أن الأمية الثقافية التي يعززها الشارع والأسرة بقيت على حالها وعززتها الصراعات السياسية.

ولم تستطع كافة الحكومات المتعاقبة على إدارة العراق مجابهة مشاكل العراق الحقيقية والمزمنة. وببساطة كانت معظمها إن لم تكن جميعها سلطات مؤدلجة تهتم بايديولوجيتها أكثر من اهتمامها بالمجتمع ومشاكله واحتياجاته ومنظوماته. وكانت النظرة الايديولوجية وأحيانا النفعية تشكل حاجزا كبيرا بين المجتمع والسلطة.

بعد الفترة العثمانية وبعد اكتشاف العرب والمسلمين وجود مخلوقات بشرية وحضارات خارج مدنهم وقراهم ومدى تطور تلك المجتمعات لذا قاموا بنفس ردة فعل أبورمضان. غيروا ملابسهم ونزعوا طرابيشهم وفتحوا حانات لبيع الخمور وعرف النسوة السفور وفتحت دور اللهو والسينما واشتروا السيارات… لم يسبق للعراقيين أن عرفوا الفكر السياسي الذي تطور خلال الفترة المظلمة من تاريخهم. لذا كان الانتقال مفاجئا من الفكر الديني نحو الفكر المعاصر ومن دون تمهيد وإعداد اجتماعي. وعلى ذات الحال تم لدى البعض استبدال الفكر الديني بآخر معاصر فدخل الفكر الماركسي وتم استبدال الكتب المقدسة بأدبيات الماركسية والشخصيات الدينية بالمفكرين الماركسيين وأصبحت موسكو مدينة مقدسة وهكذا هو تعامل البسطاء مع الفكر الحديث وهناك آخرون تبنوا الايديولوجية القومية وأصبح هتلر والرئيس الراحل عبدالناصر عندهم بدرجة القداسة والأدبيات القومية بديلا واخذ الساسة يقبلون على القاهرة وقبلها ذهبوا إلى برلين. واخذوا يتصارعون ايدولوجيا بعد أن كانت الصراعات طائفية فقط.

لقد كان بناء العراق عشوائيا مؤدلجا بعيدا عن واقع ومتطلبات المجتمع كمجتمع معاصر. كان الاهتمام بالكهرباء والماء والخدمات الصحية وتأسيس الجيش والشرطة. كل هذه الأمور لم يفكر في توفيرها الاستعمار العثماني (على ما يبدو أن المجتمع كان سعيدا بحرمانه منها لأنه لم يثر كما ثار في ثورة العشرين) وساهم في توفيرها الاستعمار البريطاني في الدولة العراقية الوليدة. لقد عرف الغرب هذه الأشياء خلال فترة طويلة من الزمن. تطور مجتمعهم خلالها تدريجيا ولكن ما حصل عندنا هو محاولة استيعاب هذه الأمور وكثيرة غيرها في فترة زمنية غير منطقية. والأدهى هو عدم وجود خطة مدروسة (ليست مؤدلجة) لإعادة بناء الفرد والمجتمع ليكون مهيأً لتقبل المنظومات الحديثة. إن الفكر الاجتماعي كان مغيبا تحت تأثير الفكر الديني ولمدة قرون. ولكن الفكر الديني بقيَ كامنا خلال فترة تبديل القشور ولم يكن بمقدوره البروز من جديد أمام إعصار الحضارة الحديثة الجارف بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد كسرت الحرب العالمية الأولى بوابات سجن الزمن لينطلق السجناء من دون أن يعرفوا طريق حريتهم.

لقد كان القتل المُبرر هو القتل باسم وغطاء الجهاد الإسلامي وكان ضد الكفار والمارقين وكما هو متعارف عليه في الفكر الإسلامي السائد.

في مرحلة تبديل القشور تم استيراد الايديولوجيات الحديثة وتحول مفهوم الجهاد إلى محاربة أبناء البلد ذاته من الرأسماليين (البرجوازية الوطنية البسيطة) أو الشيوعيين الكفرة أو القطريين (من لا يؤمن بالوحدة العربية) أو الشعوبيين أو… وهكذا اخذ البعض يقتل البعض وتحت أغطية المبادئ الحديثة السامية لكل ايديولوجيا تتسلم السلطة أو الشارع.

لقد قُتل المسيحيون في تلكيف في شمال العراق بيد الدولة وقتل وشرد اليهود بيد غوغاء مجهولين، وقتلت العائلة المالكة بتحريض قاس ومبالغ به من قبل الأحزاب السياسية وقتل قادة تموز (يوليو) بنفس الأسلوب وقتل التركمان في مجازر كركوك وقتل العرب في مجازر الموصل وقتل الأكراد في مجزرة حلبجة والأنفال وقتل الشيعة في ما يعرف بالمقابر الجماعية ومحاربة الأحزاب الدينية وأخيرا عاد الفكر الديني بعد العام 2003 من جديد ولكن بصورة أكثر دموية ليلتهم بصورة انتقائية من يحددهم أهدافا لجرائمه المقدسة. بالإضافة لهذه المجازر كانت هناك الحروب الدموية التي لا تميز بين القوميات والأديان والتي حصدت مئات الألوف من الشباب وتحت غطاء المبادئ السامية.

كل من يتسلم السلطة فردا كان أو حزبا سياسيا يحاول أن يخضع الآخرين ويحاول أن يصبغ المجتمع برغباته. معتبرا نفسه المرجع الوحيد والقائد أو المعلم وحامل الفضيلة... وهكذا دمر حكام العراق وأحزابه السياسية ما حاول بناؤه حكام العراق وأحزابه السياسية أنفسهم. والمشكلة الأكبر هي أن العراق دولة نفطية تتحكم السلطة الحاكمة وتسيطر على المورد الأساسي لذا فان السلطة المؤدلجة تتمكن بمنتهى البساطة من صبغ المجتمع بطلائها. لذا تلون العراقيون بمختلف الايديولوجيات ليس قناعة أو رغبة قدر كونه ضرورة حياتية لمجاراة الحاكم. أما الشعب العراقي فانه لم يبن شيئا لأنه لم يعرف الديمقراطية يوما ولم يعرف ذاته. العراقيون لم يعرفوا المؤسسات المدنية والاجتماعية ولم يكن عندهم في تاريخهم المعاصر فرصة لمواجهة مشاكلهم بصراحة ومن دون تعال لأحدهم على الآخر. لقد دمرت التربة الاجتماعية القلقة البنائين الفوقي والتحتي البسيطين اللذين تم بناؤهما بعد تشكيل الدولة العراقية. وهم الآن يلهثون لإعادة بناء الكهرباء والماء والجيش و… وربما ستتكرر عملية الهدم وإعادة البناء!.

النظام الديمقراطي الجديد بعد 2003 فتح الباب أمام كافة المشاكل والأحقاد الدفينة بالخروج إلى السطح ولأول مرة في تاريخ هذه الدولة. وهذه واحدة من أهم ضرورات تكوين مجتمع مستقر. المكاشفة والوضوح يجب أن يسود الجميع.

العراقيون اليوم يواجهون تحدي بناء العقد الاجتماعي وليس السياسي لتكوين الأرضية الضرورية للبناء. ولكن هل الأحزاب السياسية الفاعلة في العراق الآن على مقدرة وتصور كافيين للعب هذا الدور التاريخي الفريد؟

العراق الآن بحاجة لبناء المجتمع وليس بناء القادة والأحزاب السياسية المؤدلجة. القادة والأحزاب يتبدلون ولكن البناء يجب أن يكون تراكميا.

تجربة بناء العراق ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى 2003 بحاجة إلى دراسة معمقة، تجربة البناء والهدم المستمر القاسية هذه بينت مشاكل من قبيل:

عدم الاهتمام بعصرنة الثقافة الاجتماعية لمكونات الشعب العراقي على مستوى الدولة والمجتمع. بعد عام 2003 اكتشف الكثير من العراقيين حقائق كثيرة عن مجتمعات العراق كانت مغيبة عنهم.

عدم الاهتمام ببناء الفرد الاجتماعي (وليس المهني) وبعيدا عن الايديولوجيا. لقد بان أن المواطن ليس عراقيا بقدر كونه ابن عشيرته أو طائفته أو قوميته أو دينه…

التركيز المفرط على بناء وتطوير المدن وعدم الاهتمام بالريف ومحاولة رفع مستواه الحضاري. مما قاد إلى هجوم الريف باتجاه المدينة حتى أصبحت المدن قرى كبيرة.

لا أهمية للتراكم في البناء والخبرة وكل من يتسلم السلطة يريد البناء من جديد. لذا كان هناك الهدم والإعمار لمحو آثار من بنى سابقا.

البناء يتم بإرادة الرؤساء والملوك والأحزاب المؤدلجة وليس هناك أي دور اجتماعي حر. لقد كان البناة ملوكا وقادة سياسيين متصارعين. وكذلك كان الهادمون هم القادة والساسة المتصارعون.

عشق الساسة العراقيون (على الأغلب) للأدلجة وعلى غرار الأدلجة الدينية التي سيطرت على المجتمع قروناً عدة دون أن تتمكن من بناء طابوقة واحدة أو تواجه الاستعمار الإسلامي التركي الذي دمر العراق وتركه جثة هامدة.

في مجتمع بهذه المواصفات لا قيمة للثقافة ولا للتاريخ ولا للإنسان عموما. لذا تربى ضمن ثقافة الأسرة والشارع ودور العبادة المجرمين ومحدودي الأفق الذين يرفضون الإجرام السياسي المغلف بالمبادئ السامية. الكثير من المجرمين الذين يتم إلقاء القبض عليهم الآن هم أطباء ومهندسون وصيادلة خريجو المؤسسة التعليمية العراقية. ذات المؤسسة أفرزت مبدعين إلا أن عملية ظهور مبدع ذات طابع فردي لان الإبداع عملية في الأساس فردية الطابع ولكن هذا المبدع يعاني اجتماعيا من انعزال قد لا يمكن الهروب منه دون الارتماء في أحضان السلطة المؤدلجة. الجريمة السياسية والتهديم المستمر لا يمكن إيقافه من دون دراسة مصدره ومعرفة أسبابه. مشكلة التهديم هذه ليست ظاهرة عراقية بل تجد مماثلا لها في الدول العربية والإسلامية بصور متفاوتة.

إن منظومات البناء على تربة قلقة قد تخلق كوادر مهنية وفنية لإدارة مؤسسات خدمية ولكنها لا تخلق مجتمعا متماسكا. لقد ظهر في تاريخ العراق المعاصر الكثير من المبدعين والمثقفين ومنهم من بقى حرا منعزلا ومنهم من سار مع تيار السلطة في ازدهارها ويخبو معها. ولكن كل هؤلاء لا يشكلون سوى طبقة اجتماعية معزولة إلا من تأدلج ورحل برحيل سلطته.

لقد بدأ العراق عهد الديمقراطية الثانية بعد 2003 والتي يفترض أن تكون أكثر نضجا من التجربة الأولى في بداية تأسيس الدولة العراقية، والعراق الآن على عتبة إعادة بناء، فهل سيعاد بناء المدرسة العراقية على أسس وطنية؟

وهل ستتم معالجة مفردات المناهج التربوية المدمرة للمجتمع؟

وهل ستفتح المدارس والمؤسسات الحديثة في الأرياف قبل المدن؟

وهل ستكون هناك تربية اجتماعية عصرية مركزة على الوطن والمواطنة وغير مؤدلجة؟

وهل ستتوقف الأحزاب المؤدلجة عن لعب دور الأب أو المعلم أو الوصي؟

وهل ستكون هناك خطة لإعادة تأهل مجتمع عاش قرونا سجينا في أقبية الزمن وبيد المتخصصين وليس الساسة المؤدلجين؟

وهل وهل…لا يمكن بناء مجتمع حديث متماسك على أنقاض مجتمع أكله الدهر قرونا من دون أسس علمية واقعية للبناء الاجتماعي وستبقى كل عمليات البناء المستقبلية معرضة للانهيار من جديد.

الغرب لم يألف ظاهرة البناء هذه لأن البناء كان في الأساس تدريجيا ومتراكما على كافة المستويات والمدرسة الغربية تطورت تدريجيا لتكون معملا متطورا باستمرار لإنتاج أفراد اجتماعيين قبل أن يكونوا متخصصين

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 3121 - الأربعاء 23 مارس 2011م الموافق 18 ربيع الثاني 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً