العدد 3178 - الجمعة 20 مايو 2011م الموافق 17 جمادى الآخرة 1432هـ

البيئة العربية في خطر

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

اطلعتُ مؤخراً على التقرير السنوي للمنتدى العربي الخاص بالبيئة والتنمية «أفد»، الذي تم إطلاقه خلال أعمال انعقاد المؤتمر السنوي للمنتدى في بيروت في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010م، وكم كانت لحظةً صعبةً وصادمة لي عندما قرأتُ وبحثت في مضمون التقرير المذكور، واطلعت على تلك الأرقام والمعطيات المؤلمة والاستنتاجات والخلاصات التي توصل إليها والتي تركزت بمجملها حول اعتبار أن العرب يواجهون بالفعل خطر النقص الحاد في المياه والغذاء، وهم نائمون تماماً عن كوارث بيئتهم والنقص الحاد في مواردهم وعلى الأخص ما يتعلق بالكارثة المائية التي باتت تطرق أبوابهم بقوة.

ومن المعروف للجميع بأن البلدان العربية تقع في المنطقة الأكثر جفافاً وندرةً في المياه، حيث أن أكثر من 72 في المئة من الأراضي صحراوية قاحلة تندر فيها المياه، يضاف إليها التغيرات المناخية الكبيرة التي تتسبب في انحباس الأمطار وعدم توزعها - في حال سقوطها - بصورة متوازنة شاملة، حيث من المتوقع نتيجة هذا الوضع، أن يواجه العرب مع نهاية القرن الحالي انخفاضاً يصل إلى نحو 25 في المئة في المتساقطات مع ارتفاع 25 في المئة في معدلات التبخر، بما سيؤدي إلى وقوع المزروعات المروية في دائرة الخطر الحقيقي، مع وجود معدل انخفاض في الإنتاجية يصل إلى 20 في المئة. ويلاحظ التقرير المذكور أن الزراعة العربية تتصدر استعمالات المياه، حيث تستخدم نحو 85 في المئة من الموارد المائية العذبة، مقابل معدل عالمي لا يتعدى نسبة الـ 70 في المئة. كما أن كفاءة الري منخفضة جداً في معظم البلدان العربية، حيث لا تتجاوز 30 في المئة مقابل معدل عالمي يتجاوز نسبة 45 في المئة، ولاتزال الإنتاجية الزراعية العربية تقاس بكمية الأطنان المنتجة في كل هكتار من الأرض من دون اعتبار لكمية المياه المستخدمة، بينما يجب أن تقاس بكمية الإنتاج الزراعي مقابل كل متر مكعب من المياه، ليتم حساب استخدام المياه كجزء من كلفة الإنتاج.

ويرى التقرير أنه ونتيجة لعجز إمدادات المياه السطحية عن تلبية الاحتياجات المتعاظمة للزيادة السكانية والمتطلبات الأساسية للتنمية الاقتصادية، فإنه قد جرى ويجري انتهاك واستنزاف جائر كامل للثروة المائية الجوفية بما يتجاوز الحدود المأمونة، الأمر الذي أدى إلى حدوث انخفاض كبير في مستوى طبقات الماء. (ولا أزال أذكر في السابق في مناطقنا الساحلية أنه عند حفر بئر ارتوازي كانت الماء تخرج من على عمق لا يتعدى الثلاثين متراً، أما الآن فلا تكاد تخرج الماء من عمق 60 متراً، وفي مناطق أخرى لا تخرج أبداً!). كما أن هذا الانخفاض قد تسبب أيضاً في تلويث الخزانات الجوفية. ويعتبر هذا الموضوع (تلوث المياه) واحداً من أهم التحديات الرئيسية التي تواجه بلداننا العربية، بسبب ازدياد نسب تصريف المياه المنزلية والصناعية المبتذلة في الأجسام المائية، إضافة إلى التلويث بالمواد الكيماوية الزراعية.

وتذكر الأرقام هنا أن ما نسبته أكثر من 43 في المئة من المياه المصروفة المبتذلة في المنطقة العربية لا تعالج بل ترمى هكذا كما هي في مياه البحر أو في مساقط المياه والبحيرات والأنهار. بينما لا يعاد استخدام أكثر من 20 في المئة منها. ويشير التقرير إلى موضوع خطير آخر وهو متعلق بتحلية مياه البحر للاستخدامات البشرية وتلبية الكثير من الاحتياجات الصناعية، حيث دفع النقص الحاد في الموارد المائية العربية كثيراً من البلدان العربية إلى الاعتماد القوي على تحلية مياه البحر، حيث تؤشر الأرقام هنا إلى أن العالم العربي - الذي يضم نحو 5 في المئة فقط من سكان العالم، ولا يحتوي سوى على واحد في المئة من مصادر المياه العذبة المتجددة في العالم - يقوم بتحلية ما نسبته 50 في المئة من مياه البحر المحلاة في العالم. ويبدو أن هذه النسبة ستتضاعف أكثر من الرقم المذكور بسبب الزيادات السكانية وزيادة المعامل والمصانع ومجمل الاستثمارات الصناعية. كما أن تكاليف التحلية ستتزايد باعتبار أن تقنيات التحلية وما يتصل بها من تكنولوجيات معملية شديدة الكلفة (مضافاً إليها حاجة المحطات إلى طاقة كهربائية)، كما أن هناك هدراً وتبذيراً واضحاً في بعض استخدامات المياه المحلاة، حيث تقوم بعض الدول العربية (المترفة) بري مزروعات قليلة القيمة أو حتى ري ملاعب الغولف من تلك المياه المكلفة جداً. طبعاً لا يفوت التقرير الإشارة إلى أن نواتج تلك المياه المحلاة شديدة التلوث، وخاصة أن تصريفها يتم إلى البحر حيث يتسبب ذلك في زيادة ملوحة المياه الساحلية وارتفاع درجات الحرارة فيها، والتأثير سلباً على بعض الأنواع والأحياء البحرية. ويؤكد التقرير أن معظم المؤسسات العامة الرسمية في العالم العربي - التي تخدم الري أو الاحتياجات البلدية - مضعضعة ومخلخلة ولا تعمل بشكل صحيح، ولا تخدم زبائنها بفعالية، ولا يوجد أدنى تنسيق فيما بين تلك المؤسسات التي تقوم على إدارة المياه وتأمين خدماتها للمواطنين، كما أن آلية اتخاذ القرار من القمة إلى القاعدة تتم بلا مشاركة فاعلة للمجموعة المستفيدة. ويرى التقرير أن المياه المجانية هي مياه ضائعة، فأسعار المياه المنخفضة على نحو غير طبيعي، والدعم الكبير لخدمات المياه هما في أساس مشكلة انعدام الكفاءة، والاستخدام المفرط، والتلويث المرتفع، والتدهور البيئي (معدل ما يتم جبايته لقاء تزويد المياه في المنطقة لا يتجاوز 35 في المئة من كلفة الإنتاج والتوزيع، وفي حال مياه التحلية، فهو 10 في المئة فقط). وأما عن المشكلات التي تواجه إدارة المياه في المنطقة العربية فيشير التقرير إلى أنها مشكلات جمة وكبيرة جداً، مؤكداً أن حصر المعالجة بتطوير مصادر جديدة لم يعد خياراً قابلاً للحياة. وبالتالي فهناك حاجة ماسة وملحة لإجراء تحول استراتيجي من ثقافة تنمية مصادر وموارد المياه إلى ثقافة تحسين إدارة المياه، وترشيد الاستهلاك، وتشجيع إعادة الاستعمال، وحماية المصادر المائية من الاستهلاك المفرط الجائر ومن التلوث أيضاً.

وهنا يشدد التقرير على أنه وقبل الإقدام على استثمار أموال ومبالغ طائلة لزيادة إمدادات المياه، لابد من تنفيذ تدابير أقل كلفة لخفض خسارة المياه، وتحسين كفاءتها. وهو ما يعني ضرورة إعادة النظر بدور الحكومة، فيتحول من التركيز على دور المزود للمياه إلى دور الهيئة الناظمة والمخططة. ويضع التقرير شرطاً مهماً لتفعيل إدارة الموارد المائية على نحو مستدام، وهو ضرورة العمل على توسيع نطاق المعرفة حول المياه الجوفية والأراضي الرطبة والمستنقعات والبحيرات وأحواض الأنهار. إضافة إلى أنه توجد هناك العديد من تكنولوجيات الاستشعار عن بعد التي يمكن أن تساهم بمعلومات قيمة لإدارة أنظمة المياه الطبيعية واستكشاف مصادر المياه الجوفية. وينتهي التقرير إلى التحذير من أن الواقع المائي للعرب لا يحتمل خسارة نقطة ماء واحدة. مما يحتم على الحكومات القائمة أن تبادر من فورها إلى ما يأتي: تطبيق سياسات مستدامة لإدارة المياه، تقوم قبل كل شيء على الطلب لتأمين استخدام أكثر كفاءة، بحيث يمكن تحقيق هذا عن طريق فرض قيمة اقتصادية على المياه، يتم قياسها وفق القيمة الفعلية للمنتج النهائي استناداً إلى كمية المياه المستخدمة. تطبيق تدابير لفرض استخدام المياه بكفاءة، والتحول من استخدام الري بالغمر إلى أنظمة أكثر جدارة مثل الري بالتنقيط، وإدخال محاصيل تحتمل الملوحة، وتتطلب كميات أقل من المياه. تدوير المياه وإعادة استخدامها. تطوير تقنيات وتكنولوجيات رخيصة للتحلية. العمل على مزيد من الأبحاث العلمية والتعاون العلمي على المستوى الإقليمي لمجابهة تحديات الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ. مقاربة التقرير من زاوية سياسية: لا شك بأن التقرير الذي استعرضناه يعطي ويقدم لنا جميعاً صورة قاتمة عن الواقع المائي العربي (وهو جزء من واقع أشمل أكثر تخلفاً وتأخراً) الذي دخل فعلاً منذ وقت ليس بقصير في أزمة مياه حقيقية، نتيجة عدم وجود تخطيط ودراسات جدية عربية حول موضوع إدارة المياه في الأراضي العربية، ما أدى إلى وجود حالة شبه استخدام جائر واستنزاف أرعن لهذا المورد المهم والحيوي. وحالياً لا يوجد بلد عربي إلا ويشتكي من قلة توافر المياه، وخاصة مع حدوث تغيرات كبيرة في نظام الطقس والمناخ أدت وتؤدي باستمرار - من جملة ما تؤدي إليه - إلى ظاهرة انحباس الأمطار التي تشكل أحد أهم المصادر للمياه الجوفية والمياه التخزينية في السدود التي يمكن أن تستخدم في الري والسقاية وحتى للشراب بعد معالجتها طبعاً.

ولكن الأسئلة المطروحة هنا هي: هل يمكن أن تبادر النظم والحكومات السياسية العربية إلى اتخاذ الإجراءات العملية والسياسات اللازمة الفاعلة والمؤثرة، لبدء السير على طريق معالجة هذا الملف الخطير الذي بدأ ينذر بعواقب وخيمة على حاضر الإنسان العربي وحتى على مستقبله، وخاصةً مع ما بتنا نسمعه ونقرأه - منذ سنوات قليلة - من قلة المحاصيل الزراعية الاستراتيجية كالحبوب والقمح في بعض البلدان العربية التي تحولت - خلال فترة زمنية قصيرة - من منتج ومصدر للقمح إلى مستورد له؟ وهل لدى تلك الحكومات الإرادة الجدية والعزيمة والأسس والمعايير العلمية للبدء بخطط مواجهة تحديات أزمة المياه العربية؟

إننا نعتقد أن المؤتمرات والندوات التي تقيمها كثير من تلك البلدان للتحذير من مخاطر أزمة المورد المائي العربي لا تكفي، ولابد من العمل على الأرض أولاً وقبل أي شيء آخر، أي لا بد من البدء بمعالجة هذا الملف الشائك، ملف أزمة المياه العربية (على ضخامته وتعدد وجوهه) من تطبيق وإجراء إصلاحات سياسية ومؤسساتية في داخل الإدارات والمؤسسات في داخل النظم السياسية العربية. لأنه حتى اللحظة للأسف معظم تلك السياسات العربية المطبقة في البلدان العربية لمواجهة التحديات المصيرية المستقبلية المتصلة بأزمة المياه، لاتزال مجرد حبر على ورق، وكل المؤتمرات التي تعقد للبحث عن حلول ناجعة لأزمة المياه العربية سرعان ما تنتهي مفاعيلها بمجرد مغادرة الحاضرين مقاعد جلوسهم للأسف الشديد. وهذا حقيقةً أمر غير مستغرب في ظل وجود مؤسسات رسمية عربية مترهلة وغير مخططة، وعاجزة عن إدارة شئون مواطنيها (أقصد رعاياها، لأننا لم نرق بعد لتطبيق مفهوم المواطنة الحقيقي)، إضافة إلى هيمنة العقلية البيروقراطية الانتفاعية التكسبية المستبدة على طبيعة المؤسسات والإدارات السياسية وغير السياسية الرسمية العربية القائمة التي ليست مهتمة - بمعظمها - سوى بأمرين اثنين البقاء في الحكم ومراكمة الثروات. ومنه تطرح فكرة جدوى وأهمية التفكير في خصخصة عملية استخراج وتحلية وتوزيع الماء وتشجيع المنافسة في هذا المجال لتحسين جودة هذا المنتج الحيوي، وخفض تكاليفه أسوة بالتجارب الناجحة في هذا المجال في عدد من الدول الغربية والاسيوية والإفريقية، التي قامت بتدارك التبذير ونزيف موازناتها بخصخصة جزء من هذا المجال.

ويبدو لي أنه وفي المدى المنظور - وكنتيجة طبيعية لانهماك العرب في السلطة والصراعات السياسية القبلية واستنزاف جهدهم وطاقاتهم في هذا المجال - لا توجد حلول جدية فاعلة على الأرض لأزمة المياه العربية وخاصةً في ظل تفاقم الانقسامات الأفقية والعمودية العربية، وحال الترهل السياسية التي يقبع داخلها معظم العرب والمسلمين للأسف.

وفي ظني أنه سيحدث لأزمة المياه، ما حدث سابقاً، ويحدث حالياً للثروة النفطية التي درت على بعض العرب أرقاماً مالية خيالية، لم يعرف العرب استثمارها في اتجاهها الصحيح على مستوى قيام نهضة علمية بحثية حقيقية شاملة وليس فقط مجرد نهضة عمرانية فقط تعيشها كثير من تلك البلدان (سبق أن سماها أحد الأدباء بمدن الملح). فالعلم (الذي لا توجد ثقافة في العالم حثت وحضت عليه كالثقافة الإسلامية كما يقول معظم أتباعها) هو أساس بناء الحضارات والمجتمعات والأمم، ليس العلم المستهلك المستورد والمشترى من عند الآخرين، ولكنه العلم النابع من وجود أرضية وأسس ومعايير علمية وبنى تحتية عربية حقيقية في داخل تلك البلدان التي أنهكها التخلف العقلي والفكري، والقبلية السياسية والاجتماعية، والاستبداد السياسي والديني، واستمرار هيمنة هوية (وعقلية) الخوف من الآخر

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 3178 - الجمعة 20 مايو 2011م الموافق 17 جمادى الآخرة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً