العدد 3213 - الجمعة 24 يونيو 2011م الموافق 22 رجب 1432هـ

من البداية حتى اليوم: نظرات في تاريخ اليهود في البحرين (2 - 2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

يمثل تاريخ الجالية اليهودية في البحرين نقطة اهتمام لدى الباحث في العلوم السياسية عرضناها في الجزء الأول من هذا المقال، حيث تناولنا كتاب نانسي خضوري الصادر باللغة الإنجليزية بعنوان: «تاريخ اليهود في البحرين منذ البداية حتى اليوم».

وعنوان الفصل الرابع عشر هو الخروج مستخدمة كلمة (Exodus) التي وردت في التوراة عند خروج اليهود من مصر الفرعونية في عهد سيدنا موسى، وتشير الكاتبة إلى خروج اليهود من البحرين العام 1947م – 1948م، بعد قيام إسرائيل وكذلك الخروج الثاني بعد حرب 1967م، لكنها تؤكد أكثر من مرة في الكتاب أن اليهود الذين خرجوا من البحرين لم يكن يضغط عليهم أحد ولم يجبرهم أحد على الخروج وإنما بإرادتهم الحرة.

في الفصل العشرين، تتحدث عن عائلة «خضوري» ويبدأ تاريخها بحضور «جوزيف خضوري» جد المؤلفة للبحرين، بدلاً من ذهابه إلى هونغ كونغ، وكان جدها ابن سيدة نمساوية وأب عراقي، وعلى درجة عالية من التعليم والخلق الرفيع، وقد التقى جدها مع زوجته في العراق، وعندما حضر إلى البحرين عمل مع إحدى العائلات الكبيرة مديراً، وحقق نجاحاً كبيراً في الأعمال لكنه ترك تلك العائلة عندما شعر بأنها لا ترغب في عمل شراكة معه، ولذلك أقام شركته مستقلاً في سوق اليهود ثم في باب البحرين في المنامة في الثلاثينات من القرن العشرين، وكان يتاجر في عدة سلع منها زيت الزيتون، ثم أصبح من كبار المستوردين والمصدرين في السجاد والستائر والأثاث، ثم شارك في أعمال صديقه «حسين يتيم» والذي كان من كبار أصحاب الأعمال وإنشاء بعض دور السينما منها سينما النصر وسينما الحمرا.

الفصل الحادي والعشرون له طبيعة خاصة (التربية والنمو كيهودية في البحرين)، حيث تسرد فيه المؤلفة حياتها الخاصة كتلميذة يهودية في مدرسة كاثوليكية في البحرين تديرها راهبات إيطاليات، كما تستذكر حصة الدين التي كانت تقدمها لهم مدرسة سودانية عن الإسلام، وتذكر أن هذه المُدرسة كانت غائبة ذات مرة فقدمت الحصة راهبة إيطالية، فقرأت سورة الفاتحة وشرحتها باللغة العربية بصورة مذهلة. وكانت «نانسي» هي اليهودية الوحيدة في المدرسة ولم تشعر بأي تمييز ضدها، ولا بأية مشاعر غير مواتية، وعشقت المدرسة وأحبت المدرسات وناظرة المدرسة، وكانت المدرسة تقدم تعليماً متميزاً، وأقامت صداقات مع زميلاتها ومع مدرساتها وناظرة المدرسة، وعندما تخرجت في المدرسة، كانت هالة العمران الوكيلة المساعدة للإذاعة والتلفزيون (سابقاً) مع مديرة المدرسة هي التي قدمت للطالبات شهادات التخرج. وتذكر أنها كلما تلتقي مع زميلاتها يتذكرن المدرسة وطموحاتهن وأحلامهن، وكل واحدة منهن تعرف نقاط قوة وضعف الأخرى، ويتحدثن عن ذلك من دون رسميات وبمودة. وفي نهاية هذا الفصل، تسرد مشاعرها عند وفاة والدها «إيلي جوزيف خضوري» العام 1995م، في لندن وهي مشاعر فياضة بالمحبة والرجاء والخوف من المستقبل، وقد اضطرت إلى العودة إلى البحرين لإدارة أعمال والدها، واستكمال دراستها القانونية بالمراسلة.

وفي الفصول الثاني والعشرون وحتى الخامس والعشرين، أي نهاية الكتاب تسرد المؤلفة العادات والتقاليد اليهودية في الأفراح والأتراح والعبادة والزواج وغير ذلك من المناسبات الدينية والاجتماعية، كما تعرض لأنواع المأكولات لليهود العراقيين في البحرين.

وفي نهاية عرض أهم ملامح الكتاب، نود الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات:

الأولى: أن الكاتبة كما هو واضح من الكتاب، ومن ذكرياتها، تفيض حبّاً للبحرين كوطن ولأسرة آل خليفة كحكام للبلاد، كما تعبر عن اعتزازها بمدرساتها وبحياتها في البحرين، وهي في الوقت نفسه لم تنس أصولها العراقية اليهودية، وتراثها وثقافتها. وقد بدأ الكتاب بصورة قادة البحرين وبعبارة (يا بحرين نحن نحبك).

الثانية: حرصت الكاتبة على البحث والتنقيب عن الأسر والعائلات اليهودية في البحرين منذ قدوم اليهود إليها في أواخر القرن التاسع عشر من العراق وإيران وقلة من أصول هندية أو تركية، وكان البحث عن ذلك مهمة شاقة لقلة المعلومات، ولكن على ما يبدو كان لدى الباحثة دأب وإصرار ومثابرة لجمع كل المعلومات بما في ذلك الشهادات الدراسية لبعضهم، وعقود الإيجار للمساكن والمحلات، والبيوع والتجارة والصور الشخصية التي تحمل ذكريات خاصة، وتسجل مواقف في حياة هؤلاء الأفراد.

الثالثة: تميزت الكاتبة بالتعبير عن العرفان والامتنان كتابة لكل من ساعدها في جمع تلك المعلومات من الأسر البحرينية، وذكر أسمائهم، وكذلك أسماء اليهود والرهبان المسيحيين وغيرهم، وهذا هو نمط الكتابة التقليدي في الحضارة العربية، وهو نمط سائد حاليّاً في الكتابات الغربية، وهو نمط للأسف تراجع إلى حد كبير في الكتابات العربية الحديثة.

الرابعة: كانت الكاتبة دقيقة في سرد الوقائع والأحداث عن حياة اليهود في البحرين وتراثهم ودورهم في التجارة المتنوعة وعلاقاتهم الاجتماعية، ودراساتهم وثرائهم وفقرهم في الوقت نفسه، وكيف واجهوا صعوبات الحياة في العراق آنذاك، وهاجروا بحثاً عن الرزق في البحرين، وأوضحت مدى ما تتمتع به البحرين وشعبها من انفتاح على الأجنبي، وتسامح في التعامل ومودة تجاه الآخر مهما اختلفت الأصول أو العقائد أو الأديان.

الخامسة: أن الكتاب – بلا شك – يعد توثيقاً مهمّاً لتاريخ جالية بالغة الصغر في البحرين، والتي وصلت في أوج قوتها العددية إلى ما لا يزيد على 500 شخص، وتراجعت إلى 36 شخصاً وهذا عمل تستحق الباحثة التهنئة عليه، وكم يتمنى المرء أن يسجل تاريخ وذكريات أسرته أو قريته أو مدينته، ولكن مشاغل الحياة كثيرة فلا تسمح له، ولكن ربما أيضاً ليس كل فرد منا يهتم بتسجيل ذلك، وهو الأمر الذي ينبغي أن نعود أنفسنا عليه.

السادسة: تناولت الكاتبة مجالات العمل المتنوعة التي عمل بها اليهود البحرينيون من الصيرفة والتدريس والتمريض وتجارة المنسوجات إلى الأعمال البسيطة مثل بيع العصير وبعض المشروبات والمأكولات إلى مهنة القابلة وخاصة «أم جان» التي تعرفها الأجيال القديمة من البحرينيين لشهرتها في أعمال التوليد آنذاك.

السابعة: وهي بالغة الأهمية ونكررها كثيراً هذه الأيام لكنها قديمة، ربما قدم التاريخ البشري، وهي أساس التقدم والحضارة والرقي والحراك الاجتماعي حول دور التعليم المتميز والإبداعي، وحرص المدرسة على تنمية مواهب الطلاب والطالبات، والأنشطة الاجتماعية والثقافية في المدرسة التي تبلور شخصية الطالب أو الطالبة، وتجعله إنساناً سويّاً في فكره وسلوكه وتعامله مع الناس، وهذا ربما كان في التعليم في الماضي. وأتذكر هذا في طفولتي ولكن على ما يبدو أن هذا النوع من الاهتمام قد تراجع لمصلحة فكر منغلق ومتعصب ينشر ثقافة الإحباط والانعزال وكراهية الآخر، بدلاً من ثقافة المحبة والتسامح واحترام الآخر، وتشجيع التفاعل الاجتماعي بين التلاميذ من الجنسين. إن المدرسة الكاثوليكية التي تربت وتعلمت فيها الكاتبة هي نموذج للنوع السليم من مناهج وأساليب التعليم، وأتذكر أيضاً من حياتي الشخصية أنني في المرحلة الابتدائية التحقت بمدرسة كانت ملحقة بكنيسة في إحدى قرى صعيد مصر، وكان الطلاب المسلمون يمثلون تقريباً نصف الطلاب، أو ربما أقل قليلاً، وكان المدرسون المسيحيون يحثوننا على تعلم الدين الإسلامي، ويزودوننا بالمصاحف للقراءة منها في حصة الدين، وفي المرحلة الإعدادية التحقت بمدرسة تسمى الخيرية الإسلامية في مدينة أسيوط، وبها طلاب ومدرسون مسلمون ومسيحيون ولم نعرف التفرقة، وكذلك في الجامعة. كان التعليم مختلطاً آنذاك – ليس فقط بين الجنسين – وإنما بين أصحاب الأديان والعقائد، وهذا جعل التلاميذ أسوياء اجتماعيّاً بعيدين عن التعصب والتطرف وفكر الكراهية.

ونتساءل، هل تقبل المجتمعات الحديثة الآن العودة إلى ممارسة المدرسة الموحدة التي تضم جميع العقائد والأديان والطوائف والأعراق؟ إن المدرسة هي بوتقة المجتمع وهي حاضنة للتنشئة الاجتماعية، وإن المدارس الدينية الحالية ينبغي أن تنفتح على جميع طوائف المجتمع أسوة بما كان يحدث في مدارس الإرساليات والمدارس الوطنية في الماضي، أياً تكن التسميات. ولعل هذا ما يعزز التلاحم والتفاعل بين أبناء وبنات المجتمعات الحديثة، حيث يتركز التفكير على العلوم العملية والاجتماعية النافعة والعناصر المشتركة بين كل شعب، بل بين الشعوب وليس على نقاط الاختلاف.

لعل ذلك هو العبرة من الاطلاع على كتاب نانسي خضوري عضو مجلس الشورى في البحرين، وهو ما جعلني أعجب بصراحتها وصدقها في الكتابة، وفي ذكر الأحداث والوقائع حتى عندما تناولت ما تعرض له اليهود العرب بعد قيام إسرائيل، وضغوطها عليهم للهجرة، أبرزت نانسي أن من هاجر من البحرين كان ذلك بمحض إرادته، وليس بضغوط من المجتمع البحريني، وإشادتها بتسامح البحرين وعائلاتها من مختلف الطوائف والأسر، وعندما أشارت إلى الصعوبات المعيشية التي واجهتها بعض الأسر اليهودية لمستها برقة لأنها حرصت على التركيز على الإيجابيات بدلاً من السلبيات التي قد تثير ذكريات غير مواتية

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3213 - الجمعة 24 يونيو 2011م الموافق 22 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 8:06 ص

      أحسنت يا أبا جاسم فعلاً موضوع للعبرة والاعتبار

      دائماً تسرد علينا جدتنا المنامية عن تعايش البحرينيين السلمي المتسامح دون النظر لا للمذهب ولا للدين، وكثير ما تردد "عيسى بدينه وموسى بدينه" ، كذلك أمهاتنا وآباؤنا كانوا متعايشين في وئام وما زالوا يتذكرون أيامهم السعيدة في المدرسة الأمريكية الإرسالية (الرجاء حالياً)، حيث تختلط فيها جموع من المدرسات والطلبة والطالبات من الذيانات السماوية الثلاث. ...........

اقرأ ايضاً