العدد 3276 - الجمعة 26 أغسطس 2011م الموافق 26 رمضان 1432هـ

رهان الثورات العربية: مصر نموذجاً

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

تمر مصر الآن بواحدة من أكثر المراحل مفصلية في تاريخها. لقد أسقطت الثورة المصرية في 11 فبراير/ شباط الماضي نظاماً استبدادياً وأنهت نظام التوريث المدمر بشجاعة وقوة وزخم. لكن الثورات لا تنتهي بمجرد تغيير رأس النظام وحكومته ومراكز القوى الأساسية المرتبطة به. فعلى سبيل المثال انتهت الثورات الشيوعية والدينية في التاريخ إلى تشييد نظام يعتمد على احتكار جديد للسلطة في ظل عزلها للقوى الأخرى في المجتمع. أما في الثورات الديمقراطية التي شهدها الربع الأخير من القرن العشرين فقد اختلف الأمر لأنها بطبيعتها سعت لبناء إطار تعددي مفاده مرجعية الشعب في ظل التداول على السلطة وحماية الحريات وتنمية العدالة الاجتماعية.

هذا يفسر ما وقع في أوروبا الشرقية وفي أميركا اللاتينية وفي جنوب أوروبا وفي دول عدة في آسيا. لهذا فعودة المصريين إلى الميادين في 8 يوليو/ تموز لا يخرج عن السياق الديمقراطي، فمصر حتى الآن لم تستكمل ديمقراطيتها، وهي تعيش مرحلة انتقال متعرجة وشديدة الوعورة في ظل سعي لتكملة الثورة لصالح الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والإصلاح.

لقد بدأت في مصر في 8 يوليو ملامح مرحلة جديدة تتضمن التأكيد على أولوية العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وضرورة إصلاح المؤسسات الأمنية والإصرار على محاكمة ضباط الشرطة الذين قتلوا متظاهرين أثناء الثورة، وهذا يتضمن محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك والمرتبطين بنظامه. وفي الوقت ذاته هناك رفض في الشارع المصري لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، بل المطالبة بتحويلهم إلى القضاء المدني.

إن ما وقع في مصر في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط الماضيين ثورة لكنها غير مكتملة. هذه الثورة تبحث عن انتقال حقيقي للسلطة ومصدر الشرعية إلى الشعب وبالتالي انتخابات وكتابة دستور جديد وطرق لتنمية القوى الاجتماعية المحركة للثورة. لنتذكر أن البرتغال احتاجت عام ما يقارب شهراً للوصول إلى حالة استقرار تخللتها فوضى وصراعات واضطرابات وانقلاب عسكري فاشل.

إن الحاضن للثورة المصرية مرتبط بتغيير كبير طرأ على سيكولوجية الشعب المصري، الذي انتقل من السلبية إلى المبادرة، وذلك بصفته مصدر الشرعية ومصدر الحكم الرئيسي. هذا الانتقال يجعل الشبان في الميادين أكثر قدرة في المرحلة الراهنة على تحريك الناس وكسب الأنصار لمطالبهم، وهم لهذا يمثلون جوهر حراك المجتمع المصري الجديد بعد الثورة. هناك نبض في الشارع المصري يستشعر به الثوريون ويسعون لترجمته في صورة مطالب تطرح في الميادين.

وتعيش مصر في المرحلة الانتقالية بين ثلاثة تناقضات: فهناك المجلس العسكري الذي يدير المرحلة الانتقالية بتحفظ بينما تنقصه الخبرة السياسية، وهو المجلس الذي يمثل سلطة الجيش التاريخية في مصر، وهناك من جهة أخرى الثوريون ممن حركوا ثورة يناير وممن يسعون لتحريك المجتمع نحو مركزية المطالب التي يميل إليها الشارع وتعبر عن ثورته وحالته الجديدة، وهناك أيضاً حكومة عصام شرف التي تقف في الوسط بين المجلس العسكري وبين الثوار المجددين، هذه الحكومة الانتقالية لديها بعض التأثير وهي خليط من الجديد ومن النظام السابق. ولكنها تملك جزءاً من القرار وتعيش وسط العاصفة.

ولكن لنجاح المرحلة الثانية من الثورة المصرية لا بد من أن ُتفعِّل الثورة من ذكائها الفطري، وأن تسعى باتجاه إدارة الوضع لصالح مطالبها. على الثورة الانتباه لسلسلة الخيوط الرفيعة التي يؤدي عدم التعامل معها إلى تأخير قدرة الثورة على استكمال مشروعها الديمقراطي الذي يكتسب المعنى الأهم بالنسبة إلى مصر والعالم العربي المحيط بها. لنأخذ على سبيل المثال ذلك الخيط الرفيع بين سعي المجتمع المصري وقطاعات كبيرة منه للعودة إلى حياة طبيعية وبين زخم الثوريين والنشطاء الساعين لتعميق مكاسب الثورة. إن الثورة في مصر مطالبة بتعميق الثورة، لكنها في الوقت نفسه مطالبة بالبحث عن طرق للانتقال بثمن أقل لبقية المجتمع، وهذا يجب أن يجعلها حساسة في دفع الأوضاع نحو الحافة. ويمكن القول إن المؤسسة العسكرية أو قطاعاً منها يراهن على فتور الشارع قبل التحرك لفض الميادين وهذا يتطلب نباهة من قوى التغيير المصرية.

أما الخيط الثاني الذي يتطلب مراعاة فيرتبط بالتعامل مع الذين عملوا مع النظام السابق. فالثورات تقصي عادة كل ما يمت بصلة للنظام السابق، لكن في الثورات الديمقراطية كالثورة المصرية من الطبيعي أن يكون الوضع مختلفاً. وهذا يعني البحث عن ذلك التوازن الذي يمنع بحزم قوى النظام السابق من التسلل إلى الانتخابات المقبلة وإفسادها من جهة وبين الحاجة إلى التسامح والمصالحة والبدء من جديد من جهة أخرى. هذه معادلة صعبة لن يكون التعامل معها يسيراً. كي تنجح الثورة يجب أن تكون هناك محاكمة لكل الذين قتلوا متظاهرين، ويجب حتماً محاكمة رموز النظام السابق مع الإصرار على إصلاح الأجهزة الأمنية القمعية، لكن في الوقت نفسه يجب عدم ملاحقة أو عزل كل من قمع الناس وزوّر الانتخابات. إن نموذج الملاحقة والعزل الذي مورس في العراق بعد بحق «البعث»، كما الذي مورس في إيران بعد انتصار الثورة عام تحوّل إلى كارثة على العراق وإيران لأنه استهدف كل بعثي بغضّ النظر عن ممارساته وأعماله ومدى ضررها على المجتمع الأوسع. إن القوى التي تشعر بالعزلة الشديدة لديها كل المصلحة للتكتل وافتعال مشكلات والتحالف مع قوى أخرى محلية وخارجية من أجل إفشال التغيير الذي يهم المصريين. يجب توافر أسس متزنة تراعي المستقبل في التعامل مع أنصار ومؤيدي العهد السابق ممن لم يسيئوا إساءات بالغة للمجتمع، وخاصة أن في صفوفهم الكثيرين ممن يمكن كسبهم لقضية التغيير والديمقراطية. إن التسامح في الثورات الديمقراطية فلسفة كاملة تسمح بتطمين فئات كبيرة ممن ارتبطوا بالعهد القديم ممن لديهم القدرة على تغيير مسار الثورة لو توحدوا ضدها.

إن نجاح الثورات في الانتقال نحو مجتمع ديمقراطي يتطلب سرعة في بناء أساسيات الحكم الديمقراطي والرشيد، وهذا بطبيعة الحال أصعب من صناعة الثورة نفسها. ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا أن على مدى ألوف السنين تعودت مصر على أنظمة استبدادية وأنظمة لا تساءل وعلى عسكريين يحكمون البلاد من دون أن تحدهم دساتير أو قوانين أو إجراءات. كما اعتادت مصر على قادة يحتكرون السلطة والاقتصاد ولا يهتمون إلا بأزلامهم وأتباعهم المباشرين. إن الأساس في تاريخ مصر والتاريخ العربي (مع استثناءات قليلة) هو فردية وعليائية السلطة. إن الانتقال نحو حوكمة حقيقية تتضمن شفافية وتحديداً لصلاحيات السلطة سيتطلب الكثير من الجهد والعمل. لهذا يتردد المجلس العسكري في مصر في تلبية مطالب الثورة. التحول الديمقراطي بالكاد بدأ وطريقه سيمتد إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية وكتابة الدستور الجديد.

إن ولادة الدستور الجديد في العام المقبل أمر أساسي في تحديد المستقبل الديمقراطي لمصر، وذلك في ظل انتخابات شفافة لبرلمان جديد وانتخابات لرئيس جديد مع العمل على تمكين استقلالية القضاء وإرساء تقاليد جديدة في مؤسسات الدولة. الديمقراطية الجديدة ستتطلب مقدرة عالية على ربط المواطن بآليات المشاركة، أكانت مكونة من أحزاب وتيارات ومؤسسات ومجتمع مدني. في هذا الإطار يصبح المجتمع المدني والحراك الراهن المرتبط به وبمطالب المجتمع كما هو الآن أساسياً في مشروع تعميق الثورة المصرية. إن مصر المستقبل لا بد أن تلتفت استراتيجياً وبعمق إلى الاقتصاد والتعليم والقطاع الخاص في ظل الشفافية والرقابة ومحاربة الفساد وفتح الفرص المتساوية لكل المصريين وفق معايير واضحة للكفاءة.

لقد نجحت الثورة المصرية في إسقاط الرئيس والمحيطين به وهذا يمثل الخطوة الأولى في مشروع الثورة الديمقراطية المصرية التي ستخوض سلسلة من التحولات من أجل الوصول إلى أهدافها. لكن الثورة مطالبة باعتماد أساليب ووسائل تسمح بإدامة دعم المجتمع لها، كما أنها مطالبة باكتشاف طرق للانتقال إلى مرحلة التغيير الديمقراطي الأعمق بأقل الأثمان الممكنة للمجتمع المصري. توازنات المرحلة المقبلة شاقة وصعبة ولكن خوض غمارها لصالح استكمال التحول الديمقراطي لا يمكن تفاديه وفاءً لدماء شهداء الثورة المصرية وانسجاماً مع فكرة حان وقتها: «الشعب مصدر الشرعية ومصدر كل السلطات»

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 3276 - الجمعة 26 أغسطس 2011م الموافق 26 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً