العدد 33 - الثلثاء 08 أكتوبر 2002م الموافق 01 شعبان 1423هـ

المياه العذبة... بيئة وحضارة

ارتبطت الحضارات القديمة ومراكزها بمصادر المياه العذبة إن كانت أنهارا أو عيونا طبيعية، ولم تكن البحرين القديمة أو دلمون استثناء. ونظرا إلى دور المياه العذبة الأساسي في الزراعة ووصولها إلى درجة القدسية في الديانات القديمة، فقد شيد الإنسان القديم معابده بالقرب من منابع المياه، وابتكر قنوات الري التي أوصل من خلالها تلك المياه إلى المزارع والحقول.

ومازال يتردد صدى الأساطير السومرية القديمة ومكانة دلمون ومياهها العذبة ومنها ما أجاب الإله «انكي» ابنته ننهورساغ في طلبها لتزويد دلمون بالماء العذب:

ليقم أوتو المستقر في السماء

أن يحضر المياه الحلوة من الأرض

من مصادر المياه في الأرض

دعيه يحضر المياه في خزانات كبيرة

دعيه يجعل مدينتك تشرب المياه منها في وفرة

دعيه يجعل دلمون تشرب المياه منها في وفرة

ولتكن آبار المياه المرة آبارا للماء العذب

فلتنتج أطيانك وحقولك المتجددة قمحها

ذلك مقطع من الأسطورة التي توضح العلاقة بين الحضارة في البحرين القديمة والمياه العذبة التي كانت تتدفق من باطن الأرض لألوف السنين والتي ساهمت بشكل أساسي في استقرار الحضارات المتتالية على هذه الأرض الطيبة. وقد كانت أرض البحرين تتفجر عيونا طبيعية مكونة نظاما بيئيا فريدا في الجزء الشرقي من الجزيرة العربية التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية.

لقد ساهمت تلك العيون في تهيئة الظروف المناسبة لاستصلاح الأراضي وزراعة الكثير من المحاصيل أهمها النخيل التي تعتبر رمزا وطنيا وجزءا أساسيا من تراث البلاد الطبيعي. وإلى وقت قريب كانت بساتين النخيل عبارة عن بيئة طبيعية مرتبطة بالمياه العذبة وتغطي مساحات كبيرة من شمال جزيرة البحرين وغربها وشرقها إضافة إلى المحرق وسترة وجزيرة النبيه صالح، وعليه فقد أطلق على البحرين بلد المليون نخلة وهو دلالة على العدد الهائل من النخيل الموجود في بقعة صغيرة كجزر البحرين. فلا يغيب عن بالنا بساتين النخيل الكثيفة المحيطة بغالبية العيون الطبيعية المشهورة مثل عذاري وقصاري وعين الرحى والسفاحية وغيرها.

ولم تكن تلك الواحات الخضراء الجميلة مجرد خزانات ماء استخدمها الإنسان في حياته اليومية لشربه ومأكله وزراعته، وإنما شكلت موقعا بيئيا متميزا وجدت فيه الكثير من الكائنات الحية التي نشأت بينها علاقات معقدة واعتمد بقاؤها على التوازن الذي حافظت عليه تلك المكونات الطبيعية لمئات السنين. ولقد اجتذب الماء والشجر أنواعا مختلفة من الحيوانات التي ارتبطت بشكل مباشر بالمياه العذبة مثل سلاحف المياه العذبة «الغيلم» والضفادع والأسماك الصغيرة «العفاطي» والرعاش «البوبشير أو الغزال»، إلى جانب الطيور والحيوانات الأخرى التي كانت لها مكانة خاصة في ذلك النظام البيئي. لقد كان من الطبيعي - مثلا - مشاهدة أنواع مختلفة من الطيور في البساتين إن كانت مقيمة مثل البلابل والتمر أو مهاجرة مثل السمن والشول والبط.

كانت مناطق العيون في البحرين عبارة عن منتزهات طبيعية يردها الناس من كل أنحاء البلاد للسباحة والاستمتاع بالطبيعة الجميلة والهواء العليل. وقد أشار الطائي في «التحفة النبهانية» بعد زيارته لجزر البحرين في مطلع القرن العشرين إلى أن هناك ما يزيد عن 200 عين تسيل في بر البحرين إلى جانب العيون البحرية. ونظرا إلى مكانة تلك العيون بدأ برنامج للصيانة والترميم لبعض العيون الكبيرة مثل عذاري وقصاري في أوائل القرن الماضي بإشراف مباشر من المستشار البريطاني بلجريف. وكان في اعتقاد الكثير من الناس آنذاك أن المياه المتدفقة من الأرض لا تنضب ولا تتغير، ولكن في منتصف القرن الماضي بدأت علامات الإنذار تظهر للمختصين عندما أشارت دراسة أجرتها شركة «بابكو» في العام 1953 إلى أن كمية تدفق المياه من العيون بدأت في التراجع. وبشكل متواصل تناقص منسوب المياه والرقعة الزراعية، فقد ساهم الزحف العمراني والإسراف في استخدام المياه وحفر القنوات الملاحية في تناقص واضح في مخزون المياه الطبيعية مما أدى إلى تدهور العيون الطبيعية وازدياد نسبة الملوحة في مياهها ما أثر سلبا على المناطق الزراعية والمكونات الطبيعية الأخرى المرتبطة بها. ومن أهم الحيوانات المرتبطة بشكل مباشر ببيئة المياه العذبة التي تضررت بشكل كبير بعد نضوب العيون الطبيعية:

1- سلحفاة المياه العذبة «الغيلم»: النوع الوحيد الموجود في البحرين وكان منتشرا في غالبية مناطق العيون الطبيعية، وبخلاف بعض السلاحف الموجودة في العرين أو الحدائق الخاصة فإن هذا النوع قد انقرض كليا من البحرين.

2- ضفدع المستنقعات «الفشدغ»: مازالت بعض الضفادع موجودة في مناطق مختلفة من البلاد وخصوصا في القنوات الزراعية أو مصارف المياه، ولكن يخشى كذلك أن هذه الأعداد ستتناقص بشكل كبير في السنوات القادمة نظرا إلى زيادة الملوحة في المياه التي تعيش فيها والتي ستوجد لها مشكلة كبيرة بالنسبة إلى فقس البيوض والتكاثر إذ أن الضفادع لا تتحمل العيش في مياه ملوحتها عالية.

إن بيئة المياه العذبة في البحرين هي جزء أساسي من تراثنا الطبيعي، وليست العيون والمياه وحدها باقية في ذاكرة الإنسان البحريني، بل إن الحيوانات الموجودة من أسماك وضفادع وسلاحف هي جزء من الطبيعة التي لا يمكن إغفالها عند التحدث عن هذه البيئة الفريدة. إن المشاريع التي نطمح إلى رؤيتها هذه الأيام هي التي نأمل في أن تعيد جزءا من بيئة العيون الطبيعية وكذلك الكائنات المرتبطة بهذه الأرض قبل أن تنقرض تماما من البلاد. إن إعادة تأهيل بعض المناطق ليست بالمعجزة والمستحيل، فكثير من البلدان أعادت تأهيل مناطق طبيعية مرة أخرى بعد ضياعها. وإن إعادة إدخال الحيوانات إلى مناطقها الطبيعية بعد إكثارها في الأسر تحدث بشكل مستمر حولنا، فهل نرى مشروعا يعيد لنا جزءا مما فقدناه؟

العدد 33 - الثلثاء 08 أكتوبر 2002م الموافق 01 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً