العدد 3346 - الجمعة 04 نوفمبر 2011م الموافق 08 ذي الحجة 1432هـ

لماذا نخوض المعارك؟

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

في حرب طروادة الشهيرة، استمر حصار الأثينيون حول المدينة المحصنة عشر سنوات حتى تمكنوا أخيراً من خداع الطرواديين بالحصان الخشبي. لم تكن تلك الحرب مجرد خلاف بين مدينتين، بل كانت إحدى أضخم الحروب الأسطورية في التاريخ، فطرّزها هوميروس في إلياذته الشهيرة، حيث امتلأت معاركها بقصص البطولة والخيانة والصبر والحب وغيرها. إن حرب طروادة هي نسخة مصغّرة من حياة الإنسان، فالحياة ساحة حرب عملاقة، تملؤها المعارك وتستخدم فيها مختلف الأسلحة الإنسانية، وهناك من يخرج في نهايتها وهو ممتنٌ لكل التجارب التي منحته إياها، وهناك من يُعلن استسلامه في إحدى معاركها ليعيش أسيراً للفرضيات والظروف التي تفرضها عليه الحياة.

كُلنا مقاتلون، شئنا أم أبينا، ولكن الفرق بيننا أن هناك من يُحسن تدريب نفسه قبل كل معركة ويستعد لها بالسلاح المناسب، وهناك من يركن للدعة وينغمس في اللذات حتى إذا ما دقّت طبول الحرب أُسْقِطَ في يده وسقط عند أول المواجهة.

لا تيأس من خوض معارك الحياة، فلكل معركة غنائمها، وتلك التي تخسرها تُقويك للمعركة التالية. إن كثيرا ممن انتصروا في معارك عظيمة حققوا ذلك بقوة تحمّلهم لا بقوة أذرعتهم.

لو توقفت المعارك في حياة أحدنا لأصبحت حياته مملة جداً وباهتة، تتشابه فيها أيامه حتى يصير عمره كله يوما واحدا، كئيبا في أغلب الأحيان.

ليس بالضرورة أن تكون معاركك دموية، فالحب معركة بين الواقع والأمنيات، والنجاح معركة بين التشاؤم والطموح، حتى الإيمان معركة ممتعة لا يمل الإنسان من خوضها كلما ارتاد بحر المعاصي.

نحب المعارك لأنها تجعلنا نستخدم حواسنا كلها، تدفعنا لاستخراج طاقاتنا المكنونة، واكتشاف مواهبنا المدفونة، وفي المعركة فقط يُقدّر الإنسان المتعة التي يجدها في كل استراحة، فلولا المشقة ما استمتع الإنسان بالسعادة.

بعض المعارك تقربنا من الموت، تهز عروش الاستقرار التي تَكَدّسنا عليها طويلا، وتقوض حصون الدعة التي نختبئ في داخلها؛ ثم تعرينا من مخاوفنا وتدفع بنا لنقفز من على حافة الجبل. إن من يخشى السقوط لن يذوق لذة الطيران، ومن يخشى الموت لن يذوق طعم الحياة. المعارك تقربنا من الموت، تضعنا وجها لوجه مع النهايات؛ ثم تغرينا لصناعة بدايات جديدة. ما اقترب أحدنا من الموت إلا صار للحياة أقرب.

ليس مهما أن ننتصر في كل المعارك، ولكن هناك معارك علينا أن نكسبها مهما كان الثمن، ليس لغنائمها أو لننتصر فيها، ولكن لنكسر حاجز الخوف الذي بداخلنا؛ فمن يتغلب على خوفه ينتصر قبل نهاية المعركة.

يروي روبرت غرين في كتابه «القوانين الثمانية والأربعون للقوة» أنه أثناء حروب الممالك الثلاث في الصين (207 - 265م) كان الجنرال الكبير تشوكو ليانغ، يرتاح في مدينة صغيرة بعد أن أرسل جيشه إلى المعسكر، وبينما هو كذلك، هرع إليه أحد جنوده ليخبره بأن غريمه، القائد سيما يي، يقترب بجيش قوامه مئة وخمسون ألف مقاتل، وعندما أدرك تشوكو أن عودة جيشه ستستغرق أياما، أمر جنوده بأن يفتحوا أبواب المدينة وينزلوا أعلامها ويختبئوا، ثم لبس جلبابا طاويّا وجلس على مكان بارز من السور وبدأ يعزف على العود. وبعد دقائق لاحظ الجيش العدو وهو يقترب منه؛ فتظاهر بأنه مشغول بالعزف، وما ان اقترب الجيش حتى عرفه سيما يي ومن معه، فتحمس الجنود لدخول المدينة والنيل من عدوهم الذي أنهكهم طيلة أعوام طويلة، ولكن سيما توقف يتأمل الرجل قليلا ثم أمر جيشه بالانسحاب!

كان تشوكو ليانغ معروفا بلقب (التنين النائم) وكانت منجزاته في حرب الممالك الثلاث أسطورية، كما يصفها غرين، ولذلك لم يُصدق سيما أنه جالس هناك لوحده؛ وظن بأن في الأمر مكيدة ما.

بعضنا يُشبه تشوكو كثيرا، يحرص طوال حياته على الحفاظ على سمعته في المعارك التي يخوضها من أجل لحظة مثل هذه، حين يتجرد من كل قوة ويعجز عن الحصول على مساعدة، في هذه اللحظات الحاسمة في حياة المقاتل، وكلنا مقاتلون في الحياة، تصير سمعة المرء أقوى سلاح يملكه.

وبعضنا يشبه سيما كثيرا، يتردد قبل المعركة فيخسرها حتى قبل أن يخوضها. إن المقاتل الحقيقي هو الذي يُدرك أن هزائمه هي دورة تدريبية باهظة الثمن، ولذلك فإنها عظيمة المنفعة.

بعض المعارك نخوضها بالبكاء، إنها المعارك القلبية، فالبكاء وحده من يجعل احتمال الألم عملا مستساغا، إنه المطهر الذي نضعه على الجروح. يتعارك العقل مع القلب كثيرا، فالعقل يريد أن يحارب في بعض المعارك بالكلام، أما القلب فإنه يستخدم الصمت لكسر عزيمة خصومه. يستطيع الصمت أن يعقد أفضل اتفاقية سلام لو أتقنه بنو البشر.

الحياة مليئة بالمعارك، فاتخِذ الإيمان بالله درعا، ثم الإيمان بالنفس سلاحا، وتذكر أنك لا تُحارب لوحدك إن أحسنت اختيار معاركك. الحياة قصيرة جدا فلا تضيعها أسيراً، وتمتع، كمقاتل، بكل المعارك التي تخوضها؛ فذلك وحده كفيلٌ بأن يخلّد اسمك

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3346 - الجمعة 04 نوفمبر 2011م الموافق 08 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً