العدد 3350 - الثلثاء 08 نوفمبر 2011م الموافق 12 ذي الحجة 1432هـ

مدن تصنع الحضارة!

سليمان الهتلان comments [at] alwasatnews.com

-

يردد بعض المسئولين العرب على مسامعنا، منذ عقود، مقولة بالية مفادها: «التنمية ليست بناء المدن لكنها بناء الإنسان». هؤلاء «المسئولون» لم يبنوا مدناً، وإنما دمّروا الإنسان في مجتمعاتهم! بل إنهم شوهوا ما بقي من جمال في مدنهم بفعل مشاريعهم العشوائية وجشعهم في استغلال القليل المتاح من الأراضي في مضاربات عقارية جشعة، حتى صارت «مدنهم» عشوائيات كبرى تغرق في رشة مطر!

الحضارة تأتي في بناء الإنسان. هذا صحيح. لكن الحضارة أيضاً يمكن أن تكون ماثلةً في بناء المدن. فالمدينة العصرية، التي تحكمها القوانين والأنظمة الصريحة، التي تطبق على الكبير قبل الصغير، وتمنع استغلال مواقع الحدائق من قبل أهل النفوذ العقاري والسياسي، وترصف الشوارع الأنيقة وتؤمن وسائل الترفيه والسلامة، تسهم أيضاً في صناعة الإنسان الحضاري.

الإنسان ابن بيئته، والمدينة التي تهيئ بيئة حضارية صحية منظمة لابد أن تؤثر في إنسانها، مقيماً كان أم زائراً. فالمدينة التي تعنى ببناء الحدائق كعنايتها ببناء الأسواق ودور السينما، تعطي العائلة فرصة ثمينة لمشاركة أطفالها أجمل ذكريات الطفولة. والمدينة التي تفتح دور السينما الراقية والمحترمة، تعطي إنسانها فرصة الاطلاع على أحدث الأفلام وتجديد نمط الحياة العائلية قبل أن يصيبها الملل والروتين.

المدينة الحضارية تبني الإنسان الحضاري. إنها تتيح له خدمات وأساليب حياة تؤثر على علاقته بنفسه وبأهله وبأصدقائه. وهي أيضاً تهيئ له أن يكون إنساناً منتجاً مثمراً فاعلاً في وظيفته أو تجارته أو مجالات إبداعه. وهي أيضاً تستقطب المؤهلين من كل زوايا الكون فيثرون المدينة بالحياة والتجارب والتنوع.

لقد سئمنا من تلك المقولة التي يرددها على مسامعنا من لم يبنِ مدينة ولا إنساناً. إنك حينما تبني طريقاً واسعة ونظيفة وأمينة إنما تسهم في بناء إنسان يتعلم من تلك الطريق ويستخدمها فيما يفيده ويفيد مجتمعه. كم من الوقت يهدر في شوارع مدن عربية تكتظ بكل أشكال الزحام؟ وكم من الأرواح أزهقت في «طرق الموت» في تلك المدن والأرياف التي يردد مسئولوها دائماً «بناء الإنسان قبل بناء المدن»؟! إن المدينة الفوضوية تعلم ساكنها الفوضى، والمدينة المنظمة تفرض على ساكنها النظام!

أن تعيش في مدينة منظمة وحضارية؛ فأنت تعيش في مدينة تطيل العمر ولا تهدره بتلوثها وفوضويتها. وحينما تهيئ المدينة لاستقبال الزائرين من أصحاب الأعمال والسياح فأنت تدعم اقتصادك الوطني وترسم صورة حضارية لإنسان مدينتك الذي سيدرك مع الوقت أهمية التعامل الحضاري مع زوار مدينته، لأنهم يسهمون في حراكها الاقتصادي والتنموي.

المفرح في الأمر أن لدينا في الخليج ثلاث مدن تستحق أن تكون نماذج للمدينة التي تليق بتجربتنا الاقتصادية والتنموية. في أبو ظبي – مثلاً – مشاريع بيئية مبهرة تعنى بقياس التلوث في الهواء وتجرب أساليب جديدة لزرع مساحات خضراء في شوارعها تستهلك القليل من المياه كما تفعل هيئة البيئة اليوم في شارع السعادة وأمثلة أخرى.

في أكثر من رحلة خارجية، قابلت أسراً من أوروبا ومن أميركا تخبرني أنها قدمت يوماً لأبو ظبي من أجل قضاء أيام مع أطفالها في «عالم فراري» وجزر أبو ظبي الجميلة. وفي الدوحة لا تكاد تنام المدينة من زحمة المشاريع والمؤتمرات والفعاليات الجديدة. أما في دبي فأنت تعرف أنها سباقة في إبداعاتها وأناقتها وحيويتها.

هذه المدن الثلاث نماذج للمدينة العصرية في محيطنا التي أسهمت بأشكال كثيرة في بناء الإنسان، مقيماً كان أم زائراً، بناءً حضاريّاً وإنسانيّاً من خلال ما تقدمه من فعاليات وبرامج ترفيه وفرص خلاقة للتعليم والاستثمار وبناء الذات. وحينما نشيد بمثل هذه التجارب في محيطنا؛ فإننا لا نضعها في مصاف «المدينة الفاضلة»، إذ لكل تجربة نواقصها وظروفها لكننا نضرب بها مثلاً على ما يمكن للمدينة أن تقدمه إلى أهلها وزوارها.

أستغرب أحياناً من غيرة البعض في منطقتنا من هذه التجارب الخليجية العربية الناجحة. فلماذا هذه الحساسية تجاه أي ثناء على مدننا المبهرة كالدوحة وأبوظبي ودبي؟ ألم تهيئ هذه المدن – وخصوصاً دبي وأبو ظبي – بديلاً سياحيّاً راقياً وأميناً للعوائل الخليجية في إجازاتها بعد أن سدت أمامها الطرق نحو وجهات الصيف التقليدية؟ ولم لا تكمل مدننا بعضها بعضاً؟

ثقافة المدينة يصنعها إنسانها، لكنه لا يصنعها من فراغ. إنه يبني تلك الثقافة عبر قوانين مدينته وأنظمتها وخدماتها ونمط حياتها. إن نهضة المدينة، ثقافية كانت أم اقتصادية، منظومة يسهم في بنائها ما تتيحه المدينة من قوانين وأنظمة وخدمات وما يحدثه ساكنها من حراك ثقافي وحوار فكري وتفاعل اجتماعي.

كفانا خداعاً للنفس! فالمدن أيضاً كائنات حية بإمكاناتها وحراكها الذي جوهره إنسانها. فالإنسان القادر على بناء المدينة المعاصرة قادر أيضاً على صناعة المناخات التي تصنع أجيالاً مؤهلة للتعامل مع عصرها

إقرأ أيضا لـ "سليمان الهتلان"

العدد 3350 - الثلثاء 08 نوفمبر 2011م الموافق 12 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:44 ص

      شكرا إستاذ سليمان

      لما لا تتكاتف الايادي البحرينية الشريفة بمختلف طوائفها من أجل بناء دلمون البحرين التاريخ والحضارة .حفظتكم (جميعا )عناية الرحمن .وأبعد ألله من يريد بث التفرقة بينكم .الذين يملكون المليارات من الدخل القومي وشعوبهم تعيش أسوأ عيشه في دول الخليج العربي ولقد وصلوا إلى أرذل العمر .لا يرحمون بياض شعر مواطنيهم .

اقرأ ايضاً