العدد 3376 - الأحد 04 ديسمبر 2011م الموافق 09 محرم 1433هـ

المعاملات الربوية بين الرأسمالية والإنسانية

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

عند السؤال عن أخلاقية السوق الحرة على النمط الغربي المعاصر، قد لا يحظى بقدر كافٍ من اهتمام المجتمعات العربية والإسلامية، على رغم تشابك العلاقات الدولية، واتساع مساحة المشترك العالمي في ظل طغيان عولمة متصاعدة حولت العالم إلى سوق كبير يسيطر عليه كبار المنتجين.

والسبب يرجع في نظري إلى ابتلاء الثقافة العربية المعاصرة بسلفية ماضوية عنوانها العودة إلى الهوية الأصيلة، فيما يشي جوهرها بحالة انكفائية تأنس إلى الذات وتخشى الاندماج في عصر تتجدد حضارته كل يوم.

لا غرابة إذاً إن قلنا إن الفقه الإسلامي لم يحسم أمره بشأن الموقف من التعاملات المصرفية، حيث يتمسك معظم الفقهاء بالرؤية التقليدية للربا، في مقابل اجتهادات محدودة لا ترى ضيراً في التعامل مع الفائدة التي تفرضها المصارف المعاصرة.

تعزيزاً للرؤية التقليدية نشأت البنوك الإسلامية التي اتسع انتشارها منذ سبعينيات القرن الماضي، حتى بلغت حتى وقت قريب ما يزيد على خمسمئة مصرف، تتوزع على أنحاء المعمورة.

والسؤال، هل يقدم هذا النوع من المصارف حلولاً أخلاقية لمعضلة التعاملات الربوية؟ وهل يمكن أن تكون بديلاً للمصارف المعاصرة، كما يدعو أنصار الاقتصاد الإسلامي؟

للمساعدة في الإجابة عن سؤال بهذا الحجم، يتعين ابتداءً الاقتراب من الفهم الإسلامي للمعاملات الربوية، وأين تتفق وتختلف مع القواعد التي تقوم عليها المصارف المعاصرة، والرأسمالية بشكل عام.


بيـن الربا والفائدة

الربا لغة هو الزيادة، واصطلاحاً هو الزيادة بغير عوض، ويعرف ربا الدين – اتفاقاً - بأنه الزيادة في أصل الدين مقابل الأجل، سواء كانت مشروطة ابتداءً أو محددة عند الاستحقاق للتأجيل في السداد.

والربا بحسب الشيخ محمد شلتوت، أن يكون لرجلٍ دينٌ على آخر فيطالبه به عند حلول أجله، فيقول للآخر: أخر دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، وهو الربا أضعافاً مضاعفة. وهذا الصنيع لا يجري عادةً إلا بين معدم غير واجد وموسر يستغل حاجة الناس، وهو ما لا تقبل إنسانية فاضلة الحكم بإباحته، بحسب شلتوت.

فوق ذلك فإن الربا بهذا المفهوم، يؤدي إلى تجميع المال والسلطة في أيدي طائفة صغيرة من المرابين، ويساهم كذلك في غلاء أسعار السلع بسبب إضافة الربا إلى كلفة الإنتاج، ويؤثر الغلاء على مستوى الاستهلاك، ما يؤدي إلى تفكير المنتجين في تخفيض كلفة الإنتاج عن طريق تخفيض أجور العمال أو الاستغناء عن بعضهم ما يسبب في البطالة مع انخفاض في القوة الشرائية والنشاط الاقتصادي.

غير أن هذا الكلام مردود عليه، فالربا بمفهومه التقليدي انتهى تاريخياً بحلول النظام المصرفي المعاصر، الذي يتيح الفرصة حتى لصغار المدخرين الاستثمار في أموالهم بربح، وأن تكون البنوك هي الواسطة الفعالة بين هؤلاء المدخرين ورجال الأعمال، لكي يساهموا جميعاً في تكوين الرأسمال الوطني. كما أن ارتفاع الأسعار يرجع في الأساس إلى زيادة الطلب على المعروض من السلع والخدمات، وهذا الارتفاع يمكن أن يحدث حتى لو لم تكن هنالك أية فائدة على استعمال رأس المال.

كما أن التعامل اليوم لا يتم بين فرد وفرد وإنما بين فرد ومؤسسة عامة هي البنك، فعائد القرض لا يعود على البنك كفرد ليزداد غنى وثراءً على حساب الفقير، وإنما يعود على المجتمع كله في شكل خدمات متنوعة، إذاً انتفى الغرض الأساسي من تحريم الربا وهو زيادة غنى الغني، وفقر الفقير، لأن الفقير نفسه يستفيد من الأموال التي توظّفها البنوك في المشروعات الاستثمارية.

ومن هذا المنطلق وعلى قاعدة أن الله أراد بالناس اليسر لا العسر أفتى الشيخ محمد عبده بأن الفائدة غير الربا، وأن الربا المحرم ديناً هو الربا المحرم قانوناً والمحسوب جناية. وذهب توفيق صدقي إلى القول إن الربا هو استغلال الغني حاجة الفقير.

إذاً، فلماذا جاءت فكرة البنوك الإسلامية، وهل تمثل تحدياً فعلياً لبقية المصارف؟


طبيعة عمل المصرف الإسلامي

تقوم فكرة البنك الإسلامي على آلية «المشاركة في الربح والخسارة» كبديل لنظام «المداينة بفائدة»، وهو ما يعرف تاريخياً بالمضاربة. عدا ذلك يقوم البنك الإسلامي بكل أساسيات العمل المصرفي الحديث وفقاً لأحدث الطرق والأساليب الفنية لتسهيل التبادل التجاري وتنشيط الاستثمار.

وتأسيساً على حرمة الربا، وعلى مقولة أن «الفائدة هي عين الربا»، يذهب المختص في الاقتصاد الإسلامي عبدالحميد الغزالي إلى القول إن النقود لا تلد في حد ذاتها نقوداً، وهذا – بنظره – من المبادئ الرئيسة لفكرة البنك الإسلامي، موضّحاً أن الأصل في النقود أن يُتاجر بها كأداة في النشاط الاقتصادي، ولا يتاجر فيها كسلعة. وأن العمل هو المصدر الأصيل للكسب، وأن الربح يعد مكافأةً على العمل.

بشيء من التفصيل، يتعامل البنك الإسلامي مع المودعين على أساس «عقد المضاربة»، حيث يكون المودعون «أرباب أموال»، ويكون البنك «مضارباً». والبنك كمضارب يعد وكيلاً، أي أميناً على ما بيده من مال، والفرق بين مجموع الأرباح التي يحصل عليها البنك من مضارباته مع عملائه مستخدمي الأموال، وما يدفعه للمودعين من أرباح وفقاً لعقد المضاربة الذي يحكم علاقته معهم، يمثل «صافي» الربح أو عائد البنك.

لا يبدو في الظاهر أن ثمة ضيراً أخلاقياً ينتج عن هذا النوع من المعاملات، كما لا يبدو أن ثمة فرقاً حقيقياً من الناحية الواقعية بين المصرف الإسلامي وبقية المصارف، ذلك أن المودعين في الأصل ليسوا من ضحايا الربا بمعناه الأشمل، كما أن تعاملاتهم لا تقود إلى استغلال حاجة الآخرين. والشيء المؤكد أن البنوك الإسلامية لم تقدّم حتى الآن حلاً للمشكلة الإنسانية المرتبطة بحاجة المعسر، بحيث لا يقع فريسة استغلال أرباب المال. بل لعلها دخلت دائرة الاستغلال من حيث تدري ولا تدري، فالمودع لدى هذه البنوك يحاول تجنب الربا أخلاقياً، والبنك الإسلامي يقوم على استغلال هذا الدافع، فيحرص على مصلحة البنك أولاً، وإن على حساب المودع ثانياً، في استغلال مزدوج للمودعين الذين عليهم أن يتحملوا أخطاء البنك وتقصيره في إدارة أموالهم، بحجة آلية التعامل الشرعي/الأخلاقي، التي يوفرها لهم.

وبحسب جمال البنا، فإن البنوك الإسلامية قدمت تكنيكاً لتجاوز إشكالية الفائدة، لكنها في المقابل قدمت برجوازية ذكية ذات مهارة في العمل الاقتصادي، لكن أجندتها ليست أخلاقية بالضرورة.


أنسنة الرأسمالية

لا تقتصر المشكلة الأخلاقية في الاقتصاد على أداء المصارف، ما يعني أن البنوك الإسلامية لا تقدّم بالضرورة بديلاً للاقتصاد الرأسمالي، بل إن المجتمع العربي الإسلامي ليس متفاعلاً مع مستجدات ما يمكن تسميته اصطلاحا بـ «أنسنة الرأسمالية». فالجدل الأخلاقي بشأن «السوق الحرة» يتعدى مسألة الفائدة أو الربا بالمفهوم التقليدي، ليشمل مناقشات بشأن مختلف أنواع الاستغلال في المعاملات الاقتصادية، أي الربا الشامل من وجهة نظري، بحسب تعريف توفيق صدقي كما أسلفنا.

لنسلط الضوء بعض الشيء على جانب من المشكلات المعاصرة باقتصاد السوق: في ظل العولمة، كلما زاد تقدم الاتصالات زاد عدد الحالات التي يحتمل أن نرى فيها شركات تقوم في مكان وتدفع الضرائب في مكان آخر أو حتى لا تدفع الضرائب أبداً. كذلك فإن الأقطار التي ترتفع فيها معدلات الضريبة الشخصية تغدو طاردةً للكفاءات والخبرات، ما يجعلها عرضةً لضغط مجتمع التجارة الدولية. لكن في ظل تراجع الدخل الضريبي، فهذا يعني بالمقابل تراجع قدرة الحكومات على تلبية مطالب مواطنيها من الخدمات العامة، ما يعني المزيد من الظلم والإفقار، بينما يزداد الغني غنى، بتهربه عن دفع الضريبة.

هذا التحدي مثلاً فرض على دعاة «الأنسنة» الاتجاه إلى توعية المستهلك بمخاطر التهرب الضريبي. والنتيجة أن أغلبية الجمهور البريطاني في المملكة المتحدة قالت إنها مستعدة لدفع ضرائب بمستويات أعلى لتحسين الخدمات العامة. والسؤال أين يقف المجتمع العربي اليوم من هذا النقاش؟ وهل بإمكان دعاة الاقتصاد الإسلامي الفكاك من قبضة المفاهيم التقليدية في مواجهة معضلات طبيعتها التجدد باستمرار؟

يبقى السؤال معلقاً، وتبقى السوق الحرة وعلى رغم كل عيوبها متفوقةً على كل التنظيمات الاقتصادية الأخرى التي تم تجريبها حتى الآن

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 3376 - الأحد 04 ديسمبر 2011م الموافق 09 محرم 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً