العدد 3390 - الأحد 18 ديسمبر 2011م الموافق 23 محرم 1433هـ

هل البحرين بحاجة إلى «دستور» و«توجيهات سديدة» فقط؟!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هذا المقال يخصّ الدولة. قبله (وبالتوالي) كتبتُ عن حلفاء السلطة ومُواليها، وسأكتبُ لاحقاً عن المعارضة بمختلف مشاربها، واليوم أفرد هذه الأسطر للحديث عن الدولة وسياساتها وممارساتها. وهي جميعها (أي المقالات) تأتي على إيقاع أزمتنا السياسية المستمرة منذ فبراير/ شباط الماضي وحتى الساعة، والتي توجَّب فيها الحديث بطريقة صريحة بالقدر المفيد.

أكثر ما ينفع المعنيين في اتخاذ القرار الرسمي من نصح، هو أن نقول لهم إن قياس عدالة الدولة ونضجها ورشدها يكمن في أمرين اثنين: الأول هو ممارستها للحكم بشكل صحيح، والثاني هو لمعاملتها رعيتها بالعدل. فإذا كان الدِّين يعني المعاملة، فإن السياسة أيضاً هي معاملة. والعدل معاملة، والمساواة معاملة. والمواطنة معاملة. والحرية معاملة، هذه ثابتة.

هنا، يُطرَح السؤال بكل وضوح: لماذا لا تتعافى البحرين من أزمات سياسية داخلية متلاحقة من دون أن تستقر أو تهدأ؟! مضى على هذا الحال أزيد من ثمانين عاماً ونحن من كبوة إلى كبوة. دعونا من شمَّاعة الخارج، التي عادة ما تكون أسهل الحلول لكل الأنظمة. فـ عبد الناصر كان متهَّماً في الخمسينيات والستينيات بدعم قوميي البحرين، والاتحاد السوفياتي في السبعينيات بدعم يسارييها، وإيران في الثمانينيات ولغاية اليوم بدعم الدينيين. إذاً، الموضوع في حقيقته خارج عن هذا المنسوب، وبالتالي فنحن نتكلم عن مشكل داخلي متجذر.

باعتقادي أن أكبر مشكلة واجهتها وتواجهها البحرين كدولة تكمن في كلمتين، هما «المواطنة» و «صَوْن الحقوق». فالبحرين ليست بحاجة إلى تقريرات وتدوينات ومواد دستورية تتحدث عن حقوق المواطنين بالسواء، وحملات علاقات عامة تنادي بضرورة الاعتناء بالمواطن البحريني ومستقبله والسهر على راحته، وتوجيه الأجهزة التنفيذية للاهتمام بطلبات الناس. هذه الأمور كلها آمال لا تنفع، والأمل هو إفطار جيد، لكنه عشاء سيء كما قيل قبلاً.

سأعطيكم مثالاً حياً على ما أقول. لاحظوا جيداً. مَنْ يقرأ الدستور العراقي اليوم سيصاب بالدهشة والانتشاء من كثرة ما يحتويه من مواد دستورية تحض على حماية حقوق المواطن العراقي وصون كرامته، وتوفير الأمن له، والعيش الرغيد لكن الواقع يقول، إن العراقي لا يجد ماءً صالحاً للشرب عندما يحتاجه، في حين أن البريطانيين، لا يوجد لديهم دستور مكتوب، لكن المواطن في بريطانيا يتمتع بحقوق، لا يتمتع بها مليون عراقي، وهنا تكمن العقدة.

ما نعنيه من ذلك المثال، هو أن القضية ليست في الشعارات، ولا في الدساتير (على رغم أهميتها كوثيقة ناظمة للحقوق) وإنما القضية المحورية هي في القرارات التنفيذية الفاعلة التي تطبِّق تلك المواد الدستورية، هذه هي العِلَّة لا أكثر من ذلك ولا أقل. فالقوانين الجيدة تؤدي لخلق قوانين أفضل، والقوانين السيئة تؤدي إلى قوانين أسوأ، مثلما قال جان جاك روسو.

عندما تم نبذ النظام العنصري في جنوب إفريقيا، والتحول إلى نظام المساواة في الحقوق، لم يكن ذلك النبذ نظرياً فقط، يُسطَّر على قراطيس الدستور، أو تردده جوقة من المسئولين والآلة الإعلامية الرسمية، بل تحوّل الأمر إلى عمل وفعل على الأرض يلمسه الجميع. اليوم هناك محكمة في جنوب إفريقيا تسمى «محكمة المساواة ضد الممارسات العنصرية» لردع كل من يمارسها. وقبل أيام أجبرت هذه المحكمة منتجعاً سياحياً هو منتجع «بروستورم فاكنايس أورد» بتعويض اثنين من الأطفال السود كانا ضحية حادث عنصري، وإلزامه بنشر اعتذار عَلنِي عن سلوكه العنصري، وأن يدفع مبلغاً وقدره 10 آلاف راند للطفليْن الأسْوَديْن.

وعلى رغم أن اعتذار المنتجع العلني بقوله: «إن حادثاً عنصرياً مؤسفاً، سبَّب إهانة لطفلين صغيرين، وإننا هنا نقدم اعتذارنا غير المشروط للضحيتين وأسرهما وأصدقائهما» ودفعه الغرامة لهما، إلاَّ أن الحال لا ينتهي بذلك فقط، وإنما هناك لجنة رسمية تسمى «لجنة حقوق الإنسان» ستقوم بمراقبة التنفيذ وسياسة المنتجع. هذا ما أقصده بالقرارات التنفيذية. اليوم جنوب إفريقيا تعتقل وتحاكم الجنرال «الأبيض» جيدون نيوودت لتورطه بقتل مواطنه «الأسوَد» ستيف بيكو العام 1985 وترفض لجنة الحقيقة والمصالحة منحه الحصانة، الأمر الذي جعله معرضاً للمحاكمة هو وزملائه.

واليوم، تصدر المحكمة العليا في جنوب إفريقيا حكماً بالسجن مدى الحياة ولثلاث مرات، على دي ويت كيتيجينزر، بتهمة قتله ثلاثة من مواطنيه السود. واليوم أيضاً، تضَمَّن جميع التصرفات العنصرية وبشكل شخصي في القوانين المعمول بها. واليوم تؤبِّن جنوب إفريقيا رسمياً ضحايا العنصرية، في حفل مهيب، يحضره قضاة ومسئولون في الدولة والمجتمع، ويقدم فيه أصحاب الضحايا والمفقودين شهاداتهم علناً. هذه الإجراءات، وهذه القوانين، الرديفة والداعمة للدستور هي التي تستطيع أن تقنع الناس، أن هناك حقوقاً دستورية لهم، وأن المواطنين متساوون في الامتيازات، والخدمات الحكومية، من وظائف وخلافها.

أكبر مشكلة تواجه البحرين اليوم، هي في وضع مثل هذه القرارات التنفيذية، التي تلزم الجميع، بعدم التمييز، في الوظائف والامتيازات والعطاءات والخدمات، والأهم من ذلك، في الحقوق السياسية المنصفة، والتمثيل النيابي والبلدي العادل. بل الأحرى، بها (مثلها مثل بعض الدول) إذا أرادت أن تحل كل هذه الإشكالات، أن تنشئ في كل وزارة ومؤسسة حكومية، وشركة وقطاع، لجاناً قانونية تكنوقراطية، وذات تمثيل واسع، مهمتها الأساسية مراقبة تنفيذ العدالة السياسية والاجتماعية والأمنية والإعلامية، في الوظائف والطلبات وغيرها.

نقولها للأسف، إن من أكبر الأسباب التي فاقمت الوضع في البحرين، حتى انفجر في فبراير الماضي (فضلاً عن إشكاليات التنفيذ) هو تأجيل المؤجل وتعليق المعلق، مع تدوير للملفات من دون حسم. اختلِف على دستور العام 2002 فاختنقت البلد بالمشكلات، والتي نعيش تبعاتها إلى اليوم لكن لم تحلحل المشكلة. جاء التقرير المثير في سبتمبر/ أيلول من العام 2006 بكل ما فيه من مخاوف وشبهات ولم يحصل شيء عملي لمعالجته، بل حتى اللجنة التي اقترحتها المعارضة في مجلس النواب للتحقيق في التمييز الوظيفي تم إجهاضها. واليوم ومع الأسف، وبعد استعار هذه الأزمة السياسية والاجتماعية العاصفة طيلة ثمانية أشهر، مازال الحديث عن «تشطيبات» في الملف الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي فقط، في حين يتم تجاهل الملف السياسي الذي هو مدخل الأزمة كلها. بل إن كل التسويات حتى وإن تمت من دون أن يُبَت في هذا الملف، فلن يحدث تغيير أبداً, و «كأنك يا بوزيد ما غزيت».

أقصى ما نتمناه لهذا الوطن الحبيب، هو أن يُستَمَع لمثل هذا القول، أياً كان مصدره. فإذا كانت المسئولية وطنية، فإن تلك المسئولية تحتم على الجميع الإدلاء برأيه. وعلى الراعي أن يكون في موقع النظر والملاحظة. فالحكم نتيجة الحكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حكم له، ومن لا معرفة له لا علم له، كما قال الفقيه الأندلسي ابن عربي

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3390 - الأحد 18 ديسمبر 2011م الموافق 23 محرم 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 1:32 ص

      المواعظ حياة القلوب

      أشيد يمقالاتك الرائعة فحقا من لاحكمة له لا حكم له

    • زائر 5 | 1:20 ص

      nice

      nice artical

    • زائر 3 | 12:20 ص

      على المقال

      مقال في غاية الروعة
      شكرا لك على هذه المقالات

    • زائر 2 | 12:12 ص

      سنة الحياة حتمية التغيير

      الى الاخ الكاتب الكبير محمد انني اختلف معاك ولا اعتقد بان التنفيد سيحل المشكلة بدون تغير الانفس فكل مشاكلنا وازماتنا هي نفسية تنبع من داخل هذه النفس ، فكل هذه السنين لم تغير شيئا ليس بسبب عدم التنفيد بل لايمكن التنفيد وهناك نفسيات انانية لاترضى ولا تقتنع بما يوجد لديها من ثروة ومال وجاه بل لاترضى حتى بالفتات للاخرين فهذه النفس تحوي من الانانية وحب التملك المبالغ فيه بالاضافة الى نفسيتها التي لاتؤمن بحتمية التغير في هذا الكون ولذلك هي قد تبطئ في سيرورة التغير ولكن لايمكن ان تلغيه

    • زائر 1 | 11:45 م

      مقال يستحق القراءة...و أعادة القراءة

      كلامك جميل جدا...
      المشكلة تكمن في صناعة الانسان...كما قلت...المشكلة ليس في دستور مكتوب...بل في صناعة انسان ذو دستور...

اقرأ ايضاً