العدد 3401 - الخميس 29 ديسمبر 2011م الموافق 04 صفر 1433هـ

العروبة الجديدة

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

القول بتاريخية الفكر، يعني أن الفكر، شأن معظم الأشياء، خاضع لقانون الحركة والتعاقب. إنه سلسلة مترابطة، ومتصلة تختلف حلقاتها في حجومها، وأدائها، وطبيعة استجابتها لما يجري من حولها. والعروبة، كمنظومة من الأفكار السياسية التي ترنو إلى تحقيق وحدة الأمة العربية، ليست استثناء من هذا القانون.

لا يهدف هذا الحديث إلى متابعة تطور فكرة العروبة، والمنعطفات التي مرت بها. فذلك يحتاج إلى الكثير من القراءة والتحليل، بما هو فوق طاقته. وما نتطلع إليه هو أن نتناول الحاضر، وأن نقف عند ما أصبح متعارفاً عليه بـ «الربيع العربي»، هذا المنعطف من التاريخ، حيث تشهد بلداننا العربية أحداثاً كبرى، غير مسبوقة. تسقط أنظمة سياسية وتنهار كيانات وطنية، وتتسلم السلطة في تونس ومصر وليبيا، قوى سياسية معارضة، كانت حتى الأمس القريب تعيش في المنافي والمعتقلات.

أسئلة عدة نطرحها في هذا السياق، ونسعى في هذا الحديث، وأحاديث أخرى مقبلة إلى الإجابة عنها: أين تقف فكرة العروبة الآن؟ وهل حان طي صفحتها؟ وإذا سلمنا بأنها كفكرة خاضعة، كغيرها من الأفكار، للحركة والتعاقب؛ فأين نضعها في سياق الأحداث التي تجري؟ وما المهام المطلوبة للنهوض بها؟

هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة، لا يمكن تناولها، من دون وعي الظروف والحوادث والقوانين التي حكمت مسار «العروبة»، كاتجاهات فكرية وكحركة أو حركات سياسية. فقد كانت دائماً رهينة للتوترات التي شهدتها الأمة العربية، في مراحل الانتقال التاريخي.

مرت فكرة العروبة، بمراحل عدة، منذ انطلاقتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتأثرت بما يجري حولها من تفاعلات وتجاذبات. ولم تقف بعيدة عن التيارات الإنسانية: الفكرية والسياسية الوافدة، بل تلاحقت معها وأخذت منها الكثير. وربما لا نجانب الصواب حين نؤكد أنها أحد التعابير عن تفاعل منطقتنا مع سمة طبعت التاريخ الأوروبي المعاصر، تمثلت في بروز عصر القوميات، ونشوء الأمم الحديثة على مرتكزات قومية. تأثرت فكرة العروبة أيضاً، بالثورات الاجتماعية الكبرى، وبشكل خاص الثورتين الانجليزية والفرنسية، وبحركة الإصلاح الديني لمارتن لوثر وكالفن، وأخذت عنهما فكرة الحرية والعدل والمساواة، وسيادة دولة القانون، والفصل بين السلطات.

لكن بروز فكرة العروبة، لم يكن نتاج تفاعلات مع تحولات إنسانية فقط، بل كان أيضاً استجابة لواقع موضوعي، تمثل في صيغة رد فعل غاضب على النهج العنصري، الذي مارسه الأتراك بحق العرب، أثناء خضوعهم للسلطنة العثمانية، وخاصة إصلاحات التنظيمات الإدارية العام 1839م، وتوجهات حركة تركيا الفتاة التجديدية، في العام نفسه، والتي كان من نتائجها خلق نزوع شوفيني تركي معادٍ للتقاليد الدينية الإسلامية.

يلاحظ هنا، أن القوميين، ركزوا في البداية على استقلال البلدان العربية من الحكم العثماني، وأكدوا أهمية الوقفة العربية، في مواجهة الذوبان والاضطهاد العنصريين. والتركيز على بعث التراث العربي، من دون وضع برنامج عملي لوضع هذه الشعارات موضع التنفيذ. ولم يصاحب هذا التحرك أي مضامين اجتماعية.

وحتى حين دعت حركة اليقظة العربية، إلى تحقيق الوحدة العربية، كما حدث في مؤتمرها الذي عقد في باريس، لم تخرج شعاراتها عن حيز العموميات، ولم تصل إلى حد صياغة استراتيجية واضحة، وبرنامج عملي لتحقيق أهدافها. لقد رسمت الاستراتيجيات والتكتيكات اعتماداً على حسن نيات الحلفاء البريطانيين. لم يتعدَّ مشروع النهضة الدعوة إلى الرجوع إلى التراث والتاريخ؟

لقد جرى الاعتماد في تحقيق أهداف حركة الانبعاث القومي، بالدرجة الأولى على المتغيرات السياسية الدولية، وعلى الصراعات الدائرة آنذاك بين الدول الأوروبية الفتية، والرجل المريض في الأستانة. ونتيجة لذلك، لم يحمل مشروع التحرر من الهيمنة العثمانية برنامجاً للنهوض الاجتماعي والحضاري. ولم يتضمن أي تصور عن المجابهة المحتملة مع الفرنسيين والبريطانيين بعد إنجاز الهزيمة بالأتراك.

وحين تكشف الغدر البريطاني، واتضحت حقيقة اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور لزعماء النهضة، ترك الحدثان بصمات ثقيلة، ليس فقط على مسار «العروبة»، كحركة سياسية، ولكن أيضاً على طريقة تفكيرها وتفسيرها للواقع العربي. فمقص التجزئة الذي لعب دوراً مأساوياً في تقسيم المشرق العربي، وبشكل خاص في بلاد الشام، أدى إلى أن يكون الموقف العروبي من الدولة الوطنية، موقفاً عدائيّاً. ومنذ الاحتلال البريطاني - الفرنسي للمشرق العربي، بعد الحرب الكونية الأولى، أصبح العداء العروبي موجهاً للدولة الوطنية، وغدت التجزئة سبباً لكل الأمراض التي تحيق بالواقع العربي، بما في ذلك النزعات الطائفية والقبلية والعشائرية والجهوية ...وأصبحت في القاموس القومي «دولة قطرية». مع أن مقص التجزئة البريطاني لم يشمل، بشكل واضح وجلي سوى المشرق العربي.

بقيت الدولة الوطنية، في مصر والجزائر وتونس، قائمة كما كانت لآلاف السنين، لم يمسسها مقص المستعمر. وكان بإمكان العروبيين أن ينطلقوا، في مشروعهم الحضاري من الدولة الوطنية إلى الحالة الأعلى، بدلاً من القفز على الواقع الموضوعي. وهم بهذا الطرح قد أعفوا أنفسهم، من معالجة القضايا المحلية، وخلق الجسد الصحيح، الذي هو الشرط اللازم للتفاعل والتكامل والتنسيق بين هذه البلدان، كمقدمة لازمة لقيام وحدة عربية بين أجزاء صحيحة.

وكانت النظرة السلبية للدولة الوطنية، هذه أول معضلة واجهها الفكر العروبي، منذ نهاية الحرب الكونية الأولى، واستمرت معه حتى يومنا هذا.

في المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الأولى، وقعت معظم البلدان العربية، تحت هيمنة الاستعمار الغربي، وكانت أهم خصائصه، عمله على تغيير البُنى الاجتماعية للبلد المحتل، لمصلحة دولة المركز. والتعامل مع الشعوب تعاملاً استعلائيّاً، لا يرى في ثقافة البلدان المحتلة سوى الانحطاط والتأخر والهمجية. وهو فوق ذلك، احتلال غريب ومتغطرس. وهو احتلال ثقافي يعمل المحتل فيه على قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها كله، ثم لا يصل إليها بعد ذلك سوى النزر اليسير.

أدى هذا الواقع المأساوي إلى أن تصبح العروبة رهينة لهذا الواقع البائس، وأن تتأثر أفكارها وأطروحاتها وبرامجها بحالة الارتباك وفقدان التوازن الذي طبع تلك المرحلة. كيف حدث ذلك وما هي إسقاطات تلك المرحلة على فكرة العروبة، ذلك ما ستكون لنا معه وقفة في الحديث المقبل

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 3401 - الخميس 29 ديسمبر 2011م الموافق 04 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً