العدد 3410 - السبت 07 يناير 2012م الموافق 13 صفر 1433هـ

نظرة على عام مضى... ماذا بعد الربيع؟ (2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

يظهر التحليل العلمي وجود قوى خاسرة وأخرى رابحة من مرحلة الربيع العربي وفي مقدمتها نجد أن الخاسر الأول هي الدول ذات النظم الجمهورية التي حدثت فيها هذه الثورات وترجع أسباب الخسارة إلى ما قام به الطغاة السابقين من تدمير وإضعاف لهذه الدول وبنيتها الأساسية وعناصر قوتها الشاملة وتبديد مواردها وتسخيرها لمصالح شخصية وإلى ضعف الرؤية الإستراتيجية.

الخاسر الثاني القوى الجديدة والأحزاب التقليدية وخاصة القوي الليبرالية والقومية واليسارية التي لعبت دوراً رئيسياً في إشعال فتيل هذه الثورات عبر الإنترنت والفضاء الإلكتروني والعالم الفضاء الافتراضي ولكنها افتقرت للقدرات التنظيمية والهياكل الحزبية ولم تدرك تلك القوى الفارق الجوهري بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي بل الأنكى أن تتحالف قوي ليبرالية ويسارية مع قوى ذات توجهات دينية وطائفية وهذا لا يعيب القوي الدينية بقدر من يعيب القوى اليسارية والليبرالية لأنه يكشف زيف ليبراليتها ويساريتها وانتهازيتها لأن الاتجاهين نقيضان من الناحية الفكرية والفلسفية وتحالفهما يعني الانتهازية.

الخاسر الثالث هو روح التسامح والاعتدال والعقلانية، فإن القوى الجديدة التي استطاعت الحصول على الأصوات بعضها مازال يعيش أحلام الماضي والعصر الذهبي الإسلامي ولا يدرك حقيقة المتغيرات العالمية وبعضها يفكر بمنطق لاهوتي وإن صندوق الاقتراع مرة أولى وأخيرة وهذا سيؤدي بنا إلى نوع جديد من الاستبداد السياسي والديني والطائفي وهو أسوأ أنواع الاستبداد لأنه سيكون من الصعب التخلص منه لما يدعيه من قدسية ومرجعية دينية يصعب إقناع جماهير مازالت تعاني من الشخصية التقليدية والمحافظة الثقافية والإيمان الديني المتغلغل في النفس العربية وهو إيمان قائم على البساطة والنقاء ولا يعرف المراوغة السياسية ونفاق الكثيرين من رجال السياسة وأذنابهم.

الخاسر الرابع هو جماعات الأقليات الدينية والطائفية والعرقية ولهذا لا عجب أن نراهم يهربون أو يرتجفون ما يتوقع أن ينتظرهم من توجهات دينية ولهم في تجربة النظام الإسلامي في إيران وتجربة السودان وتجربة العراق وغيرها تاريخاً يجعلهم يتوجسون خيفة من الاتجاهات الإسلامية المتوقعة كذلك من فتاوي بعض من ينتسبون إلى الإسلام، وهم في الواقع يشوهون الإسلام مبادئه وتسامحه واعتداله.

الخاسر الخامس هو وحدة الأوطان وتماسك الشعوب والهويات الوطنية لبعض تلك الدول في المنطقة نتيجة العوامل الطائفية والدينية والعرقية والتدخلات الإقليمية والدولية ولنا في تجربة السودان خير شاهد ولكنها لا يتوقع أمن الأخيرة في هذا الصدد.

ونتساءل ما هي القوي التي كسبت من الربيع العربي؟

وفي تقديري أن الكاسب الأول هي الولايات المتحدة والدول الأوروبية رغم ما يبدو من خسارتها الشكلية المؤقتة فهي استطاعت تحقيق فلسفتها في زوال نظم انتهت فاعليتها وصلاحيتها ودورها بأقل قدر ممكن من الخسائر وهذا هو الأسلوب الذكي الناعم للحزب الديمقراطي الأميركي مقارنة بالأسلوب الفظ للحزب الجمهوري في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش الابن أنه أسلوب يعتمد الدهاء المستمد من فلسفة السياسة البريطانية التقليدية فرق تسد وشتت الخصوم والأعداء يخلو لك الجو للسيطرة وهذا ما حدث من إذكاء الصراعات الطائفية والعرقية والدينية في العراق أو سورية أو لبنان أو مصر أو ليبيا أو اليمن وربنا يستر على تونس الكاسب الثاني هو إسرائيل بإضعاف أية قوة ولو كانت تقاومها شكلياً بالشعارات أو بمجرد بوجودها لاحتمال أن تعمل ضدها مستقبلاً ولهذا كثرت التحليلات السياسية الإسرائيلية والمتابعة من مراكز الأبحاث الإسرائيلية ومن السياسيين والرسميين وهم مبتهجون وأن أبدوا نوعاً من الحياء المتصنع بالحديث عن القلق والخوف من صعود التيارات الإسلامية وهو قلق مشروع ولكنه في مبالغ فيه ولكنه مشروع من الناحية العلمية والإستراتيجية لأسباب لا تحتاج لتوضيح.

الكاسب الثالث هو دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي زادت صلابتها وتماسكها ودورها على الساحة الخليجية والعربية والدولية وبروز دورها في ليبيا وسورية واليمن وبدورها في قرار القمة الأخير في الانتقال من التعاون للاتحاد وهذا انتقال يحتاج إلى دراسة ووقت للتنفيذ ولكنه يمثل حتى من حيث المبدأ قوة مضافة لمجلس التعاون ووحدة شعوبه ودول من ناحية، ومن ناحية ثانية أثبتت دول مجلس التعاون أن منهجها في الإصلاح المعتدل والتدريجي أكثر صدقية وأمناً وسلاماً من الفوران الثوري الذي عاشته بعض دول المنطقة من ثورات الخمسينيات في القرن الماضي إلى ثورات العام 2011 ومن ناحية ثالثة شعرت هذه الدول بالخطر يقترب منها فزاد تماسكها ومن ناحية للدفاع عن أمنها ووحدتها ومصالحها.

الكاسب الرابع هو إيران ومشروعها للمنطقة العربية فأي ضعف عربي استراتيجي هو مكسب استراتيجي إيراني ونحن نقول ذلك بعيداً عن المشاعر وبغض النظر عن الشعارات الإسلامية أو الطائفية فالأمن الوطني للدول لا علاقة له بالمفاهيم الدينية أو الطائفية وإنما هو يرتبط بعناصر القوة الشاملة من ناحية وبالهوية الوطنية من ناحية أخرى وهنا نستذكر أن إيران طرحت منذ ثمانينيات القرن الماضي في قمة عدم الانحياز العام 1983 في نيودلهي بالهند مفهوم أمن دول عدم الانحياز كما كررت ذلك في قمة المؤتمر الإسلامي ورفض ذلك بكل قوة من الدول الإسلامية قبل الدول غير الإسلامية التي كان من المنطقي أن ترفض، كما إن الجماهير والنخب المثقفة الواعية تدرك أن مفهوماً روج له البعض بحسن نية أو بخبث بوجود قنبلة نووية إسلامية عندما فجرت باكستان قنبلتها وتصور البعض من الجماهير والمثقفين العرب إمكان استخدامها ضد إسرائيل وسرعان ما صب الباكستانيون الماء المثلج على هذه الأطروحة التي تنخدع بها الجماهير العربية وأحياناً بعض النخب العربية المثقفة موضحين بأن القنبلة النووية الباكستانية لن تستخدم إلا في الأمن الباكستاني المباشر وهذا ما فعله الاتحاد السوفياتي السابق في مطلع الستينيات من القرن الماضي وأدى للخلاف الصيني السوفياتي وما فعلته الصين نفسها بعد ذلك عندما حصلت على السلاح النووي بل في تصويتها في مجلس الأمن الدولي بعد أن استعادت مقعدها لا يستخدم الفيتو إلا للمصلحة الأمنية الصينية المباشرة.

وأتمنى أن يكون استذكار مثل هذه الوقائع عبرة للمثقفين وللجماهير العربية التي تعيش أوهام وجود قنبلة نووية إيرانية لمصلحة الإسلام أو لمصلحة القضية الفلسطينية محتملة إنها نوع من أحلام اليقظة والسذاجة السياسية، إن مثل هذه القنبلة إذا توصلت إليها إيران لن تكون إلا لمصحة الأمن الوطني الإيراني وحسب.

الكاسب الخامس هو تركيا بتمددها السياسي والفكري والثقافي وربما الاقتصادي في المنطقة العربية وقيادتها ما يسمي بتيار الاعتدال الإسلامي رغم الاختلاف الفكري ورغم التاريخ العثماني المشوب بالتساؤلات الكثيرة في المنطقة العربية.

من هذا التحليل نقول لعله يدعو المتخصصين إلى ضرورة مراجعة الفكر السياسي والتطور السياسي في الدول المختلفة وتاريخ التجارب والتطور السياسي وهو ما يدفعنا للتأكيد علي أهمية مراكز البحث والفكر التي تدرس وتحلل بعمق وموضوعية بعيداً عن السياسة وبأعصاب هادئة بعيداً عن المواقف السياسية المسبقة أو الاتجاهات الإيديولوجية الجامدة ونقول لكل أصحاب الأمر والنهي بأن يعطوا مراكز الأبحاث فرصة للاستفادة منها ولبنائها على أسس علمية سليمة وأن يتم تطوريها بفكر عربي ووطني مع خلطة دولية لا أن تتحول مراكز الأبحاث لدى بعض دول عربية إلى ما يشبه الوجبة الساخنة المستوردة أو إلى سيارة مستوردة من الدول الأجنبية على أحدث طراز ويعتقد من يقودها أو يركبها أنه حقق التقدم كما نقول للمفكرين والناشطين السياسيين لابد أن تأخذوا في الحسبان الظروف المحلية والإقليمية.

كما نقول للنخب المثقفة والسياسية في أقطارنا العربية إنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه ولكنه عليهم الإيمان بثلاثة أمور أولها أن التغير يجب أن ينبع من الداخل وليس الخارج الثاني أن العالم الافتراضي يختلف عن العالم الواقعي للدول وعلى النخب المتعلمة أن تدرس وتعيش الواقع وليس فقط الحياة في العالم الافتراضي ولعل إخفاق الأحزاب النخبوية والشبابية في الحصول على مقاعد في الانتخابات في مصر خير دليل على ذلك. والثالث أن دراسة التاريخ الوطني والظروف الوطنية الموضوعية للثورات أو الحراك السياسي وبلورة المناهج الوطنية ضرورة أساسية في التغيير وأن ذلك أكثر فعالية من النماذج المستوردة أو التحريض الخارجي أو الإعلام الخارجي والدعاية الأجنبية ودعاة نشر الديمقراطية من مراكز أجنبية مرتبطة بأحزابها الأجنبية وبأجندة بلادها وتقدم تمويلاً لمؤسسات وطنية من أجل نشر فكرها والارتباط بها بأساليب ملتوية والشيء نفسه نقوله بالنسبة لأية دولة جوار، فلكل دولة تجربتها وخصوصيتها مهما كان من تشابه فلكل بلد ظروفها وأعجبني كثيراً الإخوة التونسيين سواء في مرحلة ثورتهم أو في حكومتهم الجديدة التي أعلن رئيسها أنهم لا يفكرون في تصدير ثورتهم ولا ينصحون أحداً بتقليدهم وعلى كل دولة بناء تجربتها ونموذجها بما يتلاءم مع ظروفها. وهذا ما تردده الصين منذ ثورة الإصلاح والانفتاح.

بخلاف موقف الصين في عهد ماوتسي تونج وبخلاف الموقف الأميركي والأوروبي الحالي الذي يتحدث عن حقوق الإنسان وينتهكها في الخارج، ولعل نموذج القمع الفكري في منع فرنسا أي مناقشة لمقولة إبادة الأرمن وقبلها مقولة الست مليون يهودي الذين ماتوا في المحرقة ونحن لا نقول بالرفض أو الإيجاب ولكن نقول دعوا المؤرخين والباحثين ينقبوا في الوثائق ويقدموا لنا ما يرونه وحتى إسرائيل أصبحت أكثر حرية من السياسيين الخائفين في أوروبا فقد ظهر فيها ما يعرف بالمؤرخين الجدد الذين جادلوا في أعمال إسرائيل وقتلهم للفلسطينيين عند قيامها ودعواها بأن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، واليهود هم شعب بلا أرض ومن العجب أن مثل هذه الأطروحات الفاسدة والخاطئة علمياً وتاريخياً يرددها مرشح أميركي طامح للرئاسة عن الحزب الجمهوري والذي أشار إلى أن الشعب الفلسطيني، هو موضوع مخترع وليس له أساس تاريخي والحمد لله أن هذا الساعي للترشح أخفق منذ البداية حتى في الولاية التي ينتمي إليها ولم يحصل على تأييد 30 ألف صوت لمساندته للتنافس للترشح في إطار حزبه.

وأخيراً نقول إن المنهج الواقعي في التطور السياسي البريطاني ربما هو أكثر صدقية من منهج الثورة الفرنسية التي عاش من خلالها الشعب الفرنسي نحو مئة عام في تجارب بين النظم السياسية المختلفة. ولعل ذلك كله هو بعض التأملات من متابعة مداولات ومناقشات مؤتمر مؤسسة الفكر العربي ننقلها للقارئ الكريم مع مطلع العام الميلادي الجديد

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3410 - السبت 07 يناير 2012م الموافق 13 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً